01‏/12‏/2010

شاعر يكتب الرواية


بهاء جاهين
محمد أبو زيد شاعر شاب من مواليد‏1980,‏ صدرت له خمسة دواوين‏,‏ وها هو ينشر‏-‏ عن دار شرقيات‏-‏ رواية بعنوان أثر النبي‏.‏ الرواية لاتختلف كثيرا عن معظم أعمال المبدعين الشبان‏,‏ حيث العالم الضيق‏,‏ والسيرة شبه الذاتية‏,‏ وشوارع ومقاهي وسط البلد‏,‏ حيث يجتمعون مع رفاقهم من الكتاب‏. ,‏ ويسكنون هذا العالم الصغير عوضا عن الريف الذي نزحوا منه .
لكن أبو زيد أضاف الي هذا العالم اتساعا وجدة‏,‏ حين تحدث عن بيت للطلبة الأزهريين بالغورية‏,‏ أقام فيه بقدرة قادر‏,‏ ومساعدة أصدقاء‏,‏ وهو الطالب بتجارة عين شمس‏,‏ وشقته المظلمة الضيقة بدار السلام حيث اقام في سنته الأولي بالجامعة‏.‏
وبطل الرواية‏-‏ وهو الشاعر لكن ليس بالضبط‏-‏ من المشائين‏,‏ الطوافين في شوارع القاهرة‏,‏ حبا لها وافتقارا لقروش الميكروباص‏,‏ جعلته الغربة صعلوكا‏,‏ فهو بلا أسرة‏,‏ واتخذ من أصدقائه بيتا وعائلة‏.‏ وهم مجموعة من الفقراء اليائسين‏,‏ الحالمين مع ذلك‏,‏ أحلامهم ذاتها تعسة‏,‏ العمل والمرمطة في الخليج وبعضهم ينتهي به المطاف الي المعتقل في هوجة الإخوان‏,‏ مع أنهم أبعد ما يكونون عن السياسة‏.‏
هم كرسوا أنفسهم للضحك‏,‏ رغم أن بينهم واحدا يحتضر‏,‏ عادل هياكل الذي ظل يقيء دم السل وهم يهزرون حوله ليبعثوا فيه بعض الحياة‏.‏
يموت عادل هياكل في حجرة المغتربين الأزهريين وقد قاء آخر قطرة من دمه‏,‏ آخر نفثة من روحه الشابة‏,‏ يموت ويبقي بطل الرواية المصاب بمرض الاكتئاب النوباتي‏,‏ الذي تتلوه في أحيان قليلة كما نري في الرواية فترات انبساط‏,‏ يبقي تائها بين محبوبات لاينالهن‏,‏ واليتم الذي نما معه منذ وفاة أمه وهو طفل‏..‏ يبقي وليس له مستقبل‏,‏ أو لا يلوح أمامه طريق مضيء يسلكه‏.‏ فهو تائه ضائع‏,‏ فقد حجرة الرفاق الأزهريين بالغورية‏,‏ التي فر منها مطاردا بخوفه من الاعتقال‏,‏ وحين عاد ليأخذ أشياءه وجد عادل هياكل منطرحا جنب سريره علي بركة دم‏,‏ دم غاص فيه البطل الذي لم يهتم الشاعر بذكر اسمه‏,‏ لأسباب كثيرة كلها وجيهة‏.‏ مات عادل هياكل ليصير في حياته وموته رمزا لهذا الجيل‏,‏ الذي يموت بأشكال مختلفة‏,‏ قهرا واختيارا‏,‏ في البحر او في الحياة‏.‏
يهرب البطل من جثة صاحبه‏,‏ مطاردا بخوفه‏,‏ مبحرا في سواد بلا نهاية‏,‏ كما يقول في النهاية‏.‏
إنه الجنين المتكور بحثا عن رحم الأم‏,‏ الذي تنقبض روحه وتنبسط‏,‏ طبقا لمصطلحات المتصوفة والأطباء النفسيين‏,‏ الذي يفقد عالمه في النهاية‏,‏ وينادي محبوبته الأولي‏,‏ التي ظل يناديها طوال الرواية‏,‏ والتي كانت أمامه في القرية ولم يستطع أن ينالها‏,‏ ولم يحرص في روايته علي تقديم الأسباب‏,‏ او لنقل لم يحرص في رواية شاعره‏.‏
إن زينب التي يخاطبها هذا الشاب‏,‏ الذي لا اسم له‏,‏ لاتحتل في الأحداث مكانا يذكر‏,‏ لكنها تحتل مساحة كبري في قلب مناديها‏,‏ هل لأن اسمها‏-‏ وصاحبها من المتطوحين في الحضرة‏-‏ يربطها في وجدانه بأم العواجز؟ هل لأنها صاحبة قنديل يضيء في قلبه؟ هل لهذا لاتوجد في أرض الحكاية إلا قليلا؟
هذه لمحة من عالم الرواية‏,‏ وهذا العالم جزء في حد ذاته من فنيتها‏,‏ فالمادة نفسها نوع من الصياغة‏,‏ وزاوية الرؤية جزء أساسي في جماليات التصوير‏.‏ أما التشكيل هنا‏,‏ فهو متحرر من كلاسيكيات السرد‏,‏ لأنه يمتد أفقيا من حيث التزامن او اختلاط الزمن‏,‏ كما يمتد طولا من حيث اتجاه الأحداث في النهاية نحو نقطتها القصوي‏,‏ نحو الذروة‏,‏ او الفاجعة‏.‏
والرواية أيضا تشبه شخصية صاحبها ـ بطلها أو كاتبها ـ الذي يمحي رغم وجوده الطاغي‏,‏ يجرد نفسه من الاسم والصنعة‏,‏ لايذكر إلا لمحا أنه كاتب‏,‏ بكلمة عابرة‏,‏ وتتراوح روايته بين المقاطع شديدة القتامة وأخري شديدة المرح‏,‏ وان غلبت الأولي علي الثانية‏.‏
إن حكايته شخصية وفي الوقت نفسه هي حكاية جيله‏,‏ الغالبية العظمي من جيله الفاقدة القدرة البائسة الآمال‏,‏ الواقعة تحت ضغط الفقر والداء والموت وهي تضحك‏,‏ وهذا جمالها‏.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في جريدة الأهرام

ليست هناك تعليقات: