03‏/07‏/2025

فوات الأوان.. بكائية على أطلال العالم الافتراضي

 


جرجس شكري

مجلة كتاب ـ يوليو 2025


لا بد أن يتوقف قارئ ديوان «فوات الأوان» للشاعرالمصري محمد أبو زيد، أمام ثلاث ملاحظات قبل أن يواصل القراءة: العنوان، الغلاف، التصدير، ولاحقا الغلاف الأخير، فالعنوان وإن كان فصيحاً إلا أنه يحمل دلالات شعبية في سياق الحياة اليومية أقرب إلى العامية، فوات الأوان، والذي يعني، مضى الوقت، ضياع الفرصة، وبعد فوات الأوان، بعد أن تعذّرت معالجة الأمور، وقبل فوات الأوان قبل أن يُصبح من الصعب عليك تدارك الأمر، وفات الأمر ذهب وقت فعله. وعلى القارئ أن يهيئ نفسه للقاء شاعر يبكي على أطلال الأشياء، بل على أطلال هذه الحياة، ولكن ليس كما كان يفعل أسلافه القدامى الذين يبكون على أطلال المنازل وذكريات الحبيب، فالغلاف الذي يجمع بين الإنسان والروبوت ويشير بقوة إلى محتويات الديوان، ويؤكد للقارئ أنه أمام بكائية معاصرة، قوامها التهكم واللعب، اللعب الذي هو أقرب إلى ألعاب الطفولة، فراح مصمم الغلاف أحمد اللباد أيضاً يلهو ويمزج بين الإنسان والروبوت

في لوحة تقرأ وتعبّر عن الديوان.

أما التمهيد الذي جاء من ديوان سابق للشاعر عام 2015 لا يخلو من السخرية بل يؤكدها «أفكر أن أسمّي كتابي القادم "فوات الأوان"، لكني لم أحدد، هل أضيف في البداية "قبل" أم "بعد".

في هذا الديوان الصادر حديثاً عن منشورات ديوان في القاهرة، يلعب الخيال دور البطولة فهو بمثابة البنية العميقة لكل النصوص، ليس اللغة أو المجاز أو الموسيقى

أو الرؤية الفلسفية، حيث يتجاهل الديوان كل هذا بنسب متفاوتة عن عمد وينحاز إلى الخيال واللعب واللهو متسلحاً بأسلوب البارودي أو المحاكاة الساخرة للعالم، وتارة أخرى بأسلوب الفروتسك فما بين الخيال كقوة فاصلة والبارودي وأسلوب الفروتسك تأتي نصوص هذا الديوان التى ابتعدت عن جماليات اللغة الشعرية، فجاء كل نص استعارة لهذا العالم الافتراضي، العالم المصطنع، مجتمع الاستعراض، مجتمع الفرجة ومراكز التسوق وثقافة الاستهلاك الذي تُوّج بالذكاء الاصطناعي، من خلال لغة الحياة اليومية دون تجميل أو محسنات بديعية أو بلاغية، ليبدو صاحبه في أحيان كثيرة جثة في زمن الاستعراض، وسوف تتكرر الجثة وتتجول بين النصوص بصور مختلفة .


الديوان الذي جاء في قسمين بعد وقبل متعمداً أن يسبق المستقبل الماضي! يطرح عدة تساؤلات منها: هل يمكن أن تكون الكلمات العادية شعراً وكيف؟ والسؤال الآخر حول

نظرية اللفظ والمعنى أو بمعنى أدق التوازن الكمي بين اللفظ والمعنى، بالإضافة إلى شعرية اللعب واللهو وخيال الطفولة وأصولها أو جذورها عند الرومانسيين، فهل هو

الخيال الذي يحاول اكتشاف العلاقات الخفية بين عناصر الوجود، أم الخيال الذي يلهو من خلاله الكاتب!

وأيضاً ماهية الشعر كما جاء في الغلاف الأخير للديوان أو علاقة الشعر بالعالم الذي يوشك أن ينهار، انتهاء بالشاعر نفسه في مواجهة القصيدة يتبادلان السؤال «ماذا بعد». ربما ماذا بعد الشعر الذي نعرفه، ماذا بعد الواقعية الفائقة في هذا العالم المصطنع أو الذي يعتمد على ما هو مصطنع؟

وهذه أسئلة قديمة قدم الشعر، بل هذا سؤال تقليدي منذ شعراء الجاهلية، فضلاً عن الأنواع الأدبية الأخرى في الرواية والمسرح، بيراندلو، على سبيل المثال، في مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» حين أقام حواراً عنيفاً بينه وبين فن الدراما أطاح فيه بالعديد من القواعد الدرامية.

والحوار في «فوات الأوان» مع الشعر سيكون في نصوص عديدة بأشكال مختلفة تقترب من أسلوب الفروتسك أحياناً، وسوف يرى القارئ منذ السطور الأولى أن صاحب الديوان يدرك كل شيء بعد فوات الأوان، فهو يؤكد هذا بشكل صريح ومباشر وتظل المحاكاة التهكمية تظل برأسها منذ القصيدة الأولى وتستمر حتى السطر الأخير من الكتاب، المحاكاة التهكمية التي تقوم على الاختلاف الذي يصل إلى حد التناقض، ولكن لا تتم كمادة للسخرية إلاّ إذا تم التعرف على العمل المحاكي، وهذا سوف يسبب

بعض المشاكل، بل قل إنه يضع بعد الحواجز بين القارئ والنص، حيث القصيدة تقدم القيم والثوابت التي يستند إليها المرجع المحاكي بشكل مقلوب، معكوس هذه القيم من خلال تحوير المادة المحاكاة وتحويلها إلى مجرد هيكل يخلو من الصبغة التي كانت تطبعها، وهذا يتطلب معرفة بالنص الأصلي موضوع السخرية .

في النص الأول «مُقبِل مُدبر» تهكم على الشعر والشاعر، وتتوالى السخرية من لغة الشعر من خلال استخدام لغة يومية تخلو من الجماليات. وهنا تؤدي المحاكاة التهكمية التي يعتمدها الشاعر محمد أبو زيد دورها كوسيلة لكسر الثوابت والقناعات في اللغة والحياة. وكسر الثوابت في اللغة بالتحديد من خلال إظهار التناقض بين ما يقال وواقع الحال، وهذا ما سيبدو واضحاً في نصوص عدة من بينها "تروتسكية ستالينية خضراء"، "على مذبح الأيديولوجيا"، وهكذا واقع هذه النظريات، وهذه العناوين والشخصيات وأسماء الكتب يوحي بشيء، والمكتوب من المفترض أنه يوحي بشيء آخر. وهنا يبدو التهكم ليس وسيلة سخرية فقط بل يتضمن بعداً نقدياً يقترب من الهجاء السياسي والاجتماعي.


كل هذا يدعمه الخيال الذي وصفه الرومانسيون بأنه أمر أساسي في الشعر، وبدونه يصبح الشعر مستحيلاً. وخيال محمد أبو زيد في «فوات الأوان» يعيد قراءة النظريات الكبرى، عبر كتابة غرائبية سريالية، لينتهي هذا الجزء بأقصى درجات اللهو واللعب التي يمارسها أبوزيد، بقصيدة عبارة عن فراغ ورسم بالكلمات في صفحة فارغة.

ولم يختلف الأمر كثيراً في الجزء الثاني «قبل»، فقط تتسع مساحة اللعب والتأكيد على انهيار العالم "أسفل هذا الهامش ستجدني ممدداً وحيداً ومنبوذاً إلى الأبد".

سيتوقف القارئ أمام الشعور بلا جدوى الشعر، وهذا أمر غريب، فالنصوص تؤكد السخرية من الشعر، فلماذا هذا الشعور؟ سؤال يحتاج إلى إجابة أن يشعر الإنسان أو

الشاعر بلا جدوى الحياة، فهذا مبرر وطبيعي، أما أن يشعر الشاعر بلا جدوى الشعر، فهذا أمر يدعو إلى التساؤل.

نصوص «فوات الأوان» تستعير مفردات العصر الرقمي، فهي أقرب إلى مقاطع في لغة مواقع التواصل الاجتماعي، إذ تتحول الحياة في هذه النصوص إلى صورة من العالم الافتراضي. وتتكرر الغرائبية في نصوص عديدة باستخدام أسلوب الفروتسك الذي يشكّل نقيض العقلانية من خلال ما تطرحه من إرهاصات الخيال المرعب والمنفر في أحيان كثيرة.

15‏/06‏/2025

ماهية الشعر والشاعر ومغايرة الكتابة في ديوان فوات الأوان للشاعر محمد أبوزيد

عادل ضرغام

في ديوان (فوات الأوان) للشاعر محمد أبوزيد يجد القارئ نَفَسا شعريا جديدا، يجيد إخفاء صنعته، والتخلص من ديونه للسابقين من خلال مناورات الشكل، واللهاث وراء ماهية أو معنى لانهائي لا يتحقق للشعر. ففي هذا الديوان يشكل سؤال الماهية الخاص بالشعر حضورا واضحا، ينفتح في الإجابات المحتملة على غياب، لأن الشعر في منطق نصوص الديوان طائر يجيد الحركة، ويجيد التشكّل أو إعادة التشكل، ويجيد التخفي، ويغيّر جلده وهيئته من فترة إلى فترة، ومن عصر إلى عصر، يؤيد ذلك الإحالات الممتدة في النصوص إلى تجليات سابقة في داووين سبقت هذا الديوان، للكشف عن المتغير في مساحات الرؤية.

الديوان يقدم نصوصا شعرية لا تكفّ عن الإشارة إلى التغيّر والتبدل عما سبق، فكأننا أمام شعرية تتطور بالتراكم والاختلاف التدريجي، نتيجة لتأمل السابق لبناء نقلة تحمل وعيا مغايرا، ويتحقق هذا الأمر في نصوص هذا الديوان على مستوى البنيات الأسلوبية ووالتراكيب النصية بين جزئيتي (بعد) و(قبل)، وكأن هناك حالين شعريتيين، يفصل بينهما بون بعيد في التوجّه والإيمان بالقدرة على الفعل، للوصول في النهاية إلى حركة تشبه القصور الذاتي غير القادر على التأثير والفعل. فالعواء الذي يبدأ به الجزء الأول من الديوان يكشف عن مساحة الفعل الساكنة، ليتحول الشعر- معادل الفعل والقدرة على التأثير في شكله المثالي- إلى عواء ذاتي ساكن يطارد أشباحه المتخيلة.

تكشف نصوص الديوان عن تساؤل آخر، يتولّد من فكرة المغايرة وارتباطها بسياقات حضارية، يتمثل في جدوى ومشروعية فن الشعر في اللحظة الآنية، وحتمية البحث عن شكل وآليات فنية تتعاظم على الظرف التاريخي الذي يمرّ به هذا الفن، فنصوص الديوان في مجملها تمثل اشتغالا لخلق أبنية شعرية متساوقة مع اللحظة، لا تحلم بتغيير العالم، أو الإيمان بالشكل المباشر القديم لرسالة الشعر، هي فقط تكتفي بالوجود بشكل خافت، لأن هناك متغيرات دائمة تلحق بالسياق أو السياقات، وتترك بالضرورة أثرها على الشعرية المنجزة. ويمكن للقارئ أن يقارن بين طبيعة أبطال النصوص وسارديها في الجزئين (بعد) و(قبل) وكلاهما يكمل عنوان الديوان (فوات الأوان)، وكأن هناك حدثا عظيم التأثير أوجد هذه المغايرة أو الفكرة التي تظلل شعر الشاعر على امتداد دواوينه السابقة، لكنها هنا تترك أثرها في جزئيات عديدة، منها ماهية الشعر المتعددة التي لا تكف عن الحركة والفعل من جزئية إلى أخرى.

ثمة ملاحظة في عناوين قصائد الديوان، تتمثل في طولها من جانب، ومن جانب آخر تشكل- إلى حد ما - مساحة من الانفصال من خلال احتشادها وانبنائها وتجذّرها في سياق قد لا يكون قريبا للوهلة الأولى بينها وبين المتن، خاصة في القصائد المشدودة للحاكم- يتشكل غالبا في صورة إله- والسيدة الأولى في مقابل المحكومين، أو فصائل النمل المتراصة المشغولة بالحياة، ومخزونها من السكر، وكأن هذه العناوين التي تبالغ في الطول والاحتشاد والمرتبطة دلاليا بأمور فلسفية مثل المادية والجدلية، تحاول زعزعة يقين التأويل، وهذا يجعلنا نشير- مع شيء من عدم الاطمئنان- إلى أن جزئي الديوان (بعد) و(قبل) يتعلقان بالثورة، بوصفها الحدث المحوري الأكثر حضور، بالرغم من محاولات تغييبه بوسائل عديدة، مثل الإيهام بعناوين بعيدة الغور والدلالة.

ماهية الشعر والشاعر والكتابة

في نصوص كثيرة من نصوص الديوان ثمة اشتغال على الشعر وماهيته، وتطوره الزمني، ذلك التطور الذي يعاني من سلطة السابقين التي أخذت شكلا أقرب إلى الصواب الدائم، مما يفرض نوعا من الثبات حول هذا المنجز القديم، وكأنه الشكل الأخير والوحيد لفن الشعر. وقيمة نصوص هذا الديوان أنها تبني أسانيدها، وأسانيد مشروعية اختلافها عن النمط الثابت المستقر برهافة بالغة تتسرّب تدريجيا لتؤكد حتمية وجودها. في نصّ (جد عجوز فاض به الكيل لا يحتمل) يمثل الجد معادلا للسلطة الفنية ولمنطق الحياة وسطوتها في الاحتفاء بالمستقر في مقابل حركة وإضافة الحفيدين (الولد والفتاة) اللذين يأتيان بوصفهما معادلا للمغايرة والاختلاف ارتباطا بمنطق الزمن واختلافه بينهما وبين الجد.

يتجلى الاختلاف في مشروعية الحلم بوصفه خروجا عن نسق أو نمطية، فالفتى لديه نزوع نحو (الشاطر حسن) الذي سيتزوج الأميرة، والفتاة نحو (السندريلا). والنص الشعري من خلال صوت الجد يمارس القمع بإسدال سطوة الواقع ضد مشروعية الحلم والتغيير والحركة في قول النص (الأحمق الذي يفكر في المستقبل هناك، أخبرني.. لماذا تنزلق إلى قاع البالوعة؟ أين عقولكم؟ ماذا تتعلمون في المدرسة؟). الجزء الأول من النص الذي يؤسس هذا الصراع بين الأجيال المختلفة، يتلوه جزء شعري ينقل هذا الصراع من صراع زمني إلى فني، في قوله (لا أعرف لماذا يكتب الشعراء قصائدهم بهذه الطريقة! كان الشطران مريحين أكثر)، ويتحوّل النص في ظل تلك النقلة إلى كشف عن صراع بين الجديد والقديم، الجديد الذي يتمدد في سياقات مغمورة هامشية على حواف النسق الفني المهيمن، ومن ثم تتأسس لهذا النسق سلطة لها قدرة على تمثيل الجديد، ووضعه في سياق الخارج المأفون المرتبط بالبالوعات والصراصير والناموس والفيروسات، وكلها تستدعي إغلاق النوافذ إمعانا في تجذير الثبات، وهيمنة الأبوي البطرياركي في تحجيم الجديد في نهاية النص (وأنت يا ولد.. عيب كخ).

والمتأمل لنصوص الديوان يدرك أن هناك قصائد تتوجه نحو الانتصار للشعرية الجديدة، من خلال الإشارة إلى ميزان أو إيقاع مغاير، فهي تقدم أسسا أو أسانيد لمشروعية استمرارها، وحتمية وجودها، فالشعر- مهما كان شكله أو قالبه- لا يخلو من إيقاع، يكمن الفارق بين القديم والجديد في جزئيتيين، أولها طبيعة الإيقاع، واختلافه من كمي إلى نوعي، والأخرى تتمثل في حرية التوالد أو التجلي المستمر دون ثبات أو تقعيد. في نص (بالمناسبة.. ليس الخليل بن أحمد الفراهيدي وحده من يملك ميزانا)، هناك اشتغال على إيقاع شخصي يتجلى بتخلصه من الثبات، في قوله (ماذا يفعل بمنجنيق لا يعرف مصدره، يلقم أذنيه بالأحجار ليل نهار؟ ! ماذا يفعل بجبل كلمات داخل صدره يكسّر فيه كل يوم، لكنه أبدا لا ينتهي؟).

وإذا كانت الأشكال الشعرية الجديدة في النص السابق تتجلى في نسق الصراع، بالإضافة إلى حسّ السخرية الموجود في معظم النصوص، فإن مفهوم الشعر الجديد، وبشكل محدد قصيدة النثر، ينتصر لتعدد الأشكال، وغياب التأطير والثبات، بل ويجعل من هاتين السمتين مساحة للتفرد والإيجابية. فقصيدة النثر في منطق النصوص ولادة جديدة مع كل نص، وهذا يبعدها عن التقعيد والشكل الثابت. ففي نصّ (بيضة الديك كنظرية تأسيسية: نقد العقل المحض) يدرك القارئ من العنوان- بعد إزالة مساحات التغريب والتغييب بين العنوان ومتن النص- أن هناك وعيا من البداية بهذه السمة او الخاصية الفريدة، فقصيدة النثر- نظرا لفرادتها وغياب التقعيد وتكرار القالب- تشبه بيضة الديك. ومن خلال الحوار الدائر بين السارد/ الشاعر وبيضة الديك أثناء القلي الذي يشكل بفعل الاحتراق الخاص أشكالا مغايرة في كل مرّة، يعاين الشاعر فرادتها الدورية، وانفتاحها على فنون أخرى، مثل الفنون التشكيلية، وانفتاحها على النوع ومقابله مثل المأساة والملهاة، فهي- أي قصيدة النثر- تشكل عبر نوعي، يذيب الحدود بين كل هذه الفنون والأنواع.

لا تنفصل ماهية الشعر عن ماهية الشاعر، ومحاولة تحديده أو تأطيره، وإن كانت كل المحاولات لا تفلح في الإمساك بكائن غير فيزيائي، يتشكل على نحو مغاير في كل لحظة أو فترة زمنية، ويلتحم في كل تشكلاته بمنطلقات الإبداع لدى الشاعر. ففي النصوص قناعة بأن ما يتخيله الإنسان يمكن حدوثه، ويمكن أن يكون جزءا من الواقع الملموس إن أمكن تحديد شيء ما يعبر عن الواقع. صورة الشاعر في النصوص- وإن لم يتم التوجه إليها بشكل مباشر- تتحدد في مساحة الريب بين الحدوث وعدم التحقق منطقيا. وهناك نصوص عديدة ربما تكون كاشفة عن تلك الصورة وملامحها، مثل نص (حكمة الصندوق الزجاجي)، حيث تتكاتف فيه الصور العجائبية الخارقة للمنطق، بداية من الجنين الذي يرفض الخروج، وعودة الأم لأطفالها، وموت الأب. فكرة الجنين من البداية تشدنا إلى وجود مؤجل غير منجز، وإلى مساحات هلامية لطفولة ممتدة، وعند الوقوف عند الصور المنثالة بعد ذلك مثل تمدد حياته واستمرارها دون اسم أو بطاقة تموين، ونموّه داخل البطن، وإحداثه للانبعاج، ندرك أنها كلها أشياء تشير إلى وجود قلق.

تكتمل هذه الصور العجائبية لهذا الوجود من خلال قيام الأطباء بقصّ الانبعاج بمنشار، ووضعه في صندوق زجاجي محكم، ومراقبته العالم من خلف زجاج شفّاف، ودموعه المنثالة على معرفته الضائعة في نهاية النص في قوله (ألم أقل لكم؟). فبداية من فعلي الانفصال والاتصال، بالإضافة إلى مراقبة العالم في سياق خاص، يخامرنا شعور أننا أمام طفولة ليست من لحم ودم، لكنها تشير إلى طفولة شعرية راصدة، تقدم معرفتها من وراء حجاب، لكن العالم لا يصغي أو يستحضر هذه المعرفة.

والقصيدة- أيضا- في نصوص الديوان لم تعد مرتبطة بالتجليات السابقة في الارتباط بظروف وسياقات محددة، قد تكون مشغولة برسالة سامية للشعر، وإنما أصبحت مشدودة للإنسان، ولحاجاته البسيطة والصغيرة، لأن الشعر لم يعد متعاليا مفارِقا، فمكانه يتغير من فترة لفترة، وصورة الشاعر ومكانه يتغيران، فلم يعد الشاعر- على حدّ تعبير النص الشعري الذي جاء بعنوان محضر اجتماع الجمعية العمومية العادية لسنة 2023- ساكنا للمجرّات أو السماء، بل أصبح مثل الناس واحدا عاديا، يحتاج ما يحتاجون إليه، فالسماء العالية- في ظل النصوص أو الشعرية الجديدة- يمكن أن تنزل بما تحتويه وتختزنه إلى الأرض، والشاعر- نفسه- تحوّلت وظيفته من الانعزال إلى المشاركة، فالقصيدة- نظرا لحركة الشعر وتغيّر مكان ولادته وتراكمه- أصبحت كامنة في الجزئيات البسيطة في لحظات خلقها وإعادة الارتباط بها، وكأنها أصبحت فعل معايشة مصنوع لحظة الفعل، وانفتاح على الخارج مع الاحتفاظ بفاعلية الذات وحضورها، يقول النص (يعود إلى منزله، وهو لا يفكّر في شيء/ فقط يغلق الشباك/ يمسك الريموت/ ويطفئ القصيدة).

داخل الاهتمامات والتحديدات المتعلقة بالشعر وماهيته، والشاعر وحركته، والقصيدة بوصفها فعلا من أفعال التداخل وانفتاح العوالم بين الشعري والمعيش اليومي، يلمح القارئ حضورا لظواهر عديدة تتجاوب مع تأسيس هذه الشعرية، مثل الخيارات الممنوحة العديدة لاكتمال نصّ، ومنها أيضا الإلحاح على قيمة الشعرية البصرية والتشكيل الكتابي، بوصفها ظاهرة أدخلت الشعر مساحة تلقٍ جديد، وذلك من خلال كتابة النص مرتين، الأولى على طريقة ونمط التفعيلة، حيث يبدو تأرجح السطور وتباينها من جهة اليسار، والأخرى على طريقة الكتل النثرية. ويأتي السؤال في الهامش (هل اختلف إحساسك بالنص؟)، ليورط القارئ في التفكير، ومعاينة الاختلاف، وقياس قيمة آلية الكتابة والتوزيع في النصين، ويترك الأمر دون إجابة تشي بالانحياز.

أما الظاهرة الأهم في تجليات هذه الشعرية، فتتمثل في الاستناد إلى عناوين لافتة، فيها الكثير من الاحتشاد، لإسدال نوع من التغييب لإخفاء العلاقة المباشرة بين العنوان والمتن، وكأنه يفتح مجالات بعيدة للتأويل، بعيدا عن ارتباط النص بشكل مباشر بموضوع محدد، له حضور لافت لا يخلو من وضوح في سياقاتنا السياسية، فهناك الكثير من الاحتشاد في صناعة العناوين النصية، وكأنها بهذا الاحتشاد تمارس نوعا من التشتييت الذهني، لفكّ الارتباط المباشر. في نصين متتاليين (إعادة كتابة التاريخ1) و(إعادة كتابة التاريخ 2) يشدّنا العنوانان إلى اصطلاحات ما بعد الحداثة، وارتباطها بطبقة أو طبقات من كتابة التاريخ، وإعادة كتابته بشكل مختلف في نسخ عديدة بعيدا عن النسخة المتفق حولها.

لكن هذه المحاولة لإسدال نوع من التغريب في النص الأول تأخذ بعدا أكثر رحابة، حين يوحّد النص- في ظلّ إعادة الكتابة- بين السقّاء ونرسيس صاحب الأسطورة الذي يذوب ويجف لتعاليه على النساء، ولكن تأمل النص مرة أخرى ربما يكشف عن عقد تواز آخر بين السقّاء ونرسيس ونهر النيل الذي يتيه به المصريون، ويشير النص – في ظل متغيرات آنية- إلى إمكانية جفافه وذوبانه، فكأننا أمام طبقات ثلاث. وفي النص الثاني الذي يحمل الاسم ذاته هناك توجه نحو حادثة السقوط من الجنة، ونحو لحظة البداية الأولى، أو البدائية التي تتشكل من خلال إشارات دالة وكاشفة عن الموت القادم، وكأن النص يمارس نوعا من الزحزحة في تحويل حادثة الذنب والتدنيس والسقوط، ليجعلها أكثر ارتباطا بواقع حياتي منتظر.

في ظلّ ذلك الفهم يشكل النصّان مساحة للتباين الظاهري، لكنهما يتجاوبان في النتيجة، وتجاور وتجاوب الطبقات، من نرسيس إلى السقّاء إلى نهر النيل، ويأتي فعل الذوبان والجفاف- وكأنهما فعل سقوط وتدنيس- مرتبطا بالعودة إلى الحالة الأولى من البدائية للسير على خطاها، بعد فقد مصدر مهم من مصادر حياتنا وحضارتنا، وكأننا بهذا الفقد الذي تجلّى مغيّبا بالعنوانيين اللذين يقتربان من النظرية، وبالانفتاح على الأساطير نبدأ من جديد محاولين إعادة كتابة وتسجيل التاريخ من خلال المعايشة بداية من لحظته الأولى، والسير على نمط جاهز، يقول النص في نهايته (جلس قبالتي- ها أنا أعطيك التفاصيل، ماذا ستصنع؟).

المراجعة والالتحام بالعجائبي

إن منطلق المراجعة لرصد المغايرة حاضر بقوة في نصوص الديوان، يتجلى ذلك في سمات كثيرة تتضافر فيما بينها لتأسيس ذلك التوجه في الكتابة الشعرية، بداية من عناوين بعض القصائد التي تتعرض للشطب والمحو، ولكن أثرها يظل باقيا، يمكن قراءته بسهولة، وكأن الكتابة الشعرية حالة مستمرة من حالات الاشتغال على نصوص سابقة، ويبقى أثرها واضحا، مثل عنوان قصيدة (قصيدة تصلح لهذا العالم)، حيث يُمارس ضده الشطب والمحو، مع وجود تساؤل في السطر الثاني من العنوان (ما هذا العنوان؟)، أو في نص آخر بعنوان (قارئ يعتقد أنه جناح فراشة)، ثم يُمارس الأسلوب ذاته في الشطب في إضافته في ذات العنوان (أو قصيدة تعتقد أنها ظل رجل يختبئ في الحائط).

وربما يكون هذا المحو والإبقاء على الطروس الكاشفة في الآن ذاته، له علاقة بزلزلة الثبات، وتحديد التأويل، فلا يجعل القارئ يقنع بتأويل أحادي يرتضيه، ففي قراءته للنص سيظل موزّعا ومشتتا بين العنوان المشطوب، والآخر المثبت دون شطب، وله علاقة أيضا بفكرة طبقات الدلالة التي تتشكّل من أثر أو جملة أو عنوان خافت لا يمثل صدارة النص بشكل نهائي، فهذا التردد يمارس دوره في انفتاح مسارب التأويل، ليس للقارئ فقط، وإنما للكاتب أيضا، فإذا كان القارئ يؤول النص والعالم، فإن الكاتب يؤول العالم أو العوالم المحيطة التي تناوشه.

فكرة التغيير أو المغايرة التي تلحق بالشعر أو الشاعر فكرة جوهرية، ربما لا ترتبط بنصوص هذا الديوان فقط، ولكن بمجمل إنتاج الشاعر. يتجلى ذلك واضحا في نص (الحياة بنت ال.. في صورتها الجديدة). وربما يجدي الوقوف عند نصوص ثلاثة مترابطة للتدليل على هذه الفكرة أو على التحولات التي تؤثر على الشخصيات الواردة في النصوص، أو على الشخصيات التي يقترب منها ويتقنّع بها، وهي في معظمها شخصيات وثيقة الصلة برسالة الفن والموقف، فنلاحظ في التجليات الثلاث لتروتسكي أو لأفكاره، بداية من مساحة الإيمان بهذه الرسالة، والتزامه بها، إلى مساحة من مساحات التحوّل الخاص بالسخرية السوداء التي تقنع بالملاحظة وعدم القدرة على الفعل.

في نصه الأول (تروتسكية ستالينية خضراء) نجد الإيمان بهذه الرسالة واضحا، من خلال التكرار الدوري لجمل تحمل الشعور بالمسئولية عن البشر والعالم، مثل (ولد يحمل بلدا على كتفه)، و(فتى يحمل بلدا). وفي مقابل الثورة الدائمة التي يمثلها تروتسكي، يأتي ستالين- قاتله أثناء هروبه بالمكسيك- بوصفه إشارة للحاكم الذي لم يتحمل الثورة والمطالبة بالتغيير، لتحوّله إلى إله، يقول النص في نهايته (الإله يترك البلد جوار ماسح الأحذية، ويغادر المقهى، غير مهتم بالكتاكيت التي تعبر الشارع). والصورة السابقة لا تنفصل عن نص ( على مذبح الأيديولوجية- المجلد الثاني)، لأن صورة الحاكم تتوحد بصورة معكوسة بسليمان النبي، وبحكايته مع النمل، لتشير إلى حاكم خاص محدود المعرفة.

أما النص الثالث الذي جاء بعنوان (يقول لينين: أفضل وسيلة لتدمير النظام هي إفساد رأس المال- المجلد الثالث) فتجعلنا نعيد النظر في النصين السابقين، وتأمل ملامح الثورة ومآلاتها البعيدة والقريبة، فمساحة الانتصار المخفية في حديث ماركس، يقابلها وعي إنجلز بسيادة وعودة النسق القديم واستمراره. ففي لحظة الثورة التي تولّد مساواة وقتية بين الحاكم والمحكوم، هناك وعي فائض بسلطة النسق وعودته في شكل مغاير، يقول النص (ضحك ماركس في قبره، شدّ إنجلز من لحيته- استيقظ يا خمّ النوم.. ألم أقل لك؟! – آه يا ماركس المسكين، أنت لا تفهم شيئا، انتظر أسبوعا واحدا فقط.. وسأروي لك بقية المأساة).

هذه النصوص الثلاثة لا يمكن قصّ الارتباط بينها، وتحديد مساحات اشتغالها بالثورة والثائر، وإن كان كل ذلك يتجلّى بلغة بسيطة محكية تنزع نحو العجائبي، لأن منطقها لا يفصل بين الواقعي والعجائبي أو الفانتازي، فكلاهما يرفد الآخر، ويؤثر في تجليه وتشكيله، وهذا واضح في كل النصوص، لكنه يظهر بشكل واضح في نصوص مثل (كتاب الأسى والهلوسة والعنزة البائسة)، أو في (نص نظري تأسيسي في الفلسفة المادية والاقتصادية السياسية). في هذه النصوص يتحوّل العجائبي إلى أداة مقاومة للهزيمة، خاصة في النص الأخير، حيث يتوزع السرد إلى ضميريين سرديين، الأول الغياب (حين قرر انتظار الموت..)، والأخير المتكلم (وحين أنهض من فوق كنبتي..).

يسهم الغياب في تقديم رؤية موضوعية دون انحياز في الجزء الأول، فتتكشف الهزيمة المرتبطة حتما بالموت، لكن يتمّ التعاظم عليها بصناعة وسائل الاستقواء، من خلال المتخيل العجائبي، فنلمح صورا جزئية كاشفة عن ذلك، مثل (الأجهزة التي تغيّر مصير العالم)، و(فهم لغة الطير والحيوانات)، و(الكلام مع الجماد). النص الشعري يصنع من خلال المتخيل العجائبي مساحة استعلاء. ولكن بداية من الجزء الثاني مع ضمير المتكلم تبدأ هذه الاختراعات والابتكارات- مساحة العجائبي- في التلاشي، فهي على حد تعبير النص الشعري (تتراكم حولي، لكنني لا أرها).

تصل العجائبية إلى مداها الواسع في بعض النصوص، ربما لارتباط النصوص بفكرة الثورة الدائمة المأخوذة عن تروتسكي، ففي نص (التخلص من الأرض)- نظرا لانسداد الأفق وفقدان قدرة البشري في إحداث التغيير- هناك محاولة لإسناد الفاعلية لجزئيات مادية كبرى، مثل المحيطات والأنهار، وهي تشكل من خلال الأفعال العجائبية ثورة من أفق أعلى، يقول النص (بعد نوم عميق، فتحت المحيطات المتجمدة عينيها، فرأت السماء حمراء كالحرية، تمطّت فتحركت الأرض. مدّت قدميها، فتصادمت المدن، تثاءبت، فتبعثر الغيم في الأفق).

يتجاوب مع محرك الثورة/ الهدم الأول (المحيطات) الأنهار الأليفة المرتابة، وهو توجه لا يشدنا نحو التخلص من الأرض كما يشير عنوان النص، وإنما يوجهنا نحو التخلص من طبقة بفعل الثورة، يؤيد مشروعية ذلك الفهم، أن هناك فصائل تتشكّل في ظل هذا الحدث الجديد، وهي فصائل جاهزة لركوب الموجة أو امتطاء الثورة، يقول النص في سطوره الأخيرة (وعلى أسطح البنايات المقابلة، أرى أناسا يرفعون رؤوسهم إلى أعلى، يفتحون أفواههم تقرّبا للبحيرات الطائرة (...) الطموحون المرحون روّاد الأعمال، خلعوا ملابسهم/ وقرّروا تعلّم السباحة في الفضاء). وفي معظم نصوص محمد أبوزيد دائما هناك في النصف الأول من النص اندياح بين الواقعي والمتخيل، وهو دائما اندياح يرتبط بالمطلق الفكري، ولكن في النصف الأخير دائما ما يمرّر للقارئ ما يشد النص إلى الواقع، إن أمكن تصوّر شيء ناجز يحمل ذلك المعنى، فيجد القارئ نفسه- بالرغم من قيمة الجزء الأول- متجذّرا في سياق حضاري ما، يؤسس النص ارتباطه به، ولو بفعل التأويل، وإعادة القراءة والتأمل.

هناك نوع من المغايرة أو المراجعة يتمثل في تأسيس منطلقات شعرية مغايرة للمنطلقات القديمة، وإن كانت تتماس معها في إطارها العام، لكنها تمعن في إحداث نوع من الفرادة عن الشعرية المنجزة سابقا، حتى في صناعة اليومي الخاص بها، فلم يعد اليومي- في نصوصه- واقفا عند حدود رصد الآخر أو جزئيات الكون التي تحتوينا، في إطار يحفظ لكل قسيم وجوده المنفصل، فالراصد والمرصود هنا متداخلان، وفي انفتاح دائم، فكل قسيم يأخذ من الآخر ويعطيه في الآن ذاته، ولم يعد الأمر رصدا للآخر أو للكون المحيط، وإنما أصبح الأمر مشدودا للذات محل الاهتمام بشكل مباشر، وأصبح الآخر وأصبحت الجزئيات المحيطة علامة فارقة ومؤثرة في تجلّي الشعرية وصناعة الذات، وتشكيل حركتها، ومتابعة أشكال تشظيها وتساميها.

في نص (الحافلة تعرف الطريق) ندرك أن الجزئيات أو الكائنات الموجودة في النص أصبحت جزئيات مولّدة للشعرية، في انفتاحها على حركة الذات الشاعرة، فلمبات الإنارة والأشجار والقرود والقطة والريح ليست جزئيات مرصودة منفصلة، لكنها جزئيات فاعلة في عناق دائم مع الذات. فالشعرية هنا تتولّد، وتشكّل حركية جديدة لحظة الفعل في ابتعادها عن النمطي والجاهز، يقول النص (لا أعرف ماذا أقدّم/ لعيونكم المترقبة/ للسطر/ المقبل؟).

وفي صناعته للنماذج البشرية التي نلمح ارتباطا بينها وبين نماذج مؤسسة في شعريات سابقة، مثل شعر عبد الصبور وحجازي، يسدل عليها نوعا من المغايرة والاختلاف، تبدأ من العنوان، وتمتد لتشمل إضافات جديدة للكون الشعري، تتماس مع اللحظة الحضارية المغايرة. فمن يقرأ نصّه (بناية21، الدور الرابع، شقة 406) يشعر أنه- بالرغم من محاولات تفكيك عُرى التناسل والارتباط- مشدود لنصين سابقين، هما (غرفة المرأة الوحيدة) لحجازي، و(المرأة الشمس) لصلاح عبدالصبور. لكن النص هنا يسدل بعض السمات التي تؤسس نوعا من الخصوصية المغايرة، تجعله مشدودا إلى لحظة حضارية، ووعي مغاير، وزمن مختلف لكل نموذج من النماذج الثلاثة، مثل وجود كتالوجات آيكيا، وصور إنستجرام، ومسلسلات نتفيليكس، والمتأمل يدرك بالرغم من اختلاف الإطارات المشكلة لهذه المرأة الموجودة في كل زمان، أن النهاية واحدة في النصوص الثلاثة، وهي تتمثل في الموت وحيدة، يقول النص (ظلت وحيدة/ تتنصّت على غرابيين يتبادلان البصاق في شرفتها/ وعلى الأقنعة الأفريقية التي تحدّق/ في جثتها الملقاة بلا اكتراث).


......................

صحيفة القدس العربي ـ 15 يونيو 2025

23‏/11‏/2024

محمد أبو زيد: ليس على الكاتب أن يصنف نفسه



حوار: محمود عماد

محمد أبو زيد الكاتب الذى جمع بين الفنين الكبيرين الشعر والنثر، بمعنى آخر القصائد والرواية، تنوع أبو زيد فى الكتابة بين الاثنين وتفوق فيهما معا. حصد الجوائز فى الإثنين، حتى لم نعد نستطيع أن نصنفه هل هو روائى، أم شاعر، أو هو كاتب يكتب فنا جديدا يجمع بين الشعر والنثر معا، يحظى محمد أبو زيد باسم لامع فى الأوساط الثقافية والأدبية المختلفة، وحازت أعماله على إشادات نقدية، وبدأ أبو زيد رحلة إعادة طباعة أعماله الأولى مرة جديدة، وذلك بروايته الأولى «أثر النبى»، والتى صدرت فى طبعتها الجديدة عن دار الشروق، بعد تعاون أول كان نشر رواية «ملحمة رأس الكلب». ولهذا حاورته «الشروق»، للحديث عن إعادة نشر رواية «أثر النبى»، وعن أعماله المختلفة.

- لك العديد من الدواوين الشعرية التي وصلت لثمانية دواوين، ونشرت في البداية خمس دواوين تقريبا قبل نشر روايتك الأولى، ولكنك نشرت بعض القصص القصيرة في بعض الصحف قبل حتى نشرك لدواوينك، فكيف تصنف نفسك هل أنت شاعر أم روائي؟

ـ أكتب الشعر والرواية، وربما في المستقبل أكتب صنفاً جديداً، لذا أجد أنه من ليس من اليسير أن أحبس نفسي تصنيف، الكاتب لا يصنف نفسه ولا يمنح نفسه لقباً، فهو في كل الأحوال يسعى في طريق قد لا يصله حتى نهاية أجله، لأنه لا مسلمات في الكتابة ولا شيء مؤكد، حين يتأكد الكاتب من أمر عليه أن يغادره إلى ما يُقلقه، فهذا القلق هو ما سيصنع نصاً جيداً. مهمة التصنيف تقع على عاتق القراء والنقاد بعد أن يقرأوا مجمل نتاج الكاتب، وعندها يقررون إذا كان يستحق أن يحمل لقب شاعر أو روائي أو كاتب مسرحي. بالنسبة لي الكتابة ـ في الشعر أو السرد ـ هي مجرد محاولة لإضافة شيء إلى هذا الخط غير المرئي من الخيال الذي يمنح حياتنا معنى، ليس بالضرورة أن ينجح من يحاول ذلك، لكن عليه أن يحاول في كافة أنواع الكتابة إذا استطاع وإذا كانت لديه الملكة، فليكتب الشعر والقصة والمسرح وليرسم ويغني ويلحن، عليه أن يجرب وأن يهرب من قفص الحبس في التصنيف، فالهرب صنوان للحرية. والحرية هي هدف الكتابة الأسمى.

 - من تلك العلاقة التي تحدثنا عنها بين كونك شاعراً وروائياً، وبين الدواوين الشعرية والروايات كيف أثرت علاقة الكتابة النثرية بالشعر عليك كممارس للأدب وللفنين؟

ـ أعتقد أن على الفنون أن تستفيد من بعضها، وأن تكمل بعضها بعضاً، انظر إلى السينما مثلاً، هذا الفن الساحر الذي تتعاضد فيه فنون الكتابة والإخراج والموسيقى والتمثيل والغناء، لتخرج فناً واحداً. بإمكان الكتابة في أي صنف أدبي أن تكون كذلك، كأن تأخذ الرواية من الشعر لغته ومن المسرح حواره ومن الرقص إيقاعه ومن السينما مشهديتها، في روايتي الأخيرة "ملحمة رأس الكلب" هناك إشارات إلى فنون الكوميكس والمانجا اليابانية والسيناريو، ليس بالضرورة أن أكون نجحت في مسعاي، وليس بالضرورة أيضاً أن تفعل كل النصوص ذلك، لكن ليفعل ذلك النص الذي يحتمل هذا التجريب. عندما أنهيت ديواني "مدهامتان" الذي كتبته بعد روايتي الأولى "أثر النبي"، لاحظت أن طريقة كتابتي للشعر تغيرت، وأن طريقة تفكيري في شكل القصيدة وما يجب أن تكون عليه من وجهة نظري تطورت دون أن أقصد، في المقابل كانت روايتي الثانية "عنكبوت في القلب" مختلفة تماماً عن الأولى "أثر النبي"، لغة وفكرة واستفادة من العوالم الشعرية، إذ تقوم بالكامل على إحدى شخصيات دواويني. وما أعنيه بكل هذا أن كل عمل ـ سواء كان شعرا أو رواية ـ يستفيد من الأعمال السابقة، ومن تقنيات الكتابة الموجودة في الفنون الأخرى. وبالنسبة لي فأنا أنظر لنصوصي باعتبارها خطوات في طريق ممتد، كل عمل خطوة، لن أبلغ هذه الخطوة إذا لم أمر على الخطوة التي تسبقها، وأترك أثراً.

روايتك "أثر النبي" التي قمت بإعادة نشرها تنطلق من نقطة الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ووقت نشرها الأول عام 2010، حدثنا عن لماذا تحديد غزو العراق، وهل ساهم توقيت النشر أو الكتابة في أحداث الرواية ومضمونها؟

نشرتُ الرواية في طبعتها الأولى بعد 7 سنوات من غزو العراق، لكنها كان معظمها مكتوباً في سنة الغزو، وبالتأكيد ساهمت الأجواء العامة للحدث وتأثيره النفسي الكبير علينا في ذلك الوقت في تشكل فكرة الكتابة. غزو العراق في العام 2003، هو أهم حدث سياسي مرّ به جيلي حتى حينه. جميعنا في بداية العشرينات، لدينا أفكار مسبقة نؤمن بها ونقدسها عن فكرة العروبة والقومية والأمة الواحدة، ثم يقع هذا الزلزال السياسي فنجد أنفسنا وقد أُسقط في أيدينا. لا فقط نشاهد دولة عربية تباد ونحن لا نستطيع حراكاً. كانت هناك مقدمات طبعاً لما حدث، مثل احتلال الكويت عام 1991، وأحداث سبتمبر 2001، لكن كانت كل الأفكار الكبرى التي آمنا بها تتهاوى أمامنا، حتى هذا أفكار مثل الاشتراكية انهارت مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وسقوط العالم في أسر القطب الأمريكي الواحد. وبدأت نذر هزيمتنا ـ كجيل ـ التي لاحقتنا فيما بعد تتبدى. وحين أنظر الآن إلى الأمر يتأكد داخلي أننا جيل مهزوم، هزمتنا أفكارنا وأحلامنا والأناشيد التي حفظناها صغاراً عن الأمة العربية، هزمتنا الأفكار الناصرية عن القومية، هزمتنا حتى أفكارنا عن الحرية التي قرأناها في الكتب القديمة وصدقناها، هزمتنا الأحداث الشداد، من احتلال الكويت لغزو العراق لثورة يناير لحكم الإخوان، لكل التداعيات التي أوصلتنا إلى هذه اللحظة التي نتحدث فيها. هذا الجيل الذي ولد في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات عاش في عالمه المغلق، حين انفتح العالم على مصراعيه بسبب العولمة وثورة الاتصالات والإنترنت لم يعرف ماذا يفعل، حاول أن يتفاعل فلم يستطع، ولما وجد نفسه قد تجاوز الأربعين وقارب الخمسين، آثر الانغلاق على ذاته والعيش في ثوب الأب الحكيم، لكنه في أعماقه خائف ويائس. ومن هنا كان استدعاء مشهد تنحي عبد الناصر في رواية "أثر النبي"، لكن إذا كان ذلك الجيل قد هزم في 1967، فإنه قاوم وعاد لينتصر في أكتوبر 1973، لكن جيلنا لم يفعل.

- تحدثت سابقا عن ديوان لك بالعامية المصرية، ونرى في رواية "أثر النبي" بعض المصطلحات أو الألفاظ العامية المدموجة في الرواية مع الفصحى، فكيف ترى العلاقة بين العامية والفصحى في الأدب بشكل عام؟

ـ لا أتفق مع الذين ينظرون للهجة العامية باعتبارها في مرتبة أدنى، فما اللغة إلا مزيج من لهجات، وما اللهجات إلا من نسيج اللغة، وكان العرب يسمون اللهجات لغات، فقيل لغة قريش، ولغة حِمير، ولغة تميم، وغيرها، وقد حاول عدد من الكتاب التقريب بين العامية والفصحى عن طريق ما يسمى اللغة الثالثة أو اللغة البيضاء، كما نرى عند توفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وهناك محاولات جادة للاهتمام بالعامية المصرية عند عدد من المفكرين أمثال سلامة موسى وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد الذي كان رئيساً لمجمع اللغة العربية، ورغم ذلك دعا إلى ما أسماه "التسامح اللغوي"، وإصلاح الفصحى باستعمال ألفاظ من العامية، وألفاظ مستعارة من اللغات الأخرى في الكتابة. والعامية المصرية هي كنز من الفن والأدب، هل تتخيل أن تسمع السيرة الهلالية من جابر أبو حسين إلا بلهجته؟، هل تتخيل تاريخ الأدب في مصر بدون بيرم التونسي وفؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وبديع خيري وغيرهم؟ إذن لا تضاد بين العامية والفصحى، ولا أرى ما يعيب في استخدام العامية في الحوار، بل أرى أن السرد عموماً يمكن أن يكون هو البوابة لكي تستفيد إحداهما من قدرات الأخرى.

 

- حدثنا عن تجربة نشر أعمالك السابقة، وهل تنوي القيام بذلك مع كل أعمالك السابقة؟

ـ أي كاتب يسعد بإعادة طباعة أعماله، لأن ذلك يجعلها متاحة في المكتبات للقراءة والنقاش. معظم أعمالي القديمة لم تعد موجودة، ديواني الأول "ثقب في الهواء بطول قامتي" صدر قبل 21 عاماً، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وبالطبع لم يعد موجوداً، أيضاً صدرت لي 6 أعمال بين الشعر والرواية عن دار شرقيات، التي كانت واحدة من أهم دور النشر في مجال النشر الخاص، لكن للأسف أغلقت أبوابها، كما صدر لي ديوان "مديح الغابة" عام 2006 من هيئة الكتاب، وبالطبع كان مصيره مصير معظم الكتب في المؤسسات الحكومية، وهو الاختفاء في المخازن، ثم وجدت عام 2019، أنه عندما يسألني صديق أو قارئ عن أحد كتبي أخبره أنها غير موجودة، لكل الأسباب التي ذكرتها لك، ومن هنا جاءت فكرة إعادة طباعة الكتب، وبدأت بإعادة طباعة الكتب التي أرى أنها تمثل جزءاً مهماً من تجربتي، وربما في المستقبل أفكر في طباعة كل الأعمال السابقة.

-  إعادة نشر رواية "أثر النبي" هو تعاونك الثاني مع دار الشروق بعد رواية "ملحمة رأس الكلب"، فكيف ترى التعاون مع دار الشروق؟

ـ دار الشروق واحدة من أهم دور النشر العربية، وقد سعدت بوجودي وسط أسماء مهمة في عالم الكتابة من جيلي والأجيال السابقة طبعا، وسعدت بالتعامل مع الأصدقاء الأعزاء فريق العمل في الدار، الذين يهتمون بكل التفاصيل منذ تسليم المخطوط وعبر جميع مراحل النشر، وحتى بعد صدور الكتاب، كما يهتمون بإتاحة الكتب على جميع المنصات الإلكترونية وفي جميع معارض الكتب الدولية، وهذا هو هدف أي كاتب. وإن شاء الله يكون هناك تعاون في عمل قريب.

- بما أنك حصلت على العديد من الجوائز الأدبية سواء عن الشعر أو عن النثر، كيف ترى الجوائز الأدبية وتأثيرها على المشهد الأدبي بشكل عام؟

ـ أي كاتب يسعد بحصوله على جائزة، ليس بسبب المردود المادي بحسب، بل لأن الجائزة بمثابة تقدير معنوي على ما قدمه، لا سيما وإذا كانت الجائزة كبيرة ومهمة. والحقيقة أن لدينا نقصاً في عدد الجوائز الخاصة بالكتابة في مصر، مع هذا العدد الكبير من المبدعين. تخيل مثلا أنه في مصر لا توجد جائزة متخصصة في الشعر، إلا جائزة أحمد فؤاد نجم لشعر العامية، أعتقد وجود عدد أكبر من الجوائز سيحفز المبدعين على تقديم أفضل ما لديهم، كما أن هذه الجوائز ستسلط الضوء على الكتب الجديدة، فتهتم المكتبات بها، وتعيد طباعتها وتقديمها للقارئ، وتشجع الكاتب على تقديم جديد، مما يؤدي إلى رواج أكبر في حركة النشر. بهذه الطريقة يمكن النظر إلى الجوائز باعتبارها عامل محفز ومهم في حركة الكتابة والنشر، لكن في كل الأحوال لا يجب على المبدع أن يضعها أمامه كشرط لتقييم نتاجه، أو محرك له للنشر، بل هي مجرد "مفاجأة لطيفة تحدث لك"، لكن عدم حدوثها لا يعني تقليلاً من قيمة ما تقدمه أو أهميته.

- لقد أسست موقع الكتابة الثقافي، وهو موقع مهتم بالشأن الثقافي والفني والنقدي في الوطن العربي، فكيف ترى تجربة الصحافة الثقافية بشكل عام، وخاصة في هذه الآونة؟

ـ موقع الكتابة كان أول وأقدم موقع ثقافي مصري شامل، بدأ منذ عام 2007 وما زال مستمراً، وكان الغرض من وجوده هو تحدي ظروف النشر الصعبة في ذلك الوقت، إذ لم يكن النشر وقتها بالسهولة الموجودة الآن، كانت هناك مجموعة من الصفحات الثقافية في عدد من الصحف وتعاني في معظمها من الشللية. اختلف الأمر مع مرور الوقت، ومع ظهور الفيس بوك، وانتشار المدونات، فأصبح لكل شخص منصته الخاصة، وجمهوره الخاص أيضاً، وتراجع ما عدا ذلك.

الصحافة الثقافية تعاني من أزمة بالطبع، أولاً لأن الصحافة الورقية عموماً تعاني من أزمة كبيرة، بسبب ارتفاع الورق، وبسبب التضييقات الإعلامية، وبسبب تغير ذائقة الجيل الجديد الذي أصبح يفضل التصفح الإلكتروني، فضلا عن أن الصفحات الثقافية في الصحف أصبحت نادرة ومحدودة مع قلة الصحف وقلة صفحات الجرائد، أما المجلات والصحف الثقافية فكادت تندثر، والمطبوعة التي كانت توزع 100 ألف نسخة أصبحت لا تتعدى العشرة آلاف نسخة.

أصبح النشر الثقافي يتركز في معظمه على النشر الرقمي، ومعظم مشاريع النشر الثقافية الخاصة غير مدعومة، وبالتالي فهي معرضة للإغلاق طوال الوقت، كما أن سهولة النشر إلكترونيا عبر فيس بوك، خلقت حالة من السيولة أثرت على حالة الصحافة الثقافية، وجمهورها.

لا أريد أن أقول إن الأمور سيئة، فهناك بعض المحاولات الجادة من بعض الصحف التي تحاول أن تتحدى هذه الأجواء، وفي ظني أن الزمن أكبر مصفاة، علينا فقط الانتظار والاستمرار في المحاولة.

- رغم كونك شخصية له حيثية كبيرة على الساحة الأدبية سواء كشاعر أو روائي أو رئيس موقع للكتابة الثقافية، وتملك العديد من الإشادات النقدية، لكننا نشعر بأنك بعيدا عن الأوساط الثقافية، فكيف ترى الأوساط الثقافية؟

ـ في الماضي، كان الحديث عن "الأوساط الأدبية" يعني الحديث عن "المقاهي الثقافية في وسط البلد"، أو المنتديات الرسمية التي كانت تقيمها الدولة، ثم تطور الأمر وأصبحت هذه الأوساط هي مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت مثل سابقتها عبارة عن "أخويات"، وجيتوهات منغلقة، لا ترى بعضها بعضاً، وجزء منها يقوم على المجاملة والاجترار والنميمة، وفي الحقيقة لا أرى نفسي في كل ذلك. ما أريد أن أقدمه أو أقوله سأكتبه في نص أدبي، مستعيرا كلمة "كامل مروة" الشهيرة، "قل كلمتك وامش"، وهذا ليس انتقاداً لمن يميلون لأجواء "الأوساط الأدبية"، فليست جميعها سيئة، فربما العيب في أنني لست شخصاً اجتماعياً.

لا أعرف إذا كانت لي حيثية أو لا، لكن ما أتمناه وأرجوه هو أن يكون لكتابتي حيثية وتأثير، وما دون ذلك زائل يا صديقي.

- ما هو الجديد في عالم محمد أبو زيد الأدبي؟

ـ هناك مشروع كتاب مؤجل منذ عشرين عاما عن "مدينة القاهرة"، أتمنى أن أنتهي منه العام المقبل.

 ....................

*نشر في جريدة الشروق


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

22‏/10‏/2024

محمد أبو زيد: لم أعد مهتماً بإصلاح العالم


 حوار: أسامة فاروق

يكتب محمد أبوزيد فى «أثر النبي» روايته الأولى التى أعاد طباعتها مؤخرا عن بطل مشغول بالطيران، بالتحرر والانعتاق، لكنه عوضا عن ذلك لا يحلم إلا بكوابيس السقوط وبأن قدميه مقيدتان بالأرض، بطل لا تغادره الوحدة فى أكثر الأماكن ازدحاما بالبشر، يخاف ألا يجد حضنا فى المنزل، أو مدرجا فى الجامعة، أو مكتبا للعمل، أو مقعدا يريح عليه ظهره بين أصدقائه فى المقهى، يخاف حتى ألا يجد قبرا يستقر فيه. 

يهرب من وحدته فى قريته إلى حجرة ضيقة فى ناهيا، ومنها إلى دار السلام، بحثاً عمن يشاركونه همومه ويحلمون أحلامه، فلم يجد إلا بيتا للمغتربين بالغورية يضم غرباء أمثاله، نماذج للجيل الذى «تغرب آباؤه فى مدارس ومزارع ومستشفيات المغرب العربى والخليج، وعادوا ليشتروا شققا ويبنوا بيوتا فى قراهم، سقطت فى الزلزال أو غرقت فى السيول، أو نصبت عليهم شركات التوظيف وسرقت تحويشة العمر»، الجيل الذى نشأ مع سقوط الشعارات الكبرى وانتهاء حلم الوحدة العربية، ثم تنامى سيطرة الجماعات المتطرفة. الجيل الذى شاهد الدبابات الأمريكية فى قلب بغداد، وتغير العالم من حوله، فاستوطن اليأس قلبه وتجمدت أحلامه فى ركود مقبض.

يجلس بطل الرواية التى كُتبت مطلع الألفية فى ميدان التحرير متخيلا الناس الذين مروا على الميدان منذ 50 عاما، متسائلا عما تبقى من أفراحهم وأحزانهم وأحلامهم وما حاربوا من أجله، ثم يصبح هو نفسه بوابه زمنية على فترة أخرى نراقب من خلالها الآن أثر هذا الجيل ومسار أحلامه.

بعض الكتاب لا يحبون تذكر تجارب البدايات. الواضح أنك لست من هؤلاء بدليل إعادتك لنشر «أثر النبي» روايتك الأولى.. ما دوافع إعادة نشر الرواية الآن؟ صحيح ليس للحكايات تاريخ صلاحية لكن الحكاية تبدو الآن بعد كل التغييرات التى جرت وكأنها من زمن آخر، زمن قديم. تحمل مخاوف وحيرة وأسئلة شاب قديم أيضا.

الحكم الحقيقى على الفن لا يأتى من القراء ولا النقاد، بل من الزمن، والكاتب لا يقدم نصه الأدبى لأنه يصلح لزمانه فقط، أو يتوجه إلى شريحة عمرية معينة فى وقت محدد، ولو فعل هذا فإن ما يقدمه لن يرقى حتى للأدب الخفيف، فقيمة الأدب الحقيقية فى قدرته على تقديم إضافة فى كل زمن يُقرأ فيه، ولهذا السبب ما زلنا نقرأ شكسبير وديكنز وأورويل وحتى هيرودوت، ما زلنا نندهش ونحن نقرأ امرؤ القيس وعنترة والمتنبي، أعمالهم تعبر عن واقعهم بالطبع لكنها عابرة أيضاً للزمن، وهذا هو سمت الأدب الحقيقي، لا أقصد أنى أقارن نفسى بهؤلاء، لكنى أقصد أن الأدب ليس له تاريخ انتهاء صلاحية، وأن على الكاتب أن يحدد لحظة كتابة نصه، من هو الجمهور الذى يستهدفه، هل هم أصدقاؤه وحواريوه، أم جمهور الندوات والجامعات، أم جمهور لم يولد بعد.

بالنسبة لرواية «أثر النبي»، فهناك عدة أسباب لإعادة طبعها، أولها أن دار شرقيات التى صدرت عنها الطبعة الأولى من الرواية لم تعد موجودة للأسف، وبالتالى فالرواية نفسها غير متاحة للقارئ، وقد سعدت بترحيب دار الشروق بإعادة طبعها مجدداً، ثانى الأسباب أن الرواية لاقت صدى نقدياً جيداً وقت صدورها، ووصلت للقائمة القصيرة فى إحدى الجوائز المهمة، السبب الثالث أن الرواية رغم مرور 14 عاماً على طبعتها الأولى ما زالت صالحة للقراءة، خاصة أنها تبدو لى شهادة على زمن لم يعد موجوداً، وأصبحت فى حكم التاريخ بالنسبة للجيل القارئ الآن الذى ربما يكون فى أوائل عشرنياته، كما أنها تؤرخ للحظة مفصلية فى تاريخ الأمة العربية، وهى الاحتلال الأمريكى للعراق 2003 والتى لم يعد ما بعدها يشبه ما كان قبلها، السبب الرابع والأهم بالنسبة لي، أنها جزء مهم من تجربتي، فهى روايتى الأولى واللبنة الأساسية فى بناء عالمى السردى إذا جاز لى أن أقول ذلك، وهى لا تنفصل عنه من هذا المنطلق، وإن كانت تختلف فى تقنية الكتابة عن الروايتين التاليتين، وأرى أنه من المهم أن يطلع القارئ على هذا التحول، والذى له أسبابه النقدية لا ريب.

الرواية تبدو فى قراءة أخرى حكاية كملايين الحكايات التى ضغطت وكانت سببا فى كل ما جرى فى 2011 أو مقدمه له على أقل تقدير.. كيف ترى المسألة؟

لا أعتقد أن النظر للرواية على أنها حكاية من ملايين الحكايات التى ضغطت من أجل 2011 صحيحاً، لأننى لم أكتبها بهذا الغرض، أكثر من 70 % من الرواية انتهيت منه عام 2003، وفى 2010، أكملتها ودفعت بها للنشر، كما أن النظر لها باعتبارها كذلك ظلم للأدب بشكل عام، لأنك بهذا الشكل ستعتبر كل ما كتب قبل حرب أكتوبر 1973، وكل ما كتب قبل ثورة يوليو 1952 مجرد حكايات ضاغطة، ما أظنه أن لكل عمل أدبى طريقته فى التعبير وشخصيته المستقلة، التى لا يمكن جمعها مع عمل آخر، إلا لو كنت تقدم قراءة سوسيولوجية للأدب فى مرحلة زمنية معينة.

وفى ظنى أن رواياتنا القديمة تشبه هر شرودنغر، حية وميته فى الآن نفسه، موجودة وغير موجودة فى الوقت ذاته، وعدم وجودها فى المكتبات لا يعنى أنها لم تخلق، بل إنها حجزت مساحتها فى حيز المكان والزمان وتحتاج أن تتحرر.

أريد أن أتحدث عما سبق هذه الرواية بالتحديد. الهواجس والمخاوف والقراءات وربما الحيرة بينها وبين الشعر خصوصا وأنها جاءت بعد 5 دواوين تقريبا.. ما الذى تتذكره من تلك الفترة؟

أعتبر نفسى شاعراً، وقدمت نفسى كشاعر، لكنى أكتب السرد منذ زمن طويل، وهناك قصص قصيرة منشورة لى فى صحف ومجلات مختلفة منذ عام 1999، أى قبل أن أصدر ديوانى الأول بأربع سنوات، ومن الطريف أن ديوانى الأول هو ديوانى الرابع، كان من المفترض أن يكون ديوانى الأول تفعيلياً، وقد قدمته بالفعل لهيئة الكتاب فى سلسلة «إشراقات أدبية» وقتها بمقدمة للناقدة الكبيرة الأستاذة فريدة النقاش، ثم سحبت الديوان ولم أنشره بعد أن بدأت أكتب قصيدة النثر، وبالمناسبة ديوانى «أمطار مرت من هنا» الذى فاز بجائزة سعاد الصباح فى تلك السنوات، كان من الشعر التفعيلى أيضاً، ولم أنشره.

ثم قدمت ديواناً بالعامية المصرية إلى سلسلة «إبداعات» عام 2000، وقبل صدور الديوان بعدة أشهر طلبت من إدارة النشر تغيير الديوان بديوانى الأول «ثقب فى الهواء بطول قامتي»، ولم أنشر ديوان العامية أبداً، كما أن «أثر النبي» نفسها كنت قد كتبت جزءا كبيرا منها قبل صدور ديوانى الأول، وفزت بجائزة يحيى حقى فى الرواية من المجلس الأعلى للثقافة فى فترة سابقة وكنت ما زلت طالباً فى الجامعة.

ما أقصده أنه كان يمكن النظر لى الآن باعتبارى شاعر تفعيلة، أو شاعر عامية، أو روائياً، لكنى اخترت أن يكون كتابى الأول «قصيدة نثر»، وأن يعرفنى القارئ بهذه الصفة، وهذا لا يعنى أننى لا أكتب سواه. 

ما أعنيه من هذا كله أن الرواية لم تأت بعد 5 دواوين، بل جاءت قبل هذه الدواوين، والفترة التى كتبت فيها الرواية كانت فترة قاتمة سياسياً، كانت مصر خارجة من حربها مع الجماعات الراديكالية التى تركت أثراً بشكل كبير فى الصعيد والدلتا، وبدأ الحديث عن «مراجعات الجماعات الإسلامية» ومبادرة وقف العنف، كما شهدت تلك الفترة تراجعاً فى الحراك السياسى للتيارات اليسارية لا سيما مع انهيار الاتحاد السوفيتى قبل سنوات، كما أن فكرة القومية العربية التى نشأنا عليها وتربينا عليها كانت تتلاشى، وقد بدأ ذلك مع الاحتلال العراقى للكويت فى العام 1990، ثم جاء الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003، لتسقط معه كل السرديات التى تعلمناها التى تعلى من شأن العروبة، وكما قلت فى الرواية على لسان أحد الأبطال أن تلك اللحظة بدت بالنسبة لنا وقتها هى السقوط الأخير للعرب، كل الأفكار الكبرى التى قرأنا عنها فى الكتب كانت تتهاوى أمامنا.

وفى تلك اللحظة بدأت هزيمتنا كجيل. كنا فى أوائل العشرينيات، لكننا ولدنا كجيل مهزوم. ومن هنا جاء الربط فى نهاية الرواية بنكسة 1967، فإذا كانوا هم عاشوا هزيمة عسكرية، فإن هزيمتنا كانت هزيمة فكرية، مع تهاوى كل ما تعلمناه وفكرنا فيه وآمنا به، يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام.

ومع ذلك فالرواية ليست منشورا سياسياً، إنما تقدم أفكار وأحلام وهزائم شريحة من الشباب فى تلك الفترة، من مناطق جغرافية مختلفة، كل واحد منهم لديه هزائمه الشخصية، التى لا تنفصل بطبيعة الحال عن هزيمة المجتمع ككل.

يمكن من الرواية ملاحظة تغير أسلوبك وتطوره ودخول الفنتازيا بشكل كبير فى أعمالك التالية. كيف تختار موضوعاتك وكيف تحدد طريقة تناولها أو شكلها الفني؟

لم أقدم سوى ثلاث روايات، لكنى دائماً أفكر أننى لا أريد أن أقدم مجرد «حكاية»، وأهتم بـ «اللعبة» التى سيحتويها الكتاب، كما أهتم بمضمونه، فهما لا ينفصلان. وأعتقد أن هذا موجود حتى فى دواوينى الشعرية، وهو واضح أيضاً فى «أثر النبي»، التى حتى وإن جاءت واقعية تماماً، إلا أن هناك محاولات للتجريب فى طريقة كتابة بعض الفصول.

وهذا التطور ودخول الفانتازيا الذى تتحدث عنه أعتقد أنه شيء جيد، فهذا دليل على أن الكاتب لا يقف محلك سر، بل يسعى لتطوير نفسه وأدواته.  وهو وإن كنت أعترف أنه جنوح بالكامل للتجريب وانحياز للعبة الكتابة، إلا أنه أيضاً نتاج لتطور تجربتي، ورؤيتى للعالم والكتابة، وقد يراه البعض يأساً من كل القضايا التى طرحتها الرواية الأولى، لكنى أظن أن محاولات التغيير لا تكون فقط بكتابة نصوص تصف الواقع، بل بحمل القارئ على جناح الخيال، وإطلاق عنان أفكاره، عندما نحلم بعالم أفضل نضعه على الورق، ووقتها سيكون بإمكاننا صناعته على أرض الواقع.

أردت أن أسألك إن كنت قد فكرت فى استكمالها بجزء آخر جديد يرصد اللحظة الحالية، لكن الحقيقة أنه يمكن اعتبار الروايتين التاليتين استكمالا لها بشكل ما! فالهواجس والمخاوف تكاد تتطابق وبالتحديد هاجس الوحدة رغم تبدل الشخصيات. أنت نفسك عززت هذه الفكرة فى رواية «عنكبوت» وقلت إنهما وجهان لعملة واحدة.. إلى أى حد تصح هذه القراءة ولماذا تظهر الوحدة بهذا الشكل الملح فى أعمالك؟

أعتقد أن الكاتب يكمل نصاً واحداً بدأه فى لحظة ما وينتهى منه عند آخر حياته، ويعيد كتابته بطرق مختلفة. بالنسبة لى أحب ممارسة هذه اللعبة فى الشعر، فى ديوان «سوداء وجميلة» (دار شرقيات ـ 2015) مثلاً، قمت بإعادة كتابة قصيدة نشرتها قبل عشر سنوات فى ديوان «مديح الغابة»، ووضعت القصيدتين متجاورتين، أفعل هذا أيضاً من خلال وجود شخصيات بعينها تتكرر فى كل عمل، مثل شخصية «ميرفت عبد العزيز» الموجودة فى 5 دواوين، وهى بطلة رواية «عنكبوت فى القلب». 

أعتقد أن الأمر ذاته ينطبق على رواياتى الثلاث، يمكنك اعتبار بطل «أثر النبي» هو نفسه بطل رواية «عنكبوت فى القلب»، وهو ذاته بطل «ملحمة رأس الكلب»، لكن ربما فى عالم مواز، وكأن بطل الروايات الثلاث يحاول أن يجرب حياة جديدة  فى رواية أخرى فى ميتافيرس لا متناهٍ، الروايات الثلاث تدور أحداثها فى منطقة «وسط البلد»، لكن إذا كانت الشوارع فى «أثر النبي» كما نألفها ونعرفها، فإنها فى «عنكبوت» تأخذ طابعا سحرياً، وفى «ملحمة رأس الكلب»، يتحرك البطل فى ممرات سرية وسحرية تحت وسط البلد، بل يجد شوارع لم ولن يدخلها أحد سواه.

ربما يدل هذا على أن أزمة البطل لم تُحل بعد، هو فى الروايات الثلاث، كمن يفتح أبواباً ليبحث عن ذاته، للإجابة عن أسئلته الوجودية والملحة، وبالمناسبة لم أعد مهتماً بإصلاح العالم كما كنت فى «أثر النبي»، لكن رغم ذلك لم يغب الواقع تماماً وقضاياه فى الروايتين الأخيرتين، ففى ملحمة رأس الكلب، ستجد حديثا عن الاحترار المناخي، عن مواقع التواصل الاجتماعي، أما الفصل الأخير من «عنكبوت فى القلب» فكان وصفاً لبعض أحداث ثورة يناير 2011. لم أقل هذا بشكل مباشر طبعا، لكن يمكن لبعض القراءات أن تصل لهذا.

بالنسبة للوحدة، أعتقد أنها ثيمة أساسية فى نصوصى عموما، الشعرية والسردية على حد سواء، ربما يعود هذا بسبب أننى عشت فترة طويلة من عمرى مغترباً، وربما تكون الوحدة والعزلة من السمات الأساسية لأى كاتب، فضلا عن أن هذه هى طبيعة المرحلة التى نعيشها، انظر إلى الناس فى الشارع، فى الحافلة، فى المقهى. كل شخص يكتفى بهاتفه عن العالم، سيوصلنا هذا إلى أن نسير بعد سنوات داخل صناديق زجاجية مغلقة لا يصلها شيء مما يحدث فى الخارج، حتى لو كان سقوط نيزك سيدمر الأرض.    

بمناسبة الحديث عن «وسط البلد»، الحركة فى المدينة عنصر أساسى فى نصوصك. على أى أساس تختار الفضاء المكانى لأعمالك؟

كل رواياتى تدور فى منطقة وسط البلد، شوارعها، مقاهيها، ناسها. يمكن أن أقول إن كل الأماكن التى ذكرتها فى هذه الروايات اختبرتها بنفسي، بل حتى الأماكن السحرية غير الواقعية، تخيلتها هكذا، ويصل بى التوحد معها أحياناً لدرجة أن أظن أنها كانت هكذا. 

واخترت «وسط البلد» تحديداً لأنى أعتبرها مكاناً آمناً فى هذه المدينة العملاقة التى يهرول الناس فى شوارعها ليلا ونهاراً، ولا تتوقف عن الضجيج، وتبدو كقدم ديناصور عملاق تدهس من يفكر للحظة فى التوقف. لكن الألفة التى تخلقها وسط البلد، تجعل جميع الغرباء ينتمون إليها.



يعني لاحظ أن جميع أبطال الروايات الثلاث، لا ينتمون لوسط البلد، بعضهم يسكن على أطرافها للاحتماء بها، جميعهم يلجأون إليها ليجدوا حلولاً للإشكاليات التى تعرقل حيواتهم، ليكسروا وحدتهم، ليشعروا بالدفء الإنساني.

وهنا تبدو وسط البلد كبيتهم الذى يرتاحون فيه. كما أنهم جميعاً لا يتوقفون عن المشي، يمشون مسافات طويلة، ربما هربا من شيء ما أو رغبة فى الوصول إلى شيء ما، وربما لأن حركة المشى تبقيهم أيضا على قيد الحياة، وتحررهم من وحدتهم التى تبقيهم فى أماكنهم ساكنين، فضلا عن أن هذا المشى هو الذى ينقل الأبطال إلى فضاءات مكانية مختلفة، ويغير مصائرهم.

فقدان الأم وحلم الطيران ثيمات تتكرر كثيرا فى كل أعمالك تقريبا. لماذا؟

أعتقد أنهما تنويعات مختلفة على ثيمة الوحدة، الطيران مثلا يشير للانعتاق والتحرر، حتى لو بدا فكرة رومانسية، لكنها محاولة للنظر من أعلى بعين الطائر، فى محاولة لفهم المشهد بأكمله، مع الوضع فى الاعتبار أن هذا المشهد الكامل قد يكون أكثر إرعاباً إذا ما رأيت كل هذا الخراب متجاوراً فى لوحة واحدة مفزعة.

الأفلام أيضا عنصر لا يكاد يغيب. لماذا تكثر من الإحالة للأفلام الأجنبية على وجه الخصوص وهل تتخوف من تأثير عدم معرفة المتلقى بما تشير إليه على استقباله للعمل وفهمه؟

أعتقد أن معرفات الثقافة اختلفت مع الزمن، الجيل الجديد يحصل على معلوماته الآن من البودكاست والتيك توك ويوتيوب. «دائرة المعارف البريطانية» التى تعد أدق وأشهر الموسوعات المعرفية استعاض الناس عنها بويكيبديا، ليست بالدقة نفسها بطبيعة الحال لكنى أحدثك عن الواقع، حتى الكتاب نفسه، أصبح مسموعاً وإلكترونياً، الصحافة الورقية تحتضر، فن المسرح يتراجع وتكتسح منصات الأفلام المدفوعة مثل نتفليكس وديزنى وأبل وغيرها، علمتنا أيام كورونا أنك تستطيع أن تقرأ وتشاهد وتزور المتاحف من هاتفك.

وما أعنيه أن المكونات الثقافية للفرد تغيرت، ولم يعد الكتاب مصدرها الوحيد، فهناك السينما والموسيقى والمسرح والغناء، كل هذه مكونات، تدخل فى بناء العمل الأدبي. وأعتقد أننى فعلت هذا حتى فى الشعر، ففى نهاية ديوان «طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء» الصادر عام 2009، ستجد قائمة بالمصادر، بينها أفلام وأغان وكتب وغيرها، وفى «ملحمة رأس الكلب» هناك استعارة لفن المانجا، وفن السيناريو.

وليس بالضرورة أن يعرف القارئ كل ما أشير إليه من إحالات، قد يكون ما أكتبه حافزاً له لقراءتها أو مشاهدتها أو الاستماع إليها، المهم ألا تكون عائقاً ـ فى حال جهله بها ـ أمام تلقيه للنص. 

يقودنا هذا لمسألة الفهم أو التأويل أو ما وراء الحكايات، هناك من الكتاب من يزعجه عدم التقاط القارئ للمعانى التى يطرحها فى نصه.. ما هى رؤيتك لمسألة الفهم والتأويل؟

من يريد إيصال معنى واضح أو رسالة معينة فليكتب مقالاً، على النص الأدبى أن يرتدى قناعاً، وأن يحتمل التأويل، وليس بالضرورة أن يكون التأويل صحيحاً، فكل قارئ يأول النص بحسب تلقيه وثقافته، وقد يصل إلى شيء لم يرده الكاتب، وكلما زادت التأويلات أثبت النص الأدبى أنه يقوم بدوره، لأن هذا الـتأويل هو الذى يجعلنا نعيد قراءة النص أكثر من مرة، وفى كل مرة نشعر بفهم أكثر.

وهذا بالطبع لا يعنى أن يخلو النص من الإمتاع ومن تقديم حكاية، لأن جميع مستويات التلقى على مستوى الأهمية نفسه، وإذا فشل مستوى الإمتاع ستفسد غالبا بقية المستويات، ولا يعنى أيضاً أننى ملزم بتقديم كتالوج للقارئ يشرح له ما أردت قوله، ولا أن أقول له ابتسم هنا، أو اندهش هنا. أنا ضد علامات التعجب عموما، دع القارئ يضعها بنفسه.

بالمناسبة متى تفكر فى القارئ. وهل تسعى لتطوير علاقتك معه أم تفضل الاحتفاظ بمسافة خصوصا بعد توغل السوشيال ميديا فى هذا الأمر؟ بشكل عام هل تتابع ردود الفعل حول أعمالك؟ 

لا يوجد كاتب لا يفكر فى القارئ، وإلا لماذا ينشر نصوصه؟ لكن السؤال: هل يفكر فى القارئ أثناء كتابة النص أم بعده؟ لو فكر فيه أثناء كتابة النص سيكون القارئ قيداً، قد يمنعه من تجريب فكرة جديدة، أو اجتراح معنى جديد، لأن «القارئ المضمون» فى ذهن الكاتب «هو القارئ الذى يدفع الكاتب لتكرار التجارب السابقة بمقياس نجاحها المحدود.

وأعتقد أن هذا ضد الفن وضد التجريب، أما إذا فكر فى القارئ بعد نشر النص، فهذا كى يقيس ردود الفعل على ما قدمه، وليس بالضرورة أن تكون ردود الفعل إيجابية، وهذا يتوقف على تعريف كل كاتب للقارئ. هل هو القارئ على تطبيقات القراءة مثل «جود ريدز» الذى يمكن أن يعطى نجيب محفوظ نجمة واحدة بضمير مرتاح، أم القارئ على جروبات الفيس بوك الذى تتحدد ثقافته حسب خلفيته الثقافية التى غالبا لا تتجاوز مواقع التواصل الاجتماعي، أم القارئ الصديق الذى يهنئ على صفحات فيس بوك ويبارك ويُعظم دون أن يقرأ كلمة، فى ظنى أن القارئ الحقيقى هو القارئ الذى لا تربطه علاقة بالكاتب، ولا يتواصل معه.

لأنه فى هذه الحالة يقرأ ما يراه جيداً فعلاً، وليس مجاملة أو مناكفة. كما أعتقد أن الكاتب الجيد هو قارئ وناقد جيد بالضرورة، وإلا ما أصدر كتاباً جيداً وأعاد كتابته مرة واثنتين حتى وصل للنسخة الأفضل منه.

يكتب بطل روايتك الأولى لينسى وأنت؟ لماذا تكتب؟ 

أكتب لأتذكر، لأعرف ذاتي، لأفهم سبب وجودي، لأترك أثراً حتى ولو كان تحريك جناح فراشة. وهذا ما كان يسعى إليه بطل رواية «أثر النبي»، كان يرى أن كل إنسان نبى نفسه، ومن هنا لا بد أن يترك أثراً. فى بداياتنا نفكر أن كتابتنا قادرة على تغيير العالم، لكن بعد سنوات نسعى أن تكون كتابتنا قادة على تغيير ذواتنا على الأقل، وإذا تغيرنا سيتغير كل شيء، حتى الكتابة ذاتها، ستملك قدرة أكبر على الفعل.

هل ستسعى لإعادة نشر مجموعاتك الشعرية القديمة كما فعلت مع الرواية؟ ما الجديد لديك على أى حال ومتى يصدر؟

أصدرت ستة أعمال عن دار شرقيات، خلال الفترة من 2005 وحتى 2015، وللأسف لم تعد الدار موجودة مع أنها كانت واحدة من أهم وأقيم دور النشر المصرية، ومع غيابها اختفت جميع هذه الأعمال وبعضها نفد، لذا قمت مؤخراً بإعادة نشر ثلاثة دواوين هى «سوداء وجميلة»، و«مدهامتان» و«مديح الغابة» عن دار رواشن، وأعتقد أن هدف أى كاتب أن تكون أعماله متاحة فى المكتبات. وأعمل على ديوان جديد أتوقع صدوره فى معرض القاهرة الدولى للكتاب المقبل بإذن الله.

.....

*نشر في جريدة أخبار الأدب 6 أكتوبر 2024