22‏/11‏/2006

صفحة الوفيات .. التاريخ السري للموتى



صفحة الوفيات هي الصفحة الوحيدة التي ، استطيع أن أقول لكم ، أنها تخلو من الكذب ، في كل الجرائد القومية ، والتي تنشر الحقيقة كاملة دون تزييف ، ربما لأنه لا توجد حقيقة أوضح وأنصع من الموت ، صفحة الوفيات والتي اعتاد قراؤها البحث عنها في الصفحات الأخيرة من جرائدهم تنتقل إلى الصفحة الأولى في حالة وفاة شخصية قيادية كبيرة وفي هذه الحالة يرصد المصريون من يسمونهم " المشتاقين " إلى مناصب كبيرة عند رحيل ابن أحد المسئولين ، أو قريب له ، حيث يكشف النعي ماذا ييد ناشره ، مجرد العزاء أم وظيفة جديدة ومقعد جديد ، ومؤخرا تحولت معظم صفحات الصحف الأولى إلى صفحات وفيات مع تزايد عمليات العنف في أرجاء العراق ولبنان وفلسطين .
ثمة مقولة قديمة يرددها المصريون للتدليل على مدى ارتباطهم بنشر نعي موتاهم في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام " من لم ينشر نعيه في الأهرام فكأنه لم يمت " والتي عادة ما تخصص صفحتها قبل الأخيرة للوفيات والنعي ، وربما يزيد الأمر فتخصص أكثر من صفحة .
وعدد كبير ممن أعرفهم ، لا سيما الكبار في السن ، يفضلون ان يبدأوا يومهم بقراءة صفحة الوفيات ، للتعرف على من رحل من معارفهم وأصدقائهم ، والمشاهير ، حتى يبادروا بالعزاء أو بنشر نعي مناسب ،وارتبطت صفحة الوفيات بجريدة الأهرام ، ويقارب عمر هذه الصفحة عمر الجريدة ذاتها ، غير أنها لم تصبح بهذا الشكل الرسمي إلا في أوائل القرن الماضي ، وكان قبل ذلك ينشر النعي متفرقا ، ثم انتقلت صفحة الوفيات بعد ذلك إلى باقي الجرائد التي لم تستطع أن تنافس الأهرام في تميزها وظلت صفحة الوفيات مرتبطة بصحيفة الأهرام ، وإذا كان المؤرخ المعروف يونان لبيب رزق يسمي جريدة الأهرام بديوان الحياة المعاصرة ، فإن صفحة الوفيات بها بمثابة التاريخ السري والحقيقي والصادق لحياة المصريين ، حيث أنها تكشف شجر عائلاتهم ، وارتباطاتهم الاجتماعية ، وعلاقاتهم الأسرية ، وتربيطاتهم في العمل أيضا .
ويختلف حجم النعي في صفحة الوفيات حسب شخصية والمركز الاجتماعي للمتوفي ، فهو يبدأ من سطور قليلة في صفحة الوفيات ينشرها أهل الميت عقب وفاته أو في ذكرى مرور أربعين يوما على رحيله ، ويذكر فيها عادة أسماء أقاربه ، مع دعواتهم له بالرحمة والمغفرة ، وقد ينشر مع هذا النعي صورة ، يأتي بعد ذلك نعي أصحاب الشركات أو بعض الرجال المهمين في مناصبهم ، وهؤلاء عادة ينشر نعيهم ، أو نعي أقاربهم مشفوعا بأسماء الموظفين الكبار في هذه الشركات ، ويمكن للمتتبع لهذه الإعلانات أن يرصد عن طريق هذه الإعلانات شبكة المصالح بين رجال الأعمال والموظفين ومديري البنوك ، وعادة ما يكون هذا الإعلان ربع صفحة مع صورة كبيرة ، لكن أكبر نعي فهو عادة يكون مع رحيل أحد الزعماء حيث يملأ النعي صفحة كاملة ، فجريدة الشرق الأوسط أصدرت ملحقين منفصلين عند رحيل الملك فهد لتغطية العزاء والنعي ، حتى زاد عدد صفحات الجريدة عن المائة صفحة .
وإعلان الوفاة يكون فيه اسم المتوفي بالبنط الكبير يتبعه التسلسل العائلي بالبنط الصغير ، مع ذكر الوظائف لكل شخص من أقارب الميت ،وهو ما يجعل النعي راويا لتاريخ الميت السري ، لأقربائه ، لأصدقائه ، لأهله ، ووظائفهم ، وكثير من المصريين يكتشفون تسلسل عائلات المشاهير ، والكثير من تفصيلات حياتهم عن طريق صفحة الوفيات .
الأمر لا يتوقف عندنا كمصريين فحسب ، فقد أصدر الصحفي السويسري " برتولد جاكوب " عام 1935 وحوى الكثير من أسرار الجيش النازي حتى قبل أن يعلن هتلر نواياه بالاستعداد لغزو العالم وإقامة إمبراطورية نازية كبرى ، وهو ما أصاب جنرالات النازية بالجنون ،وفجر غضب هتلر نفسه ، مما جعله يستدعي قادة أمنه ويدفعهم إلى القيام بعملية اختطاف " جاكوب " من سويسرا و إحضاره إلى برلين لمعرفة كيف توصل إلى الأسرار التي نشرها في كتابه ، وكانت المفاجأة أن " جاكوب " قد حصل على كل المعلومات الواردة في كتابه من صفحة الوفيات في الصحف الألمانية وحدها .
" الجنرال فلان قائد الفرقة كذا المتمركزة في المنطقة س ينعي زوجته الراحلة ، والجنرال فلان قائد الفرقة كذات والمتمركزة في المنطقة ص تواسي قائدها الجنرال فلان بسبب كذا وكذا " عشرات المعلومات وجدها "جاكوب " متناثرة في الصحف وكل ما فعله أن قام بجمعها وأعاد ترتيبها وحصل منها على معلومات عظيمة كشفت توزيع وتنظيم الجيش النازي كله ، وبعد هذه الواقعة لم تعد الصحف الألمانية أو أية صحف أخرى في العالم تنشر أية معلومات عن رجال الأمن لا في صفحة الوفيات ولا أية صفحة أخرى .
ثمة تيمات معروفة تكتب في النعي الذي ينشر في صفحة الوفيات ، فبخلاف الذين يكتبون شعرا رثاء للفقيد ، نجد أن النعي يبدأ بعبارة "البقاء لله ، أو إنا لله و إنا إليه لراجعون توفى إلى رحمة الله فلان الذي يعمل في مهنة كذا ،ووالد فلان الذي يعمل في وظيفة كذا وشقيق فلانة زوجة المهندس فلان " وهكذا ، أما الأقباط فإنهم عادة يبدءون نعيهم قائلين " الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم ، رقدت على رجاء القيامة عروس السماء الآنسة س المحاسبة بشركة ص كريمة المرحوم ع .... عزاؤنا أنك بالسماء .. شقيقتك ووالدتك س وص " ويكشف طول النعي عن المكانة الاجتماعية التي يحتلها المتوفي وكثرة أقاربه ومعارفه وتأثيره في الحياة العامة .
وكادت واقعة متعلقة بصفحة الوفيات أن تكون سببا في دخول الكاتب الراحل عبد الحميد جودة السحار السجن ، حيث ردد نكتة في الستينيات تقوا أن رجلا كان يذهب كل يوم إلى بائع الجرائد وينظر إلى العناوين ثم يعود دون أن يشتري شيئا ، وظل يفعل هكذا عدة أيام ، وفي يوم سأله بائع الجرائد : لماذا تفعل هذا ؟ فقال الرجل : أنتظر وفاة خبر وفاة أحد الأشخاص ، فقال البائع : لكن أخبار الوفاة تنشر في صفحة الوفيات بالداخل ، فقال الرجل : من أنتظر وفاته يموت في الصفحة الأولى .
ونعي المتوفى في قرانا البعيدة الطيبة يعتمد على تناقل الخبر بين الجيران وأهل القرية، بالإضافة إلى إذاعة شيخ القرية لخبر الوفاة من المسجد.
أما في المدينة، فالأمر يختلف بسبب بعد المسافات حتى داخل المدينة الواحدة، فالنعي أصبح لإخبار الناس عن وفاة شخص لتقبل العزاء فيه وليس لدفنه والصلاة عليه؛ ذلك لأنه يكون لاحقًا لدفن المتوفى فيتمعن طريق ما يسمى بالإذاعة المحلية ، وهي عبارة عن ميكروفونات منتشرة في أرجاء المدينة تبث خبر الوفاة ، بينما يلجأ البعض إلى استئجار سيارة لتطوف أرجاء المدينة أو القرية لنشرالخبر وذكر أقاربه ووظائفهم أيضا .
ويحرص أبناء المشاهير والصاعدون على ذكر ارتباطهم إلى عائلاتهم ، ويعتبرون ذلك إعلانات مدفوعة الأجر لهم ، وحافزا لهم في أعمالهم ، وهو ما يوضح اعتناء كبيرا بالشكليات ، كما قد يكشف النعي عن بعض الخلافات العائلية فقد نجد في نعي أن الميت نجل فلان وشقيق فلان ، وفي نعي آخر أنه زوج فلانة ابنة فلان وهو ما يكشف عن وجود خلاف عائلي في موضوع الزواج .
وتختلف صياغة النعي حسب التوجه السياسي للميت فالإخوان المسلمون يكتبون " مأمون الهضيبي واخوته يحتسبون عند الله أخاهم فلان " ويكتب اليساريون مجموعة أسماء يتبعونها بأنهم ينعون المناضل الكبير ، أما الوفديون فيحرصون على وجود عبارة " القطب الوفدي " في وصف الميت .
و أخيرا أصبحت رسوم الكاريكاتير تقوم مقام صفحة الوفيات ، فحين يموت أحد الرسامين نجد زملاءه يرسمون ريشة تبكي ، وحين يرحل أحد الكتاب الكبار فإنهم يرسمون قلما بجناحين يطير تجاه الجنة ،أما في حالة رحيل أحد الزعماء فإن الرسامين يرسمون بلدته على هيئة امرأة حزينة تبكي عليه .
وكما تسببت صفحة الوفيات في التعريف بشجرة عائلة العديد من المشاهير كانت سببا في العديد من المواقف الملتبسة خاصة مع تشابه الأسماء ، وهو ما حدث مع أنيس منصور في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس قبل الماضي حيث نشرت الأهرام نعي رحيل أنيس منصور ، وهو ما جعل الاتصالات تنهال على مدير مكتبه لتعزيته وعلى هاتفه الخاص حيث كان يقضي إجازته السنوية في مصيف مارينا للتأكد من صحة الخبر ، وتبين بعد ذلك أن الذي رحل شخص آخر يحمل اسم محمد أنيس منصور ، وهو رجل أعمال اشتهر بمفارقاته الكثيرة مع الكاتب الذييحمل نفس الاسم "أنيس محمد منصور " ولكن بصياغة أخرى
ومن المواقف الشهيرة المرتبطة بصفحة الوفيات أنه يروى أن الكاتب الراحل أنطوان الجميل رئيس تحرير جريدة الأهرام في بدايات القرن الماضي وصل إليه نعي أحد الأشخاص لينشر في صفحة الوفيات، لكن يبدو أن النعي وصله متأخرا، فكتب أنطون لعمال الجمع أسفل النعي " إن كان له مكان " ، أي ينشر إذا كان هناك مكان في صفحة الوفيات، لكن النعي ظهر في صفحة الوفيات في اليوم التالي هكذا " فلان الفلاني... أسكنه الله فسيح جناته .. إن كان له مكان " . لكن أظرف نعي شهدته صفحة وفيات هو ما نشرته صحيفة أمريكية عام 1875 خطأ عن وفاة الأديب الكبير فيكتور هوجو، وبعد عشر سنوات مات هوجو فعلا، فكتبت الصحيفة عنوانا كبيرا " نحن أول من أعلن وفاة هوجو".

18‏/11‏/2006

حفل توقيع قوم جلوس حولهم ماء

حفل توقيع جماعي للأدباء الشباب
ديوان قوم جلوس حولهم ماء
رواية ليلى أنطون
سالم الشهباني
ديوان ولد خايب
رنا التونسي
عادل سلامة
رامي يحي
ديوان صعلوك
الحفل تنظمه جماعة ورقة وقلم الادبية
بمناسبة عام على إنشائها
الاثنين 20 نوفمبر
الساعة الثامنة مساء
قاعة النهر

09‏/11‏/2006

أسطح القاهرة

أنا قلبي برج حمام
هج الحمام منه
يا اللي عنيكي كلام
ليه الضلوع أنوا

محمد منير
عالم آخر ، حياة أخرى ، كون آخر ، أنت هنا منفصل تماما عما يدور فوق الأرض ، أنت هنا بعيد عن الزحام ، والشتائم ، والصراخ ، أنت هنا معنا فوق أسطح القاهرة ، في قلب الحياة ، فوقها ، تلك الحياة التي تميزالقاهرة دونا عن غيرها ، ، من فوق الأسطح ، نقترب معا في هذا الملف ، نقترب من السماء
اقرأ فيه:ـ
الصور الأبيض والأسود في هذا الملف للفنانة راندا شعث

قريبا من السماء


أن تعيش فوق أحد أسطح بنايات القاهرة العالية أو الواطئة فهذا يعني أنك تعيش جزءاً مهماً من تاريخ القاهرة السري، التاريخ الذي لم يكتبه أحد، وإن عاشه الكثيرون، التاريخ الذي لا يعرفه البعض إلا من خلال الكتب والقصص والروايات التي تحكي عن سير البرجوازيين الذين صعدوا،فكان صعودهم يعني أن يهبطوا من الأسطح إلى الشقق السفلية ، هل هناك معنى فلسفي ما في هذا الهبوط ، أن يكون السطح ، الذي في الأعلى ملكا للفقراء ، والشقق التي أسفله للأغنياء ، الأسطح هي كنز الحكايات ، مختبر الحب الأول ، عليه يتلمس المراهقون حكايات حبهم الأولى ، عليه تتكرر الحكاية القديمة بين ابني الجيران الذين سيفرقهم الزمان ، عليه أيضا ستتكرر حكاية تحية كاريوكا وشكري سرحان في فيلم شباب امرأة عن ابن الريف الساذج وصاحبة البيت الجميلة ،عليه حكايات هؤلاء الذين قدموا من قرى بعيدة تقبع في أقصى الصعيد، أو في عمق الدلتا، بأحلام، وآمال وسكنوا هذه الأسطح، وانطلقوا منها إلى أسفل حيث الشقق الفاخرة في عمارات عالية تطل على القاهرة من فوق، أو هؤلاء الذين يحكون لأحفادهم الصغار في الإجازات الصيفية، وهم يتشمسون في بلكونات تزورها الشمس عن شباب قدامى أرادوا أن يهربوا من مراقبة البوليس السري أيام الملك فاروق، فلم يجدوا ملجأ سوى غرفة فوق سطح في بيت قديم في أحد أحياء شبرا أو روض الفرج، متلمسين خطواتهم الأولى في طريق الثورة ، الأسطح ابنة للمدينة ، وساكنو الأسطح يرتبطون بالمدينة ، وبالاغتراب ، لأن أسطح البيوت القروية البسيطة تخصص لأشياء أخرى ، فغالبا تكون مكانا لمبيت الحمام ، والدجاج ، أو فرن الخبيز ، هذه الأشياء موجودة أيضا في أسطح المدينة ، لكنها تضم إلى جوارها البشر أيضا ، أسطح القاهرة المدينة المزدحمة ، مكان جيد للهروب من الزحام ، وللفوز بميزة لا تتوفر لغالبية سكانها ، إلا وهي أنك سترى السماء ، والنجوم والقمر ، في مدينة تتكالب بناياتها على المارة فتمنعهم من النظر إلى أعلى ، فوق الأسطح عالم غريب.. وعجيب، يمتلئ بالعديد من المتناقضات، لكنه يستحق أن يعاش، وأن يحكى.
الأسطح لا يملكها أحد، لا الأغنياء، ولا الفقراء، بل هي ملك للجميع، حتى أولئك الغرباء.. الذين يأتون بلافتاتهم الكبيرة ويطلبون من صاحب البناية أن يعلقوا إعلاناتهم لتطل على القاهرة من أعلى مقابل مبلغ ما.ولكن لأن السلم الاجتماعي لا يتطلب دوماً أن يكون من يعيش فوق السطوح هو الأكثر غنى، فإننا نجد دائماً أن الحياة فوق الأسطح يحتكرها غالباً الفقراء، أو الغرباء الذين جاءوا بحثاً عن فرصة عمل، لكنهم لم يستطيعوا أن يتحملوا في القاهرة لهيب أسعار شققها، ففضلوا أن يبدأوا من أعلى (من السطوح) على أن يهبطوا بعد ذلك إلى الشقق.
تغيرت أسطح القاهرة في الفترة الأخيرة كثيراً، فقدت كثيراً من رونقها، الأصح، فقدت كثيراً من حميميتها، من تاريخها، لكن أجمل ما فيها، هو أنها قريبة من السماء، انها تجعلك تنظر إلى أعلى لترى السحاب يمر فتسبح الله تعالى، ان ترقب النجوم، وتعدها، ان كنت عاشقاً، أن تنظر إلى السماء، التي تبدو قريبة، كحبل الوريد، أحياناً، وتدعو الله أن يفرج كربك، وربما كان هذا هو ما يجعل الكثيرين يفضلون السكنى فوق السطوح. ربما لأنهم يفضلون أن يظلوا دائماً.. قريباً من السماء.

أسطح بالأبيض والأسود


أسطح المنازل بالأبيض والأسود ، تبدو أكثر حزنا ، وحزنها يبدو أكثر نبلا ، ونبلها يزداد إنسانية كلما أطلت التحديق فيه ، أسطح القاهرة ، بالأبيض والأسود كانت تجربة خاضتها المصورة المصرية الفلسطينية الأصل راندا شعث ، وقدمتها في كتاب بعنوان " تحت سماء القاهرة " آثرت فيه أن تقترب من الفقراء و المهمشين الذين يسكنون أسطح القاهرة ، يفنون فيها أحزانهم وأفراحهم .
راندا التي ولدت في يناير 1963 من أب فلسطيني وأم مصرية وحصلت على البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1985 من الجامعة الأميركية وحصلت على شهادة الماجستير في الاعلام المرئي من جامعة مينيسوتا بالولايات المتحدة الأميركية عام 1987 أقامت أكثر من 20 معرضاً فوتوغرافياً، وصدر لها العديد من الكتب المصورة مثل "وطني على مر حجر" الذي يروي مأساة اللاجئين على الحدود المصرية الفلسطينية، وكتاب "تحت سقف القاهرة" الذي يحكي قصة أسطح القاهرة ، اختارت في هذا الكتاب أن تدخل أحد أكثر عوالم القاهرة سرية ،وغربة وغرابة : أسطحها ، الحياة فوق الأسطح ، كيف يعيش الناس ، في إحدى الصور ، نرى مقهى فقيرا فوق سطح ، وفي صورة أخرى نجد عائلة أقامت فرح نجلها ورصت الكراسي ، ولنا أن نتخيل أن هذه الأسرة بعد أن عجزت عن أن يكون فرح ابنها في مركز الشباب المجاور ، أو في النادي ذي الأسعار المهاودة ، فقررت أن تقيمه فوق السطح ، وفي صورة أخرى نرى الكراكيب سمة أسطح القاهرة الفارقة ، وتفاصيل أخرى يعطيها الأبيض والأسود سمة متميزة ، وحزن نبيل .
راندا كما قالت لي تشعر أن الصورة عندما تكون أبيض وأسود تحول نظر المتلقي إلى مغزى خفي وراءها، وربما مغزى تاريخياً، على عكس الألوان التي قد تجعل الصورة مزدحمة، وتقول " أنا أرى أن اللون إذا لم يضف لكي يضيف إلى الصورة مزاجاً أو معنى فلا داعي له ويصبح مشتتاً. كما أنني أحمض وأطبع بيدي، وهذا يجعلني أتحكم في درجة الأبيض والأسود فأغمق الصورة لأزيدها كآبة أو أفتحها فتزيد حيوية، بحيث تضيف مغزى جديداً إلى الصورة.
راندا صورت في مشروع متميز لها الأرصفة ، ثم قررت أن تصعد من القاع إلى القمة لتصور الأسطح ،وتقول " الأسطح أعادتني إلى الواقع، وأشعرتني بمشكلة داخلي، أنني طوال عمري الفني أصور المهمشين الذين أحبهم، وأصور الروابط الإنسانية بيننا، والقوة التي يستمدها البسطاء من الواقع لتمضية حياتهم، وهذا هو الذي أبحث عنه في صوري، وكانت إرادة الناس تشعرني بقوتي، وتقويني لكن الأرصفة والأسطح جعلتني أشعر بضعفي، بمعانيها المختلفة، ووجدت أن الرصيف غير الكثير من القيم، فتوقفت عن إكمال المشروع، لأنني شعرت أنني أريد أن أقول شيئاً لا أعرف كيف أوصله عن طريق الصور " ، وفي كلا المشروعين صورت راندا المكان الذي تعتبره وطن الإنسان " بيت الإنسان هو وطنه، هو الشارع الذي يسير فيه، والمقهى الذي يجلس عليه، هو ذاته في بعض الأحيان، والأمكنة تكمن أهميتها لدي في الناس الذين يعيشون بها، بتأثيرهم عليها، وتأثرهم بها " .
"تحت سماء القاهرة" عنوان الكتاب المصور الذي صدر في اسبانيا عن منشورات متحف تابييس باللغتين العربية والانكليزية ، وتضمن صوراً فوتوغرافية التقطتها رندا للأسطح ، في صور راندا نرى أسطح نجيب محفوظ في ثلاثيته و علاء الأسواني في "عمارة يعقوبيان" ، وغيرها من الإعمال التي تبدو فيها الأسطح مكاناً لإقامة الأفراح ومشاهدة التلفزيون والسمر في الليالي الحارة وأيضا مظاهر التشـوه العمراني التي أصابت المدينة, فحولت السطوح إلى مكان لتربية الحمام والحيوانات الأليفة. كتاب راندا يعيد الاعتبار الى الصورة الفوتوغرافية كلغة قائمة بذاتها من خارج الممارسة الصحفيّة ، وفي هذا الجزء القريب من السماء, والبعيد عن زحام المدينة, بإمكاننا أن نرى هؤلاء الرومانسيين الأقرب إلى أبطال أفلام بركات وحسين الإمام ، والى جوارهم وجوه راغبة في التلصص على عالم سفلي يعيش تحت ضغط الحاجة ، بينما تعطيهم الدهشة فرصة التعلق بوهم الصعود الاجتماعي.

برج حمام


«أنا قلبي برج حمام.. هج الحمام منه، ياللي عنيكي كلام.. ليه الضلوع أنوا»، أتذكر أغنية محمد منير، وأنا أرمق حجرة الحمام التي تعلو أحد بيوت طملاي بمحافظة المنوفية ، حجرة الحمام التي كانت إحدى سمات الأسطح الريفية، والتي اختفت تماماً مع ظهور محلات بيع الحمام طازجاً ، حجرة الحمام كادت أن تختفي مع انتشار مرض أنفلونزا الطيور دون رجعة ، ولتصبح قبورا لكائنات بيضاء ملائكية .
«ياحبيبتي قلبي فانوس.. بس الهوى محبوس.. بكره اللي جي شموس.. في عنيكي يتحنوا» يتابع محمد منير، لكن برج الحمام، أو حجرة الحمام لم تستطع أن تحتفظ حتى النهاية بكونها ملكة متوجة فوق السطح، ولا يمكن رد غياب حجرة الحمام إلى انتشار «الحمام الطازج» فقط، بل لأن تربية الحمام، كما قال لي «محمود» صاحب البرج في منطقة المرج يحتاج إلى تفرغ، وإلى حب للحمام.محمود قال لي أيضاً إنه بنى البرج، بشكله الاسطواني الجميل الذي تطل منه فتحات يقف فيها الحمام، كأنها عيون ترقب السماء، لأنه يملك البيت، وبالتالي فهو حر في أن يبني فوق سطحه ما يشاء. وأضاف أن الحمام نقي وطاهر، وهو لا يربيه بحثاً عن الربح، بل لأنه يحبه، مع أن مكسبه كبير بالفعل. لكن سطح بيت محمود ـ الذي يقع في منطقة شبه ريفية ـ يختلف كثيراً عن الأسطح التي رأيتها من قبل، وأهم ما يميزه بخلاف برج الحمام هو حبل الغسيل الممتد بطول السطح، بالإضافة إلى حجرة للدجاج ومساحة واسعة أمامها، يلهو فيها الدجاج طوال النهار قبل الدخول إلى حجرته آخر اليوم.. يتناثر فوق السطح الحبوب والذرة، ومخلفات أخرى، مثل لعب أطفال مكسورة، دراجة بلا عجلات، زجاجات مياه فارغة، إطار سيارة، وغير ذلك.. قال محمود لي: أحب الحمام لأنه يحبني، ولأنه يحب السطح.. ولأنه يطير ثم يرجع إلي مرة أخرى، ويضيف في الفترة الأخيرة اضطررت لحبس الحمام في البيت خوفا من تفشي مرض الانفلونزا ، وتابع " خفت أن يأتي بتوع الصحة فيذبحون الحمام "، أتأمل الحمام الذي ينظر من نوافذ البرج وكأنه يغني معي " أنا قلبي كان شباك ، بس الهوى شباك ، يا بكرة بستناك ، ليك العيون حنوا " .

أسطح صناع الحياة



" سطح منزلك القديم المليء بالمهملات، وازرعه بلون أخضر جميل "، ربما كانت الجملة السابقة تصلح كإعلان لا بأس به، ولكنها، في الحقيقة، مجمل الفكرة التي تبنتها الحملة التي قام بها عمرو خالد في مشروعه صناع الحياة ، فرغم الشهرة الكبيرة لعمرو خالد ، ورغم الالتفاف الغير مسبوق حوله من قبل قطاعات كبيرة من الشباب العربي ، إلا أن النجاح الحقيقي له في ظني في مشروعه الذي اقترب فيه من هم الشباب الرئيسي في مشروعه صناع الحياة ، ورغم اختلاف روافد المشروع إلا أنه من أهم الأفكار التي طرحت كانت فكرة زراعة الأسطح ، وتحويلها إلى حدائق خضراء ، فكرة المشروع تتلخص في زراعة أسطح المبانى من خلال استخدام نظم زراعية بسيطة تستخدم تربة مصنعة خفيفة ويمكن من خلالها الحصول على منتجات صحية لا تستخدم فيها المواد الكيمائية والمبيدات الصناعية. وتصلح هذه النظم للحصول على خضروات (خيار , طماطم , فلفل , خس, كوسة , ملوخية , نعناع. الخ) كما يمكن الحصول على فاكهة مثل(الفراولة , الكنتالوب , الموالح وغيرها) بالإضافة إلى زراعة النباتات الطبية والعطرية وزراعة التوابل وزهور الزينة وزهور القطف.
ويهدف المشروع إلى زراعة أسطح المنازل و هي خطوة على طريق ربط الإنسان بالزراعة كأساس اقتصادي هام فى البلدان المتقدمة أو الأقل تقدما ، وذلك تحقيقا لنهضة زراعية شاملة.
وهناك أهداف مرحلية أيضا منها زراعة أسطح الجامعات:و هى خطوة هامة على الطريق و قد كانت الجامعات تحديدا هى المستهدفة نتيجة بعض المقومات الهامة التى ترشحها لذلك مثل:أنها هي مراكز تجمع الشباب الذي يمثل محور اهتمام المجتمع و طاقاته الفعالة ، و مركز خدمة المجتمع و منارات إشعاع الفكر والعلم .
الفكرة من المؤكد انها نجحت لأنها عزفت على اكثر من وتر لدى الشباب ، وتر فاعليتهم ،والقضاء على البطالة أيضا ، وهي نفس الفكرة التي تبنتها منظمة الأغذية والزراعة التابعة لمنظمة الأمم المتحدة (الفاو) وقامت بتبنيها في بعض الدول النامية مثل السنغال وكينيا وكولومبيا، واقترحت أن يتم تنفيذها في مصر.الفكرة كانت تستند على أن أسطح المنازل هي مساحات واسعة تملؤها المهملات و«الكراكيب»، وغير مستغلة في نفس الوقت، في الوقت الذي تحتضر فيه البيئة من غياب اللون الأخضر من شوارع المدن الخانقة، وكان المشروع يعتمد في الأساس على إضافة رئة جديدة للعالم، وتوفير فرصة عمل مناسبة لربات البيوت وللشباب، بالإضافة إلى تبني فكرة الزراعة بدون تربة ويعتمد هذا النوع من الزراعة على استخدام بيئات زراعية بديلة للتربة العادية كبيئة «البيتموس»، وهو نوع من الطحالب، ينمو في الدول الباردة، ويستخدمه بكثرة منتجو نباتات الزينة، أو البرليت وهي صخور ناتجة عن انفجارات بركانية يتم وضعها في فرن درجة حرارته ألف درجة مئوية تتحول بعدها إلى حبيبات صغيرة تصلح للزراعة ولا يشترط لنجاح الزراعة فوق الأسطح مساحة معينة، فالأنظمة المستخدمة تصلح لكافة المساحات، ولكن المطلب الأساسي أن يتم إخلاء السطح من أي مهملات تعوق وصول الشمس للنباتات المزروعة، وان يكون السطح معرضاً للشمس من 4 إلى 5 ساعات يومياً، ومعنى ذلك أن هذا المشروع لا يصلح مع الأسطح التي تحيطها المباني من كل اتجاه والتي لا يصلها ضوء الشمس بالقدر الكافي.وربما يبدو ما سبق رفاهية بالنسبة لهؤلاء الذين يبحثون عن مكان وسط الزحام.. وسط ضجيج القاهرة، ولا يجدون سوى حجرة، قد تزورها الشمس ولها باب خشبي يغلق بالكاد فوق أحد الأسطح المترامية المتراصة كعلب كبريت مفتوحة، ينطلقون منها إلى العالم الذي لا يرحم.أو هؤلاء الذين يؤجرون أسطحهم للطلبة المغتربين لكي يزيدوا من دخلهم، ولكي يستطيعوا أن يوفروا شيئاً لأسرهم حتى لو كان ضئيلاً، أو هؤلاء الذين يؤجرون أسطحهم لشبكات الهاتف الجوال رغم ما يقال عن أضرارها الصحية، لكن يبدو أن ما باليد حيلة، فالتقنية أصبحت هي سيد الموقف، أو تأجيرها للافتات الإعلانات التي تعلن عن التلفزيونات الجديدة أو الهواتف الجوالة، أو زجاجات البيبسي، وحديثاً عن أرقام الدخول إلى مواقع الإنترنت، لتتحول الأسطح إلى لافتة إعلان كبيرة.. ضلت طريقها فاستقرت فوق البنايات ، لكن رغم ذلك تظل الفكرة ، فكرة زراعة الأسطح ، جديرة بالاحترام وبصناع الحياة .

سيد حجازي


اسمه سيد حجازي ، سيد الذي كان يسكن سطح أحد البيوت الأهلية بمنطقة بولاق الدكرور ، حين تأملت غرفته الوحيدة فوق السطح والتي تتجاور مع غرفة لتربية الدجاج يملكها صاحب البيت، وجدت جدرانها تمتلئ بصور الممثلين لا سيما أميتاب باتشان، وصور كبيرة لسيلفستر ستالوني من أفيش لأحد أفلامه، تتجاور مع صورة لليلى علوي. ولوحة كبيرة مكتوب عليها بالخط الثلث آية الكرسي، لم يكن بالحجرة أشياء كثيرة ، لم يكن هناك سوى سرير صغير مفرودة عليه بطاطين وآنية طهي، ووابور قديم وأكواب شاي.. لكن سيد كان متفائلاً إلى حد كبير، و حكى لي أنه يعمل (كومبارس) ويأخذ 20 جنيهاً في اليوم. وانه يتدرب مع أصدقائه على أداء هاملت لشكسبير استعداداً لالتحاقه بمعهد المسرح..وأخذ يقرأ لي من ورق قديم في يده ، اهترأت أطرافه ، يبدو أنه تم تصويره من كتاب قديم مقاطع بصوت حاول أن يجعله متهدجا ، وقال لي " ما رأيك ، أنفع ممثل ؟ " وقال لي أيضاً، انه مقبل من إحدى قرى الصعيد، و أنه حاصل على دبلوم تجارة، وانه جرب الكثير من المهن لكن فشل فيها جميعاً، وان الجميع كان يرى فيه أنه سيصبح يوماً مثل عمر الشريف ورشدي أباظة.
سيد حكى لي أيضاً عن الأفلام التي شارك فيها، وقال انه ظهر في لقطة من فيلم البطل لأحمد زكي وهو وسط الجماهير ويصفق لأجله ويرتدي ملابس خواجة اشتراها من الوكالة ، وانه شارك في العديد من مسلسلات رمضان، وأراني صورة له وهو يقف بجوار الممثل كمال أبو رية، وأخرى له وهو يرتدي الطربوش الذي ظهر به في مسلسل «الشارع الجديد» خلف عزت العلايلي في إحدى المظاهرات، وانه كان يهتف «يحيا سعد، يحيا سعد».سيد وقف خارج باب حجرته، وقال لي انظر، حينما قمت لأنظر، أشار إلى السطوح وهو يقول: كل هذا السطح ملكي، وبهذا تكون (شقتي) أوسع ممن يسكنون بالأسفل، لا يشاركني فيه سوى غرفة الدجاج هذه (وأشار إليها باشمئزاز)، وتابع " في الليل أخرج من حجرتي، وأقف وحدي على السطح وأبدأ في تقليد الممثلين، يوسف وهبي، إسماعيل يس، عمر الشريف، شكري سرحان، وغيرهم، وأطل من فوق هذا السطح على هذه المدينة، وعلى البيوت التي أراها من أعلى، وأنا متأكد أنني في يوم ما سأهبط من السطح إلى الشقق السفلى حين سألته عن رأيه في أفلام داود عبد السيد لم يفهم ، وانتقل إلى موضوع آخر.قبل أن أترك سيد قال لي «أريدك أن تكتب لي خطاباً لأهلي في البلد (بأسلوبك الحلو) تطمئنهم علي، وأخبرهم بميعاد إذاعة المسلسل الذي سأظهر فيه».تركت سيد، وأنا أتأمل حياته، وأحلامه بأن يهبط يوماً، من الهامش إلى المتن، من أعلى إلى أسفل، أن يصبح ممثلا مشهورا ،حتى ولو لم يكن يعرف مخرج اسمه داود عبد السيد .

أم عبد الله


حالة سيد تختلف كثيراً عن حالة أم عبد الله، التي تقطن بمنطقة مصر القديمة في بيت من طابقين ، تؤجر حجراته ـ في طابقه الثاني ـ الذي يتكون من حجرات متراصة في ثلاث زوايا وبينها مساحة واسعة ترى السماء ، أما حجرات الطابق الأول فهي ملك لأخيها الذي يؤجرها بمعرفته .
أم عبد الله قالت لي إنها ورثت البيت عن أبيها، وأنها تؤجر حجراته للأسر التي تريد أن تجد سكنى رخيصة، وان الحجرة الواحدة يقيم فيها من ثلاثة إلى خمسة أشخاص حسب عدد الأبناء ، وربما أكثر .
وتستغل هذه الأسر ـ حسبما حكت لي أم عبد الله ـ هذه المساحة المفتوحة على السماء بين الحجرات للجلوس والسمر في وقت الليل، حيث يتجمع أفراد كل أسرة أمام باب بيتها أو حجرتها، لو أردنا الدقة ، و تقول " نحن نسكن هنا من زمان ، والأولاد الذين تراهم الآن ، بعضهم أنهى دراسته هنا ، ولدي بنتان تزوجتا من هنا ، جميع الأسر تعتبر أولادها إخوة ، فقد تربوا معا ، في بيت واحد " .
الحجرة ، ليست مساحة ضيقة في اعتقاد أم عبد الله التي اضطرت لتأجير غرف منزلها حتى يكمل أولادها تعليمهم ، وتجد ما تقتات به ، أبناؤها لم يفلح الكثير منهم في التعليم ، لكنها ليست حزينة لهذا وتقول " عملت اللي علي " ، وتعود للقول أن أولادها السبعة " أربعة أولاد وثلاث بنات " تربوا في الحجرة ، بعضهم كان ينام على الأرض ،والبعض على السرير ، والصيف بالنسبة لهم كان فرصة لتوسعة الحجرة ، فكانوا ينامون على السطح ، هربا من الحر ، ما كان يضايق أم عبد الله هو الشتاء الذي يمطر كثيرا ، وتقول " لكن هنعمل إيه " ، ما كانت تفعله أم عبدالله في هذه الحالة أنها تضع آنية واسعة على الأرض ، ومفرش بلاستيكي على السرير ، حتى لا تتحول الحجرة إلى بركة ، من السقف الذي لا يتوقف عن النزيف ، أما المساحة بين الحجرات فإنها تصبح بحيرة صغيرة يعوم فيها البط ،والكتاكيت الصغيرة التي تربيها أم عبد الله .
وهذه المساحة التي بين الحجرات، قد تكون شاسعة، قالتها أم عبد الله، وصعدت على سلم خشبي إلى فوق الحجرات، تبعتها لأجدها تشير بإصبعها إلى منزل قريب، وتقول بيت أبو خالد يستغل سقفه وسطوحه، لإقامة أفراح من يسكنون في البيت ،وأحيانا لأفراح آخرين يسكنون في الحارات المجاورة ،وضحك لتكشف عن أسنان ضاعت مع الزمن " تصور السطح أوسع من الشارع ".
قالت ذلك قبل أن تحكي لي عن الشوارع الضيقة، ومضايقات الشرطة لهم حينما يقيمون فرحاً في الشارع وما يتبعه من معارك ، وقالت: «منذ شهرين زوّج أبو راضي الذي يسكن في شارع مجاور ابنه البكر.. ولأنه لا يملك مالاً كافياً يكفل له أن يقيم عرسه في أحد النوادي على النيل، أو حتى في الشارع لما يستتبعه ذلك من تكاليف، فقد قرر أن يقيم فرح ابنه (على الضيق) فوق السطوح فذهب لأبي خالد الذي وافق مقابل مبلغ بسيط ، وإن لم يمنعه هذا من أن يتم جميع طقوس العرس، ويدعو جميع الأهل والأصدقاء».
أم عبد الله، قالت لي إن السطوح هنا ـ في هذه المنطقة ـ ليس كماً مهملاً مثل المناطق الراقية، بل هي جزء لا يتجزأ من البيت، وأهميته من أهمية البيت ذاته.. ففي الصيف، حينما تصبح حجرات البيت طاردة لساكنيها من شدة الحر، نستطيع أن نرش الماء في السطوح حتى تمتص الأرض درجة الحرارة، ويترطب الجو، وعندها نجلس جميعاً في الخارج.لكن أم عبد الله يبدو أنها لا تعرف سطوح الأماكن الراقية، ربما لأنها لم تعش هناك، أو لأنها تكتفي بالسماع فقط ، أو الفرجة عليها في التليفزيون ، سطوح العمارات الراقية تابعوها في التقرير التالي .

سطوح وسط البلد

سطوح بنايات وسط القاهرة عالم آخر لا يقل غرابة عن العالم الذي تحكي عنه أم عبد الله، عالم أهم سماته حجرة الغسيل، والحبال المفرودة بطول السطح، وان كان هذا لا يمنع أيضاً من وجود حجرة، أو اثنتين يمكن تأجيرهما للمغتربين، هؤلاء الذين سيفخرون بين أصدقائهم حين يجلسون على المقاهي الزدحمة بالأفكار أنهم يسكنون في وسط البلد ، من دون أن يذكروا أين بالضبط فيرفع أصدقاءهم حواجبهم دهشة وعجبا وحسدا.
والحديث عن حجرة الغسيل سيقودنا حتماً إلى الحديث عن حرامية الغسيل، ولعلنا جميعاً نذكر ذلك المشهد الساحر الساخر للفنان محمد رضا في فيلم «30 يوم في السجن» مع فريد شوقي، وكان رضا يقوم بدور حرامي غسيل وقال مقولته المشهودة «الواحد لما بيشوف الغسيل بيرفرف، قلبه بيرفرف معاه». ورغم أن هذه المهنة ـ إذا اعتبرناها كذلك ـ انقرضت أو قاربت على الانقراض، بعد أن انتقل الغسيل من السطوح إلى البلكونات هذه التي يمكننا أن نعتبرها عيون الشقق على الشارع.
لكن مع ذلك لم تنقرض حجرة الغسيل تماماً من أسطح القاهرة، بل ما زالت موجودة، وخاصة في البنايات القديمة، تلك الموجودة قبل أن يخترعوا ـ فيما يبدوـ البلكونات، أو التي ترى أنه من العيب أن يكون الغسيل منشوراً في الشارع فيراه عابرو السبيل.
لكن حجرة الغسيل والغسيل يقوداننا إلى حكاية أخرى مرتبطة بالسطح هي عشاق الأسطح، أو هؤلاء الذين تتفتح عيونهم لأول مرة على الحب فوق الأسطح، وعندها يصبح الغسيل ونشر الغسيل، وسيلة ملائمة لملاقاة بنت أو ابن الجيران، الذي ينتظر فوق السطوح.
وقد شهدت حبال الغسيل والملابس المنشورة فوقها كثيراً من القصص التي تبلورت حولها، وسواء اكتملت أم لم تكتمل، فإن السطح يظل حتى النهاية بطلا في القصة.
ورغم انتقال اللقاءات الغرامية بين العشاق من أسطح العمارات إلى النوادي والكورنيش، والمقاهي، والكافتيريات والشاتينج مع دخول الإنترنت حلبة المنافسة، إلا أن عشاق الأسطح يختلفون حتماً، لأنهم يسترقون لحظات الحب، والتعرف على ذلك الاحساس العجيب لأول مرة، تحت عيون الأهل، أو فوق عيونهم، في خوف وترقب، كما أنهم يشهدون على زمن استطاع «الشاتينج» والتعرف عبر الإنترنت القضاء عليه تماماً، وكلنا يذكر ثلاثية نجيب محفوظ، التي تحكي عن الحب في الستينات، أو الحب فوق أسطح القاهرة الفاطمية في الثلاثينات.
لكن أشهر سطح بوسط البلد هو سطح عمارة يعقوبيان ، الذي صنع أبطالها وساكني سطحها الروائي علاء الأسواني ، فعلى سطح عمارة يعقوبيان التي تقع في وسط البلد ، نجد البواب ، وابنه الذي حين يفشل في دخول الكلية التي يريدها ، وبعد أن تصفعه الحياة بقوة ، يتحول إلى إرهابي ، عليه أيضا نجد البنت التي تسعى للصعود في سلم الطبقات الاجتماعي ، والتي تعمل في أحد محلات وسط البلد وتتعرض للتحرش من صاحب المحل الذي تعمل فيه ، عليه أيضا نجد الترزي اليهودي ، عليه نجد عوالم غريبة ،وكائنات مختلفة جديرة بوسط البلد ، أو بأسطح وسط البلد .

جاموسة فوق السطح


اسمعوا هذه الحكاية " أرجو أن تصدقني فهذه حادثة وهي معروفة لأنني كتبت عنها فكان لها طعم الفضيحة، فقد فوجئت بأن فوق سطح البيت المجاور لنا وفي الدور العاشر: جاموسة، نعم ج.ا.م.و.س.ة، وأدهشني ذلك، فصعدت على السلم لأرى، وطلبت من أحد المصورين أن يلتقط صورة أوضح، جاموسة فوق السطوح، لا بد أن تأكل وأن تكون لها مخلفات وللمخلفات رائحة وأنها بحيرة جذب للذباب، وان هذا الذباب سوف ينتشر في كل الاتجاهات، أما الروائح ففي كل أنف، كيف؟ أما كيف فالأمر سهل، لقد أتوا بها صغيرة جداً، ودفعوها في الأسانسير إلى الطابق العلوي وتربت وترعرعت على هذا المستوى الرفيع ، وكان لا بد أن تختفي، وذبحوها واختفت، ولكن المعنى ما يزال قائماً: وهو أن آخرين عندهم نفس الاستعداد في جعل السطح حظيرة للطيور أو الأغنام ـ أغنام الضحية " هذه الحكاية الجميلة الغريبة هي حكاية شهيرة رواها الكاتب الكبير أنيس منصور ، لكنها تكشف أحد الأبواب السرية لأسطح القاهرة ، حيث يتحول السطح إلى شارع يحوي كل شيء ، حكيت لكممن قبل ، عن مقهى مقام فوق سطح ، ولا تسألني كيف يصل الناس إليه ، ولا من هم رواده ، لكن المأساة التي تكشفها الحكاية تنقسم إلى جزءين ، هو ضيق الشقق مما يدفع الناس بتهريب حاجياتهم إلى الأسطح ،والجانب الثاني أن هذه الأسطح في حالة غياب سمة السكنى عنها تتحول إلى سلة مهملات ، من الممكن أن تضع فبها أي شيء دون اهتمام بأن هذه الأسطح تسقط عليها عيون الجيران القريبة .

05‏/11‏/2006

الحب خلف قضبان المترو


لسنوات طويلة ، لم أستطع أن أحذف من ذاكرتي مشهد عبلة كامل ، وهي تجلس في محطة المترو تنتظر أحمد ذكي ، في فيلم هستيريا ، يقفز المشهد وهي تقوم بعمل التريكو ، يمر عليها المترو تلو الآخر ، وهي لا تيأس من الانتظار .
أتذكر هذا كلما دخلت محطة المترو لأجد ولدا وبنتا يجلسان متجاورين ، لا يعيران المترو الذي يمر أي اهتمام ، ينظران إلى عيون بعضهما ، يقرآن الحب الذي يدق على قلوبهما في عنف لأول مرة ، يحمر وجه البنت خجلا ، ويطأطئ الولد ، الذي يخطو خطواته الأولى تجاه المراهقة ، في خجل ، يتوقف المترو، ينزل أناس ويصعد آخرون ، ويهرول البعض قبل أن يغلق الباب ، لكن الولد والفتاة لا يريان كل هذا ، إنهما غارقان في الحب ، هنا في المترو .
المترو الآن يلعب دورا جديدا إلى جانب دوره في نقل الركاب إلى شتى مناطق القاهرة ، إنه يقوم بكتابة قصص الحب على جدرانه ، ينقشها على الرغم من أعين المتلصصين والرافضين ، يشهد على قلوب تدق لأول مرة ، على ورود تختفي داخل كراريس البنات ، ورسائل حب في حقائب الأولاد وداخل محافظهن .
تصبح محطات المترو مكانا مناسبا للانتظار، تستطيع أن تلمح ، ولا سيما في أيام المدارس ، البنات اللائي يجلسن ، في انتظار هبوط ولد من القطار القادم ، تظل عيونهن معلقة بالعربات ، حتى تفرغ من فيها ، فيصبن بخيبة أمل ، ثم ينتظرن المترو القادم ، فربما يأتي بشيء جديد .
حكايات الحب في المترو تبدأ عادة مع الأولاد والبنات الذين يركبونه ، للذهاب إلى مدارسهم في الصباح ، بمختلف أعمارهم ، ومع الذين يمرون بتغيرات فسيولوجية ، يصبح المترو ، مكانا مناسبا لاكتشاف الجنس الأخر ، المترو الذي يبدو كمملكة كبيرة ، لا يعرف أحد فيها الآخر ، يصبح مكانا مناسبا أيضا للقاء المحبين الكبار ، مكانا غير مكلف ، لا يوجد فيه ، بائع " حاجة ساقعة " رزل ، أو جرسون كافيتريا يستغل قصة الحب البريئة ليطلب أسعارا مرتفعة لمشروباته ، كما يصبح المكان الذي يبدو مناسبا للعودة في أي وقت عندما تنظر البنت إلى ساعة هاتفها المحمول وتقول "يا نهار إسود اتأخرت " ، فتجمع حاجياتها ، وتستقل أول مترو عائد ، ولا تنسى أن تنظر إلى عيون حبيبها من خلف زجاج المترو الذي ينطلق .
يصبح المترو في أحيان كثيرة حلا وسطا للكثيرين من العشاق الذين لا يملكون رفاهية الجلوس في الأماكن المكيفة المغلقة ، والذين يخافون من الرقابة المجتمعية في الأماكن المفتوحة ، والذين لا يملكون أيضا سوى جنيه ثمن تذكرة المترو التي تكفي للذهاب والإياب ،لأنهما لن يخرجان من المترو ، وفي أحيان كثيرة ، يبدو الموضوع مجانيا إذا كان مع كل منهما اشتراك .
أسوأ ما في قصص الحب في المترو هو الانتظار ، يصبح عليك في أحيان كثيرة ، أن تتحملي النظرات الفضولية ، فتحاولين ان تنشغلي بالقراءة في كتاب لا تفهمين ما فيه ، أومتابعة فيلم كارتون أبله ، او اإنيات مسفه في التليفزيونات المعلقة حتى يأتي الحبيب ، أما إذا لم يأتي ، فسيكون لزاما عليك ، أن تقومي لتستقلي المترو القادم ، أن تجلسي بجوار الشباك ، وأن تتصفحي بعينيك وجوه المارة في تشبث أخير بالأمل ، ولا تنسي أن تنفخي في زجاج الشباك ، وترسمين في البخار المتجمع ، قلبك الوحيد ، ذلك المجروح .

02‏/11‏/2006

حزين لأني لا أبرئ الأكمه ولا الابرص


حزين لأني لا أبرئ الأكمه ولا الأبرص
نشر في إيلاف
سلوى اللوباني
من الصفحة الاولى للمجموعة الشعرية الثالثة للشاعر "محمد أبو زيد" تعلم بأن الحزن بانتظارك بين أبيات قصائده، فقد بدأ مجموعته الجديدة باللغة الفصحى "قوم جلوس حولهم ماء" الصادرة عن دار شرقيات بهذه الابيات ...حزين لأني لا أُبرئ الاكمه والابرص..ولا أحيي الموتى..لا أخبئ الديناصورات في حقيبتي من العواصف..ليس لي جيوب أربي فيها المطر ولا عيون أعيرها للعمي..ولا مقاعد فارغة أهديها للعاشقين..ليس لي حبيبة..ولا أصدقاء..ولا قصائد راقصة..محمد أبو زيد من الشعراء الشباب يعمل صحافياً في جريدة الشرق الاوسط، صدر له مجموعتين شعريتين "ثقب في الهواء بطول قامتي" و"نعناعة مريم"، أبو زيد يكتب قصيدة النثر التي يرفض البعض اعتبارها شعراً على حد تعبيره، والجدير بالذكر أنه كتب الشعر بأنواعه حيث بدأ صغيراً بكتابة القصيدة العمودية، ثم كتب القصيدة التفعيلية، ثم قصيدة النثر، وبالرغم من ذلك هو مبهور بشاعر العامية المصري "فؤاد حداد" وبشكل خاص بالشاعر السوري الراحل "محمد الماغوط" واللبناني "وديع سعادة"، والفلسطيني "محمود درويش" وغيرهم

الحزن حالة جيل بأكمله:
وما يلفت النظر في ديوانه الجديد أنه يحمل كماً من الحزن والاستسلام...فهو لا يرى ما يبهج في الحياة...ويقول الحزن هو حالة جيل بأكمله، تتوالى عليه الهزائم النفسية، جيل بلاعمل، بلا مستقبل، بلا تحقق حقيقي، بلا حبيبة، بلا أصدقاء، جيل يهاجر لأنه أصبح بلا وطن، جيل يكتب في الوقت الذي انفض فيه الناس عن القراءة، جيل يكتب وكأنه يلهو، لأنه يدرك جيداً أن أحداً لن يقرأه!! فالقارئ لم يعد يفهمه.. ولا يرغب حتى في ذلك، وربما نجحت الأجيال السابقة في أن تفضه تماماً عن القراءة!! يعتبر أبو زيد أن جيل الشباب.. جيل مهزوم نفسياً، هزيمة أقسى من هزيمة جيل 67، ويوضح أن الحزن الذي في الديوان لا يتعامل معه كعدو، بل كصديق يستسلم له، فلم يعد يخافه، بل يلاعبه، ويضحك معه، ويجلس معه على المقهى، ويحتسي معه القهوة، يقول...الحزن أصبح تفصيلة عادية تماماً في حياتي، وفي قصائدي، أفكر كيف أتعامل معه، ما الذي يرضيه، ما الذي لا يجعله لايغضب مني، لا كيف أتخلص منه، لقد ألفته لدرجة أنني صرت أخاف انفضاضه عني
!
ينادونني في الشارع ياميت:
الديوان مقسم الى 4 أجزاء الاول "كأننا والماء من حولنا" والثاني "كم جناحاً لك يا ميرفت" "جثث قديمة" والرابع "سوف أهذي" كتب من خلالهم أبياته الشعرية عن المدينة وظلمها وحنينه للقرية وصورة العائلة وشجنه للحبيبة..وانكساره وحزنه على قيم الماضي والحاضر... وبدا ذلك في قصيدته "ينادونني في الشارع يا ميت"...سوف نكبر..ونصبح مثل الذين نأسى لهم الان...سنخاف على أولادنا.. وسيكرهون ذلك.. لن يقوم لنا أحد في الباص.. لن يساعدنا أحد في صعود السلم.. ولن يدعو لنا أحد بطول العمر.. ستختفي العصي.. ونسقط من دونها.. ستضحك المراهقات بعنف من صلعاتنا.. ويدفعنا الشباب لكي نكح.. حين يمر كعب عال، وعن هذه القصيدة يقول أبو زيد... كتبتها حين أكملت عامي الرابع والعشرين، قد لا يكون هذا حدثاً مفصلياً في العالم، لكنه كذلك بالنسبة لي، وجدتني فجأة في لحظة منفصلة عن العالم، استعدتني صغيراً، وبعد فترة من الزمن، لأكتشف أن العالم يزداد سوءاً، لذلك النص تتبادل مقاطعه الحديث بين صوتين، صوت يتحدث عن المستقبل، وصوت عن الماضي، لأكتشف في النهاية أنني ميت، وأن أربعة وعشرين عاماً أكثر مما يجب

قوم جلوس حولهم ماء
يرثي أبو زيد كل ما حوله في قصائده..ذاته طاغية على شعريته..ذات يائسة..هاربة من واقعها المؤلم، ففي قصيدة فستان حمل لسيدة شبه متزوجة يقول... لماذا أصبحنا قساة الى هذه الدرجة، لا نضحك لاشارات المرور..ننهر الفئران في أطباق الطعام..نركب المترو بلا رحمة..-وفي أبيات اخرى-.. كلما اكتسبت صديقاً...أجد دمي يلطخ الحائط..ويعرف أن البحر بلا قوارب نجاة..لم نعد بشراً بما يكفي.. سنصطدم في زحفنا بالدمامل والقيح.. سنأكل جثث الذين مازحونا..حتى التي غادرها زوجها..ستبدي كراهية مبيتة لفيروز..ستضحك من أظفارها حين يعود الورثة الى الشقة، وهذا الواقع الذي يرثيه الشاعر أبو زيد هو الواقع الذي يعيشه، وهو يستحق الرثاء والشفقة معاً على حد تعبيره، يقول.. الواقع أصبحت الكتابة فيه أختاً للعنقاء والرخ، فكيف تكتب!! ولمن تكتب!! ولماذا تكتب!! أسئلة موجعة بحق، الأصح قاتلة، الكتابة في هذا الواقع أصبحت بالنسبة لي بديلاً عن فعل الموت، حينما أصل إلى حافة اليأس الإحباط، أكتب قصيدة، هرباً بها، الكتابة إذن مهرب مناسب لذوات يائسة، كتابة قصيدة جديدة أيضاً أصبح معناها هزيمة جديدة، أما قصيدته "قوم جلوس حولهم ماء" يوضح بان القوم هم الذين يجلسون ينظرون في ذهول حولهم لا يعرفون ماذا بإمكانهم أن يفعلوا، هم الذين صمتوا حتى حاصرتهم المياه، وتكاد أن تغرقهم وهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا، هم نحن، هم أيضاً الذين يجلسون يتأملون مصيرهم بهدوء وجنون غريب، لذلك تجده يرثي ذاته، يرثي الاصدقاء والحياة والاطفال، ويقول...أرثي حكايات لم أستطع كتابتها، قصص حب لم أعشها، أحلاماً أجهضت، قصائد لم تكتمل، أرثي مجتمعاً بالكامل يسقط، يسقط باستمرار، يسقط بإصرار غريب، كل ملامحه تضيع، أرثي عبد الناصر وعصره، الحلم الذي لم يكد يتبلور حتى فاجأته النكسة، ثم عصر الانفتاح، ثم الخصخصة، أرثي حلم وحدة عربية فشلت في أعوامها الأولى.