يفاجئني رشوان أن القصص حرام ، فأحدق فيه مذهولا ، رشوان الذي غضب حين مازحته أن أقصى أمنياتي أن أشترى جلبابا أبيض قصيرا كالذي يرتديه وقال في صرامة : الموت في سبيل الله أقصى أمانينا يا أخى .
ربما كان قيام زلزال 1992 هو السبب في انقطاعي فترة عنه ، لكن الأستاذ جمال مدرس الانجليزي فاجأني برسالة منه تطمئني على أحواله حين رددت عليها بأخرى وجدته يكلمني في أمور الدين ، الرسالة الثالثة رددت عليها بأنني أوافق على طلبه وأقبل الانضمام إلى الإخوان المسلمين ، البداية لم تكن هكذا يا زينب أنا القروي الصغير الذي فوجئ في أول يوم له بعد انتقاله من القرية إلى المركز للدراسة في الصف الأول الإعدادي بالذي يعلق في جيبه ميداليه عليها سيفان متعانقان ومصحف ، وكلمة "وأعدوا " ، أساله ذاهلا : هو د ه مش رمز ..
قاطعني : وطي صوتك ، وسألني عدة أسئلة ، ثم قال : هعـرفك على واحد حيفيدك قوى .
يوم الجمعة أذهلني وأنا عائد من الحقل أسوق أمامي حماره البرسيم وأرتدى فانلة مقطوعة عند الكتف وبنطلون جينز مخفف كتب عليه بالانجليزية رامبو بكلام جارنا عبدالجليل ، وأن هناك ضيوفا ينتظروني ، كانت هذه هي الزيارة الأولى له لي في البيت ، والتي يعرفني فيها على عبدالرازق الذي هتف عندما رأى رواية " قلب الليل لنجيب محفوظ بين كتبي : هو أنت منهم ، يابنى د ى القصص حرام
كدت أندب : يانهار أسود ، حرام ؟
ـ طبعا لأن عندنا من القصص التاريخية التي بها مواعظ وحكم ، ما يغنينا عن تأليف القصص ، والضحك على ذقون الناس ، ألا يعد تأليف القصص اختلاقا والاختلاق كذب والكذب حرام ؟
عيناي المتسعتان بالدهشة حاولتا إثناءهما عن الرحيل المبكر بعد صلاة العصر وجارنا عبد الجليل الذي هرول بأكواب الليمون إلى باب المسجد ظل يذكرهما بعد ذلك طويلا.
حين كنت أسير معه كان يجب على نساء الشارع أن يتوارين من أمام عيني وعلى داود عبد السيد ومحمد منير وكونديرا أن يلموا أمتعتهم ويرحلوا من ذاكرتي أن تنضم كتب بديلة إلى كتبي القليلة عن عذاب القبر وسكرات الموت ورسائل حسن البنا ، وحكم حلق اللحية .
كان على الولد المراهق داخلي أن يختبئ خجلا كلما قابلته ، وان أبدو صالحا أصلى التهجد كل ليلة ، لا اقرأ روزا ليوسف ولا صباح الخير ولا أحب جريدة الدستور ولا سعاد حسنى ، لا أراقب أفخاذ راقصات أوبريتات الأفلام الأبيض والأسود ، أن يقتلني الإحساس أنه يزرع في شعري جهاز تنصت ، أنه يرسل من يراقبني انه يعرف كل ذنوبي الصغيرة ، أن أحفظ ( الله غايتنا والرسول إمامنا والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أحلى أمانينا) .
أن أتخلى عن وجهي ، وأن ارتدى وجها آخر، أحاول جاهدا أن اظهر في جبهته علامة الصلاة بالإكثار من السجود وحك الجبهة بالأرض ، ألا أخطئ حتى لا أفقد الصديق الذي انتشلني من الوحدة التي أكلت روحي ، الوحدة التي فرضتها على طقوس القراءة والكتابة والكآبة .
حين انتوينا أن نصدر مجلة أسميناها النذير كتبناها بخط اليد وصورناها ووزعناها على الأصدقاء ، حذرني من أن تسقط في يد أحد الوكلاء أو المدرسين لأنهم ( شغالين ) في أمن الدولة ، كان الوحيد الذي يضع اسمه على المجلة هو عبد الرازق ، عبد الرازق الذي صرخ في وجهي ذات يوم : بذمتك صليت الصبح النهارده .
حينها تركته وهرولت مبتعدا غاضبا ، وربما هربا من الإجابة على السؤال ، بعد يومين سمعت أنه ( اتاخد )..
كانت كلمة جديدة في قاموسي ، مرعبة وقاسية ، لأول مرة أشعر بخطورة ما أنا منهمك فيه ، قال لي رشوان يومها : ولا يهمك ، كل معركة وليها شهداء ، وبعدين أنا حذرتكو من الوكيل الزفت ده ، المجلة دي إزاي وقعت في إيده.
الأستاذ جاد مدرس الانجليزي فاجأني بكتاب صغير اسمه الدعوة الفردية أو كما قال : " د. ف " الكتاب ده باعته ليك صاحبك .
حين قابلته عرفت أن الكتاب يعلمنا كيف نستقطب الآخرين إلى صفوف الجماعة في سبع خطوات ، وضحك وهو يضيف : لكن إنت عملته معاك في تلات خطوات بس ، عشان كنت عضو جاهز .
وحين فشلت في ضم أي صديق طلب منى رسائله التي أرسلها لي حتى يقوم بحرقها ، ومجلات الاعتصام واللواء الإسلامي والدعوة التي أعارها لي ، وصرخ في وجهي : مش عارف تجيب أخ واحد ، أنت مش نافع في أي حاجة .
كانت المرة الأولى التي أراه فيها غاضبا ويداه تر تعشان في عنف ، نفس الارتعاشه التي كان يرتعشها ونحن في صلاة التهجد وهو يدعو: (يا من ذل كل شيء لعزته ، يا من انقاد كل شيء لخشيته ، يا من تشققت الجبال من مخافته يا من قامت السموات والأرض بأمره سبحانك لا اله إلا أنت) .
لم تكن قدماي تحتملان الوقوف كثيرا ، فكنت أجلس في إثناء الصلاة ، وأجلس معه كثيرا فلا يستطيع إقناعي بكراهية عبد الناصر ولا استطيع إقناعه بكراهية السادات ، كان يقول لي : أنا حاسس انك بتنفلت من بين صوابعي ، إنت الوحيد اللي مش قادر أتحكم فيه ، إنت الوحيد اللي بيناقشني .
الأستاذ جاد استدعاني ذات مرة وقال لي : صاحبك أتقبض عليه .
أهرول معه إلى مقر أمن الدولة في ( طما ) لأرى عربة السجن تتأهب للانطلاق ووجهه يبص علىّ من نافذة العربة المسورة .. عيناه تضيئان بينما يرفع إصبعي يده اليمنى بعلامة النصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية بنفس الاسم تصدر قريبا لمحمد أبو زيد
قاطعني : وطي صوتك ، وسألني عدة أسئلة ، ثم قال : هعـرفك على واحد حيفيدك قوى .
يوم الجمعة أذهلني وأنا عائد من الحقل أسوق أمامي حماره البرسيم وأرتدى فانلة مقطوعة عند الكتف وبنطلون جينز مخفف كتب عليه بالانجليزية رامبو بكلام جارنا عبدالجليل ، وأن هناك ضيوفا ينتظروني ، كانت هذه هي الزيارة الأولى له لي في البيت ، والتي يعرفني فيها على عبدالرازق الذي هتف عندما رأى رواية " قلب الليل لنجيب محفوظ بين كتبي : هو أنت منهم ، يابنى د ى القصص حرام
كدت أندب : يانهار أسود ، حرام ؟
ـ طبعا لأن عندنا من القصص التاريخية التي بها مواعظ وحكم ، ما يغنينا عن تأليف القصص ، والضحك على ذقون الناس ، ألا يعد تأليف القصص اختلاقا والاختلاق كذب والكذب حرام ؟
عيناي المتسعتان بالدهشة حاولتا إثناءهما عن الرحيل المبكر بعد صلاة العصر وجارنا عبد الجليل الذي هرول بأكواب الليمون إلى باب المسجد ظل يذكرهما بعد ذلك طويلا.
حين كنت أسير معه كان يجب على نساء الشارع أن يتوارين من أمام عيني وعلى داود عبد السيد ومحمد منير وكونديرا أن يلموا أمتعتهم ويرحلوا من ذاكرتي أن تنضم كتب بديلة إلى كتبي القليلة عن عذاب القبر وسكرات الموت ورسائل حسن البنا ، وحكم حلق اللحية .
كان على الولد المراهق داخلي أن يختبئ خجلا كلما قابلته ، وان أبدو صالحا أصلى التهجد كل ليلة ، لا اقرأ روزا ليوسف ولا صباح الخير ولا أحب جريدة الدستور ولا سعاد حسنى ، لا أراقب أفخاذ راقصات أوبريتات الأفلام الأبيض والأسود ، أن يقتلني الإحساس أنه يزرع في شعري جهاز تنصت ، أنه يرسل من يراقبني انه يعرف كل ذنوبي الصغيرة ، أن أحفظ ( الله غايتنا والرسول إمامنا والقرآن دستورنا ، والجهاد سبيلنا ، والموت في سبيل الله أحلى أمانينا) .
أن أتخلى عن وجهي ، وأن ارتدى وجها آخر، أحاول جاهدا أن اظهر في جبهته علامة الصلاة بالإكثار من السجود وحك الجبهة بالأرض ، ألا أخطئ حتى لا أفقد الصديق الذي انتشلني من الوحدة التي أكلت روحي ، الوحدة التي فرضتها على طقوس القراءة والكتابة والكآبة .
حين انتوينا أن نصدر مجلة أسميناها النذير كتبناها بخط اليد وصورناها ووزعناها على الأصدقاء ، حذرني من أن تسقط في يد أحد الوكلاء أو المدرسين لأنهم ( شغالين ) في أمن الدولة ، كان الوحيد الذي يضع اسمه على المجلة هو عبد الرازق ، عبد الرازق الذي صرخ في وجهي ذات يوم : بذمتك صليت الصبح النهارده .
حينها تركته وهرولت مبتعدا غاضبا ، وربما هربا من الإجابة على السؤال ، بعد يومين سمعت أنه ( اتاخد )..
كانت كلمة جديدة في قاموسي ، مرعبة وقاسية ، لأول مرة أشعر بخطورة ما أنا منهمك فيه ، قال لي رشوان يومها : ولا يهمك ، كل معركة وليها شهداء ، وبعدين أنا حذرتكو من الوكيل الزفت ده ، المجلة دي إزاي وقعت في إيده.
الأستاذ جاد مدرس الانجليزي فاجأني بكتاب صغير اسمه الدعوة الفردية أو كما قال : " د. ف " الكتاب ده باعته ليك صاحبك .
حين قابلته عرفت أن الكتاب يعلمنا كيف نستقطب الآخرين إلى صفوف الجماعة في سبع خطوات ، وضحك وهو يضيف : لكن إنت عملته معاك في تلات خطوات بس ، عشان كنت عضو جاهز .
وحين فشلت في ضم أي صديق طلب منى رسائله التي أرسلها لي حتى يقوم بحرقها ، ومجلات الاعتصام واللواء الإسلامي والدعوة التي أعارها لي ، وصرخ في وجهي : مش عارف تجيب أخ واحد ، أنت مش نافع في أي حاجة .
كانت المرة الأولى التي أراه فيها غاضبا ويداه تر تعشان في عنف ، نفس الارتعاشه التي كان يرتعشها ونحن في صلاة التهجد وهو يدعو: (يا من ذل كل شيء لعزته ، يا من انقاد كل شيء لخشيته ، يا من تشققت الجبال من مخافته يا من قامت السموات والأرض بأمره سبحانك لا اله إلا أنت) .
لم تكن قدماي تحتملان الوقوف كثيرا ، فكنت أجلس في إثناء الصلاة ، وأجلس معه كثيرا فلا يستطيع إقناعي بكراهية عبد الناصر ولا استطيع إقناعه بكراهية السادات ، كان يقول لي : أنا حاسس انك بتنفلت من بين صوابعي ، إنت الوحيد اللي مش قادر أتحكم فيه ، إنت الوحيد اللي بيناقشني .
الأستاذ جاد استدعاني ذات مرة وقال لي : صاحبك أتقبض عليه .
أهرول معه إلى مقر أمن الدولة في ( طما ) لأرى عربة السجن تتأهب للانطلاق ووجهه يبص علىّ من نافذة العربة المسورة .. عيناه تضيئان بينما يرفع إصبعي يده اليمنى بعلامة النصر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية بنفس الاسم تصدر قريبا لمحمد أبو زيد