حاوره: علي رزق
الغربة والفقد.. تيمتان شعريتان طالما أثريتا
المنجز الإبداعي لعدد كبير من الأسماء اللامعة، لكنهما عند الشاعر محمد أبو زيد
عماد مشروعه الشعري الذي ولد مكتملا أو شبه مكتمل مع ديوانه الأول "ثقب في
الهواء بطول قامتي"، لتأتي أعماله اللاحقة لتؤسس للمشروع ولفرادة الصوت
الشعري.
لأبو زيد ـ بخلاف تجربة وحيدة في الرواية
"أثر النبي" ـ تجربة شعرية للأطفال "نعناعة مريم"، ويواصل أبو
زيد خطواته الشعرية راسماً مساراً يخص
الذي لا يعرف أحداً ولا يعرفه أحد، كما يقول في إحدى قصائده.
التجديد على مستوى "المفردة" كان
سمة ملازمة لكتابات أبو زيد، وصولاً إلى
منطقة قد لا يخاطر الآخرون بارتيادها، فهو
الأزهري الجنوبي المثقل بالموروث اللغوي الذي يكتب قصيدة بعنوان no news is good news ، وهو الذي يختار المفردة القرآنية
"مدهامتان" عنوانا لقصيدة
وديوان، ولا يتورع بعنونة قصيدة "أعلق صورتي على الحائط وأكتب تحتها wanted.
خطا أبو زيد سريعا على طريق الغياب ليترسخ
حضوره الشعري في مشهد صاخب، ولتكتسب تجربته الكثير من الأهمية رغم وحدته، في
القصيدة وفي الحياة العامة.
**أبوزيد ..متي خلعت زيك الازهري ..وما الذي
بقي منه في قصيدتك؟
لم أخلع زيي الأزهري بعد. ربما لأنه منحني
اللغة والفهم العميق للتراث والقراءة المتأنية لتاريخ الأدب العربي. ستجد ذلك كله
في معظم دواويني، ربما قلت وطأته قليلاً، لكنه لا زال موجوداً. في ديواني
"مدهامتان" وضعت صورة تعريفية لي على الغلاف الداخلي، وأنا بعد طفل
أرتدي الزي الأزهري، ربما تصلح هذه الصورة التي استعدتها أن أقول أنني ممتن لهذا
الزي الذي منحني الكثير، وربما كان أيضاً رغبة في الاشتباك معه، وهو ما جعل الديوان
يقفز بين أنواع القصيدة الثلاث (العمودي ـ التفعيلة ـ النثر)، اسم الديوان نفسه
"آية من القرآن الكريم". إذن ربما لم أخلع زيي الأزهري، لأنني أرى أنه
أفادني كما أنه يميزني، لكنني سعيت ـ وأطمح أن أكون نجحت ـ في أن أطوره عبر
الاشتباك تارة، والقفز عليه تارة، ومحازاته تارة أخرى.
**قلت في واحدة من شهاداتك ان "صدمة
المدينة " لم تستوعبها الا قصيدة النثر " رغم سابق كتابتك للقصيدة
الخليلية والتفعيلة ..ما هو الفضاء الذي وجدته في قصيدة النثر ولم تجده في غيرها
..وما الذي بقي في القلب من صدمة المدينة ؟
الكتابة ـ أياً كان شكلها ـ تتغير وتتطور،
لأنها مرآة للزمن. ولن يكون منطقياً أن تتوقف القصيدة ـ شكلاً ومضموناً ولغة ـ عند
زمن معين. وهذا الكلام ينطبق أيضاً على قصيدة النثر،التي لن تكون الشكل الأخير
للقصيدة، هناك تطور قادم، هناك محاولات مختلفة في اتجاهات متباينة، شاهد مثلاً
القصائد التي تكتب عبر حسابات التواصل الاجتماعي، تويتر على سبيل المثال، عدد
كلماتها، آليات كتابتها، وحتى آليات تلقياتها. عندما جئت المدينة أول مرة قفزت
قفزة هائلة عبر الزمن يدركها كل من انتقل من قرية فقيرة إلى عاصمة لا تسكن أبداً. لم
تكن القصيدة التفعيلية بغنائيتها صالحة لهذا الصخب، بل كان صراخ قصيدة النثر هو
العكاز الذي أستند إليه في مواجهة وحوش تختلف تماماً عن كل ما رسمته مخيلتي من
أحلام. لكن مع مرور الوقت، ومع اعتياد القلب على الهزائم الأسمنتية، تصبح القصيدة
هي حائط الصد الوحيد، بعد أن تعتاد غربتك، بعد أن تتآلف معها، وبعد أن تجرب غربة
أخرى، في المكان والزمان، في بلاد أخرى، لا تتبقى إلا القصيدة التي تجبر شيئاً
يتحطم فيك كل ما انتقلت من زمن ومكان إلى آخر.
** عندما تلجأ الي مفردة قرآنية او تراثية
..فهل يعني هذا غلبة "سفر التكوين " علي الشاعر المتمرد ..وكيف هي
علاقتك بالمفردة الشعرية اجمالا؟
هذا تراثي وأنا أعتز به وأحبه، وأفضل أن
أطوره على أن أتركه مهملاً، هذا لا يعني أنني أحضر مفردات معجمية مهجورة من التراث
وأضعها كما هي، بل أحياناً أستخدم مفردات مهجورة لأنها شديدة الاستخدام، أو لأنها
"أكليشيه"، وأعيد وضعها في النص في سياق مختلف. لا أرى أن هناك أي مفردة
ـ سواء كانت عامية أو فصحى أو حتى بلغة أجنبية ـ لا تصلح للشعر، لكن السؤال هو كيف
يتم استخدامها.
** مازلنا مع المفردة ..والسؤال عن تطعيم
الجملة الشعرية بمفردة عامية "قلبي مربوط برجل الكنبة " أو انجليزية
مكتوبة بالأحرف اللاتينية وهذا كثير في شعرك
أهتم بتشكيل النص عموماً، بمعنى أنك لو نظرت
لكل ما كتبت من بعيد، ستجد أن هناك نصوصاً في الدواوين المختلفة مرتبطة ببعضها،
وشخصيات تظهر في الدواوين بصفة متكررة، ولو نظرت لكل ديوان على حدة، ستجد اهتماماً
ببناء الديوان ككل، سواء عبر التقسيم أو الترقيم، أو الهوامش والإشارات والمراجع،
ولو نظرت إلى كل نص على حدة، ستجد اهتماماً بالعناوين بصفة خاصة، وبإعادة تقديم
المفردات المتداولة بشكل شعري، أو بدمج العامية مع الفصحى، وتقديمها بشكل شعري،
وأعتقد أن المفردة ـ وهي أصغر وحدة في النص ـ ينطبق عليها كل ما سبق، فهي بمثابة
اللبنة التي تكون بجانب لبنة أخرى جملة مختلفة مميزة. لا أقول إن كل هذا مقصود عند
كتابة القصيدة، لكني أعتبره جزءاً من مشروع كبير أعمل عليه.
..شاعر يفقد ذاته ..بضعا تلو الاخر
** في القصيدة وفي بعض الحوارات تحدثت عن
معاناة الفقد المتتالي ..فهل تراه ــالفقد ــ وحشا صارعك فصرعك ، أم حفرة وثقبا
اسود يبتلع الاحبة وينعكس في القلب ؟
لم تعد هناك وحوش تخيف. أعتقد أنني فهمت لعبة
الموت مبكراً، ربما بسبب رحيل الأحبة في عمر مبكر، فلم أعد أخافه، ورغم حضور الموت
ـ والفقد بالتالي ـ في كل الدواوين، بداية
من الديوان الأول ـ ثقب في الهواء بطول قامتي ـ إلا أنه لم يحضر بصفته وحشاً، بل
بصفته صديقاً، أتحاور معه، ربما يمكن اعتبار الأمر خدعة، كي لا يخطف أحبة آخرين،
ففي كل مرة يفعل ذلك يترك ندبة سوداء كبيرة في القلب، لا تلتئم أبداً، لكنها تجعل
الأيام أثقل وأكثر سوداوية، وتجعل الموت ذاته رفيقاً دائماً، لا تخافه، لكنك لا
تأمنه في الوقت نفسه.
**هل يعتاد المرء الفقد يوما ؟
في أحد نصوص الديوان الأخير أقول إن "الصدفة
تأتي في موعدها كل أسبوع"، أعني أنك حتى لو اعتدت الفقد سيظل فقداً، يؤلمك،
ويحفر جرحاً عميقاً في روحك، ربما تعتاد الجراح، لكنك ستظل تتألم. لكن أقسى ما في
الأمر أن كل هذه الأشياء/ الأشخاص الذين تفقدهم يكوّنون ذاتك، حكاياتك، أيامك،
فتكتشف أنك تفقد نفسك يوماً بعد الآخر، حتى تتلفت يوماً فلا تجد أحداً حولك، وإذا
ما نظرت في المرآة فلن ترى شيئاً.
** كيف تري الفارق بين الفقد كواقع تراجيدي
وبين الغياب كونه حالة إنسانية ؟
الغياب قد يكون اختيارياً، أن تختار أن تنسحب
من العالم، قد يكون رد فعل يائس أخير على الفقد..
** انتهت ــ او لعلي اري هذا وحدي ــ لعبة
الأجيال الشعرية فكيف تري ما قد يكتبه تأريخ الشعر عنك وعمن يكتب الشعر منذ بداية
الالفية الثالثة ؟
أعتقد أن مفهوم الأجيال ـ أو هكذا أتصوره من
وجهة نظري ـ مرتبط، بعلاقة الكتابة بالزمن، وبالمتغيرات الاجتماعية والسياسية
والاقتصادية واللغوية وانعكاسها على الكتابة، حتى لو لم يبد ذلك محسوساً بشكل كلي،
بمعنى أنك سترى آثار نكسة 67 في كل دواوين جيل السبعينات، حتى لو لم يكتبوا عنها
صراحة. بالنسبة للجيل الذي أنتمي إليه، أعتقد أن الأمر تغير بشكل كبير، فمفهوم
الجيل أصبح يتجاوز المحلية، وأصبح عربياً وعالمياً بسبب انتشار الإنترنت والانفتاح
عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، واستخدامها في الترويج، والتواصل بين شعراء من
دول عربية مختلفة عبر فيس بوك أوتويتر، وهنا يمكنني أن نطلق على هذا مصطلح
"عولمة الشعر"، ورغم ما له من فوائد مثل الاطلاع على تجارب أخرى في
بيئات أخرى، إلا أنه يسمح بظهور ظواهر غير حقيقية. ويُغيّب الخصوصية الثقافية في
بعض الأحيان، ولهذا تجد قصائد كثيرة متشابهة، أو تستخدم مفردات أو صور متشابهة
تظهر في بعض الأحيان، وكأنها "موضة" شعرية، لكن بالنسبة لي لا أعرف ما الذي سيكتبه تأريخ الشعر عني، لكن بالنسبة للجيل الجديد،
فأعتقد أنه سيحدث نقلة نوعية في الشعر، تشبه تلك التي حدثت في الستينات مع الانتقال من التفعيلة للنثر، وإن كان في اتجاه
آخر.
** ما الذي يدفع شاعرا لارتياد تخوم السرد
والدراسة والنقد أحيانا ؟
عندما تتأمل تاريخ الأدب العربي، لن تجد تلك
الفوارق الحادة في الكتابة، بل كان الكاتب الموسوعي هو المثال، يعني ستجد العقاد
يكتب الشعر والنقد والدراسة والرواية، وكذلك المازني، وحتى في التراث العربي ستجد
الأمر ذاته عند الأصفهاني الذي كان كاتبا موسوعياً على سبيل المثال. ولا أرى ضرراً
في التنقل بين أصناف الكتابة، بالنسبة لي أو لغيري ، ما دام الكاتب يملك أن يفعل
ذلك بشكل مقبول.
**الي أي مدي قد تشعر بالضغينة تجاه من يقسمون علي تراجع المنجز الشعري المصري
مقارنة بنظيره العربي مع تسيد قصيدة النثر للمشهد
بداية، لا أشعر بالضغينة تجد أحد، لكن يمكن
القول إن هناك رؤى مختلفة حول هذا الأمر، ورؤيتي أن الشعر المصري يتقدم كثيراً على
يد الجيل الذي تلاني، الذي استغل وسائل التواصل الاجتماعي للانتشار والتواصل
عربياً، وقراءة الترجمات، وتداول الكتب إلكترونياً. هناك أسماء شعرية مهمة، وهناك
حركة شعرية نسائية مصرية لافتة بالمناسبة، وعاد الشعر على يد هذا الجيل ليحتل مكانته
بعد أن ظل نقاد الجيل الماضي يرددون أن هذا زمن الرواية، أراهن أن الجيل الجديد من الشعراء سيصنع نقلة
كبيرة في الشعر، والزمن خير شاهد. أما بالنسبة للحديث عن قصيدة التفعيلة أو النثر،
فأعتقد أن هذا حديث تجاوزه الزمن والعالم منذ زمن، ولا أرى من يجددون الجدال حوله
إلا يعيدون ما قيل، دعوا
"الشاعر" يكتب، واستمتعوا بالشعر، ثم احكموا.
............
نشر في جريدة القاهرة