تدور كل أحداث فيلم Mother!
للمخرج دارين بوكوفسكي داخل بيت واحد من دورين، ما عدا لقطتين تصوران الطبيعة في
الخارج، وهو ما يمنح العمل صفة المسرحية بسبب وحدة مكان الأحداث، وهذا التصور ليس
بعيداً عما قدمه الفيلم بالفعل، فنحن أمام مسرحية ضخمة مكان حدوثها كوكب الأرض.
يقدم الفيلم قصة بسيطة عن شاعر(يقوم بدوره
خافيير باردم) يعيش مع زوجته الجديدة(تؤدي دورها جنيفر لورانس) في بيت وسط الطبيعة
منقطع عن كل ما حوله فلا طرق تؤدي إليه ولا بيوت حوله، الشاعر يعاني من مشكلة عدم
وجود إلهام والزوجة مشغولة بتجهيز وطلاء البيت، ذات يوم يفاجئهما زائر غامض، ثم
تتبعه زوجته، ثم يأتي ابناهما اللذين يقتل أحدهما الآخر، وهكذا تدور الأحداث بشكل
تصاعدي لتصل إلى مرحلة الجنون في النصف ساعة الأخيرة من الفيلم.
قدم كثير من المشاهدين تقييمات سلبية للفيلم
على موقع "سينما سكور"، ذلك أن المشاهد العادي ربما لن يخمن بسهولة عشرات
الرموز التي يحفل بها الفيلم الذي قدم في السينمات باعتباره فيلم رعب وإثارة، للوصول
إلى قصة الفيلم الحقيقية، وهي ما فعله البشر بالأرض، ورغم أن الفيلم يمكن قراءته من
أكثر من مستوى، حتى على مستوى القصة العادية (الشاعر وزوجته)، إلا أن (قصة الإنسان
والأرض) تظل هي الرواية الأكثر قرباً للحقيقية خاصة وأن المؤلف ألمح لها في أكثر
من حديث معه.
يبدأ الفيلم الذي لم يحمل أي من أبطاله أسماء،
بمشهد سريالي، حيث العالم قد احترق، لكن الشاعر يضع جوهرة لديه في مكان مخصص لها،
فتدب الحياة مجدداً في كل شيء، ورغم أن هذا المشهد يبدو غريبا في بداية الفيلم
وليس له علاقة بما بعده، إلا أن المشاهد لن يفهمه إلا في المشهد الأخير من الفيلم،
حين تموت زوجة الشاعر (الطبيعة)، ويحترق كل شيء، فيأخذ قلبها ـ الذي يصبح جوهرة ـ
ليعيد به كل شيء إلى ما كان مرة أخرى، لنفهم من ذلك أن الحياة ستستمر حتى بعد رحيل
البشر، كما كانت موجودة قبلهم، وأن الله ـ رغم كل ما حدث ـ رءوف رحيم.
تسير أحداث الفيلم بشكل طبيعي بين الشاعر
وزوجته، حتى يدق الزائر الغامض (إد هاريس) باب البيت فيرحب به الشاعر على غير رغبة
الزوجة، ومن هنا تبدأ رموز الفيلم في التفتح أمام المشاهد، فالشاعر هنا هو
(الخالق)، والزوجة هي (الطبيعة الأم)، والزائر الغامض هو (آدم)، وتبدأ الإسقاطات
تتوالى، فبعد أن تلمح الزوجة جرحاً في جانب الزائر، تطرق زوجة الزائر الباب (قامت
بدورها ميشيل فايفر)، لنعرف أنها حواء التي خلقت من ضلع آدم. تتصاعد الأحداث عندما
يدخل الزائر الغريب وزوجته غرفة الشاعر ويحطمان الجوهرة، فيقوم بطردهما من الغرفة
وإغلاقها في مشهد يذكر بطرد آدم وحواء من الجنة، وبعد أن تراهما زوجة الشاعر يمارسان الجنس يظهر ابناهما
اللذان يقوم أحدهما بقتل الآخر وهو ما يحيل مباشرة إلى مشهد قتل هابيل لقابيل،
ليتسرب الدم في أرضية المنزل ويبقى هناك حتى نهاية الفيلم رغم محاولات إزالته.
تتوالى بعد ذلك الرموز، فيأتي أقارب الزائر
وزوجته، ويحاول أحدهما كسر إحدى ماسورة المطبخ لتنفجر المياه كي تذكر بطوفان نوح،
وحين تحمل زوجة الشاعر يأتي الإلهام له، فينتهي من ديوانه (يقصد به التوراة بحسب
الفيلم)، وحينها يأتي البشر للاحتفال مرة أخرى رغم رفض الزوجة، ويمتلئ البيت
بعشرات الأشخاص، الذين راحوا يخربون كل شيء، وتقول الناشرة للشاعر إن الكتاب قد
نجح وشهد إقبالا كبيرا وأنها ستطبع نسخة أخرى في إشارة إلى الإنجيل، وحين تلد
الزوجة أخيرا يأخذ الزوج الطفل(إشارة للسيد المسيح بحسب الديانة المسيحية) ليريه
لجمهوره ومحبيه فيتخاطفوه ويمزقوه ويأكلوه(إشارة إلى صلب المسيح)، وهنا تأخذ
المشاهد منحني مجنوناً، ونرى كل ما حدث في الأرض من وقتها حتى الآن، من ثورات
وحروب وقتال، ومتحدثين باسم الله وقتلة ومغتصبين وسفاحين ومظاهرات (حتى أننا نسمع
هتافات ثورة 2011 في مصر)، ومحاولة انتهاك الطبيعة التي نراها في مشهد رائع حين تطل
الزوجة من النافذة فترى عشرات الأشخاص يحملون كشافات إضاءة ويتقدمون ناحية البيت
في مشهد يذكر برحلات اكتشاف الغابات في أفريقيا قبل قرنين وقتل الحيوانات وحرق
الأحراش، و على حد تعبير أرنوفسكي في أحد حواراته فالفيلم "مشاكل الإنسان في
الأرض من التبجيل المتطرف إلى الاحتباس الحراري"، وهكذا يوصل البشر الطبيعة
في نهاية الفيلم إلى الانتقام منهم وإحراق وتدمير كل شيء.
لم يكن ما مضى محاولة لسرد قصة الفيلم،
فالفيلم زاخر بعشرات التفاصيل، ومع كل مشهد نرى رمزاً لحدث تاريخي، ومع كل حوار
بين طرفين نرى إسقاطاً دينياً، لكنه محاولة للإضاءة على بعض الرموز التي حفل بها
الفيلم، والتي يبدو أن المخرج دارين بوكوفسكي مغرماً بتقديمها، فنظرة واحدة إلى قائمة
أفلامه سندرك ذلك بداية من فيلم "نوح" الذي قدم قصة النبي نوح، وهو ما
يشير لنا إلى اهتمامه بالتراث الديني، مروراً بفيلميه مع ناتالي بورتمان
"بلاك سوان" و"جاكي" اللذين قدم فيهما صراعاً نفسياً يتصاعد
منذ بداية الفيلم حتى المشهد الأخير فيه وهو ما نجده في هذا الفيلم أيضاً حتى مع
المشاهدة العادية له الخالية من تفكيك الرموز، وليس انتهاء بفيلمه المهم
"مرثية حلم"، الذي يتحدث عن الإدمان والفوضى التي يحدثها الإنسان لذاته.
لكن ثمة سؤال هنا، ما الذي يريد دارين
بوكوفسكي ـ الذي كتب وأخرج وأنتج الفيلم ـ أن يقوله، بعيداً عن كل هذه الرموز؟
ربما نظرة سريعة على سيرة الخلق التي أوردها بوكوفسكي في فيلمه، والفوضى التي
أحدثها البشر في الأرض تكون كافية للإجابة، فانفجار الأرض في النهاية لم يكن إلا
غضباً مما فعله البشر، ومع ذلك فالله غفور رحيم، يعطي الفرصة تلو الأخرى، يتسامح
مع الجميع، لكن البشر لا يتوقفون عن الفوضى. هل يعني هذا أن البشر سيوصلون الأرض
إلى نهايتها المحتومة في الفيلم: إن نظرة على نظريات العلم الحديث التي تكشف ما
سيحيق بالأرض بسبب الحروب والاحتباس الحراري والتكنولوجيا (الشريرة) إذا جاز لنا
أن نسميها كذلك، واستخدام الأديان في الحروب لكافية بهذا المصير بالفعل، ولا يمكن
فصل هذه الرسالة عن الأفكار السوداوية التي طرحها أرنوفسكي من قبل في أفلامه، سواء
تلك التي تحدثت عن الخلود مثل "النافورة"، أو تلك التي تناولت الرؤية
الدينية، وعلاقتها بالواقع في فيلمه "نوح".
قدم خافيير بارديم أداء متميزاً، ذكر بدوره
الرائع في فيلم "لا بلد للعجائز"، إلا أنه ظل أفضل حالاً من جنيفر
لورانس التي قدمت أداء جيداً، لكنه لم يصل لدرجة التميز، ربما لأنها لم تملك مساحة
التحرك التمثيلي التي كان خافيير يتحرك فيها.
وعلى الرغم من قصر دورها إلا أن ميشيل فايفر استطاعت أن تخطف الكاميرا في مشاهدها
القصيرة لتظهر قوة "حواء" وسيطرتها ورغباتها.
يبقى الفيلم رغم ذلك، مفتوحاً لمشاهدته أكثر
من مرة، للوقوف على عشرات الاحتمالات التي تقدمها مشاهده، وهو جدير حقاً بحالة
الجدل التي أثارها، وجعلت البعض يصفه بأنه من أفضل أفلام 2017، وجعلته من ناحية
أخرى يختفي تماماً في موسم الجوائز.