محمد أبو زيد
مثل عدودة جنوبية محملة بالحزن والفقد والألم، يأتي ديوان الشاعر محمود فهمي الأخير "مش فاضل حاجة"، الصادر أخيرا عن "دار العين"،عدودة للحياة، يرثي فيها الطفولة، والعمر، والأصدقاء، والذات، والحلم.
فكرة العدودة تتبدى أول ما تتبدى في الدلالة التي يعطيها اسم الديوان، الانتهاء، لا شيء متبق، قد يكون الذي انتهي هو العمر، قد يكون هو الذكريات، والحنين لزمن ماض يراه الشاعر جميلا، قد تكون الطفولة التي لم يتبق منها سوى قصائد يكتبها الشاعر، "مش فاضل حاجة"، قد تشمل أيضا "مش فاضل حد"، فتبرر وحدة الشاعر في قصائد الديوان، وربما يكون الذي قد انتهى هو أغنيته، التي تشبه ما ضاع منه كما يستدل بفؤاد حداد، فالشاعر الذي يعاني من الوحدة والانعزالية، يكتبها في قصائده، وربما تكون امتدادا لديوانه الأول الصادر قبل سبعة أعوام باسم "لوحدك"، حالة الديوان التي رصدها الديوان الأول، استمرت في الديوان الثاني وإن كانت بنضج أكبر، فالشاعر الذي يواجه العالم، الذي لم يتبق منه شيء، يواجه منفردا وحيدا، بقصائده، كفارس يحارب منفردا طواحين الهواء
يشعر قارئ الديوان من الوهلة الأول أن كاتب الديوان رجل في آخر أيام عمره، يترك مرثيته لهذا العالم، في قصيدة، وفي قصيدة أخرى يتشبث بالطفل الذي كان بداخله، لينقذه، لينقذ أحدهما الآخر، بل هو يتلبس هذا الطفل، عبر حالة من الحنين ، والشجن المؤلم.
الديوان قسمان، الأول اسمه "ريحة البن اللى جايه م الماضى"، يبدو فيه الشاعر كعجوز في غرفة مظلمة، يبحث فيها عن مخرج بالذكريات "ماسك فى ديل الطفولة، خايف تروح منى"، الطفولة هنا، ليست مجرد مخرج، بل هي الذاكرة التي تشعره أنه لا زال حيا، الطفولة هي الأم، التي يمسك في ذيل ثوبها، تماما كما يفعل الطفل مع أمه في سوق كبير يخاف أن يضيع منها، بالضبط تبدو حالة الشاعر هنا، تمسكه بالحياة ذاتها هو تمسكه بتفاصيل هذه الطفولة، بحلوها ومرها، الطفولة هي التفاصيل التي لا تنسى، العالقة في الذاكرة كشمس تطل من السماء فتنير "فرحان بمنظر لمة الكتاكيت/ على السطوح / والشمس فى يناير/ والراديو داير ع الاغانى /وصوت/عبد الحليم طالع من المنور/ماتغرقينى فى دنيتك اكتر" هذه الغنائية الجميلة في هذه القصيدة تكشف عن مدى فرحة الشاعر باستعادة هذه التفاصيل، هذه الطفولة، والغناء لها.
الذكريات التي يسترجعا محمود في القسم الأول من الديوان يدرك في الجزء الثاني منها أنها انتهت ، وإنه "مش فاضل حاجة"، كما يسمي القسم، الذي يبدأه بقصيدة غاية في الإيجاز، والتكثيف و الجمال "ليه /دايماً باحس بغربه / والمترو / بيسيب الرصيف/ وبيبعد"، فليست الطفولة وحدها هي التي تترك الشاب العجوز، بل هو المترو، الذي قد يكون محملا بالذكريات، والصورة التي يرسمها محمود بهذه القصيدة، هي صورة شخص واقف في محطة المترو، ولا أحد سواه، فيشعر بالغربة، الغربة تجاه هذا العالم الذي تركه وحيدا، وانصرف، العالم الذي بلا طفولة ولا ذكريات حقيقية، هذه الذكريات التي ضاعت في قصيدة أخرى" بعد مااتشال مترو مصر الجديدة / واتشالت محطة القياده المشتركة / ومعاها / أكوام من الذكريات/ اللى سبناها عليها".
الذكريات في القسم الأول، تتحول إلى إغراق في التفاصيل في القسم الثاني، وإقامة علاقة مع هذهالتفاصيل ، حتى لو كانت كلمة مكررة مثل "مساء النور"، مثلما في قصيدة مطلوب فتاة العمل، وانسحاب تفصيلة من هذه التفصيلة، قد يهدم كل تفاصيل الحياة التي غزلها، والصورة التي التقطها.
يركز محمود على تفاصيل الحياة الصغيرة، يرسم عالما ومكانا قبل أن يبدأ الكتابة ، فأنت ترى تفاصيل المنزل الذي يسكنه، أو تسكنه الروح الطفلة، أو تسكنه شخوص النصوص"الاوضة الضلمة / اللى فى بير السلم / يخبى جواها الكشاكيل"، والسينما "الدرجة التالتة / اللى بتعرض اربع أفلام"، و "وانت داخل من باب الشقه / هتلاقى على شمالك أوضتين/ سيبك م الاوضه الاولانيه / الاوضه المقفوله ع الصالون المدهب / خليك فى الاوضه التانيه/ الاوضه الصغيرة / اللى فيها بلكونه / فى ركن منها هتلاقى الزرع"، هو يسحب القارئ من يده ليدخل معه عالمه الخاصة، ويحذره بحميمية "ماتقعش / بسبب سلمه مكسورة /مابين الدور التالت والرابع / متهيألى / انك / حفظت أماكن القطط/ اللى نايمين ع السلالم / فبلاش تقلقهم"
محمود قد لا يكتفي بأن يلتقط صورة، ويغزل منها عالمه الشعري، أحيانا يخلق هذه العالم ويرسمه كما في قصيدة " لوحة ناقصة"، حيث "رسمت شارع / وميدان واسع / ورصيف طويل / مشيت عليه بنات حلوين جداً / وقعدت على القهوه اعاكس فيهم / لحد ما واحده منهم ابتسمت لى / نسيت احاسب الجرسون / وفضلت ماشى / ماشى / ماشى / لحد ما خلصت الصفحه".
وفي القصيدة التي تحمل اسم الديوان، يتأكد هذا المعنى، فالبيت القديم ، الذي يحمل ذكريات الطفولة يتحول إلى شاهد قبر، وحكاية الحب القديمة، وكل التفاصيل الصغيرة التي يرويها لا يتبقى منها سوى "سور حديد لجنينه اتردمت "، والحديقة التي تعبر كلاسيكيا عن عالم جميل ، تم ردمها، تماما كميت يدفن، ثم يغطى بالتراب.
الديوان في مجمله يبدو قصيدة حب غير مكتملة، لحبيبة غائبة تماما، يراها الشاعر ويتحدث معها، لكنها لا تتحدث أبدا، يصفها الشاعر في قصائده، لكنها لا ترد، لا تظهر، لا تتحرك، "جوه بحور العطر من صوتك/ حتى سكوتك /يشبه الاحلام"، لكنه يعيش هذه الحالة من الحلم الدائم في قصة الحب غير المكتملة، التي تبدو من طرف واحد في كثير من الأحيان، "ليه بسمة البنت الجميله/ الصبح/ ربكتنى ؟؟/ خلتنى أبدأ نهار / ماهوش معقول"، لكن هذا الطرف الآخر لا يتحرك إلا في الحلم، فيتحول هو إلى حالة الثبات "باحلم على حجرك انام/ وتفردى شالك غطا/ وتفردى كفك يمام/ شدينى من وسط الزحام/ ودينى دنيا بتبتدى بيكى الربيع"، هذه الحالة من التشبث بالحبيبة، بالوطن، بالطفولة بالأم، يبررها في نهاية قصيدة جنة الحواديت "انا مش هاضيع/ لوحضنك الدافى الوسيع/ بيضمنى وقت البكا".
الحبيبة لدى محمود "بنوته تشبه للقمر / بنوته تشبه للصباح/ تفتح ضلام الشباكين/ تطلق عصافير الغنا"، والحب يرتبط بالحنين إلى الماضي، بحكايات ناقصة "انا اللى سرحت روحى/ مع ريحة البن اللى جايه م الماضى"، وربما هو الإحساس بالعمر الذي يضيع، وينفلت من اليد "صوت خطوة البنت ع الاسفلت/ خلانى لـيه انشـغلــت/بلحن لغنوه منسية"، قصة الحب ليست لفتاة واحدة فهو "واقف ع الرصيف/ استنى البنات / اللى خارجين م المدرسه الثانوى/ يمكن تكون فيهم بنت / بتشبه لايناس"، و "البنت / اللى باتعمد اسيب كل الاماكن /اللى فى المترو/ واقف قدامها/وهى بتتكلم مع صاحبتها / وبتحاول تهرب بعنيها / من نظراتى".
الاحتفاء بالحب بهذا الشكل في الديوان، يكشف عن شعور عارم بالوحدة في بقية الديوان، وهذه الوحدة، ترتبط بحالة البرودة، والاحتفاء بالشتاء في معظم القصائد" ازاى راح اوصف ؟/ طعم الصباح الدافى/ فى نص يناير البردان"، فالشاعر المهزوم، الذي يقف بردانا تحت مطر يناير، إذا وجد حبيبته قد تتغير القصيدة، قد تتحول العدودة إلى غنائية "شعرك/غطايا/دفايا /حضنك بيت"، لذا فهو يوجه لها سؤالا "شايفك ندى / حاسك خضار / باحلم دفا / وقنديل ودار / سايبانى/ ليه تحت المطر ؟؟"، والشتاء هو الجو المناسب للموت والانتحار أيضا "نطيت مابين /مية مطر / بيغرق الدنيا / وف ثانيه / لقيتنى ع الكوبرى القديم / بافرك ايديا/ وبانتظر / لو لحظه تيجى تشدنى / أصبح غريق"، أو قوله : " طعم المراره جوا قلبى بينكسر/ وانا باستمع صوت المطر"، البرد يحضر في قصيدة ديسمبر، مع الأسئلة المريرة، ومع اكتشاف الشعر أنه هرم فجأة، فيحاول عقد مقارنة بينه وبين صوره طفلا فلا يستطيع، لأنه أصبح شابا عجوز، لا يفعل شيئا سوى أن يكون "واقف فى البلكونه/ لوحده / فى عز البرد"
واللافت هنا هو أن نهاية الشتاء، ونهاية المطر، تعني عند الشاعر عودة الحياة، ونهاية حالة الوحدة والرغبة في الموت والانتحار "سكت المطر / رجعت أغانى البياعين / والايدين / رجعت تدوَّر ع الايدين / والفوانيس نورت / وبينفرط عنقود دموع / على حافة الكوبرى الحديد"،
الشاعر في هذا الديوان صعلوك يسير في الشوارع، في "يناير البردان"، يتفقد شارعه القديم ، يقف في محطة الاتوبيس، يسير في الشارع، يذهب إلى العمل، لكنه في كل هذا يصف الناس، علاقته بالناس وبالأشياء من منطق الرؤيا، عيناه كاميرا فوتوغرافيا تقيم العلاقات مع الناس من هذا المنطق، وتصف المشاعر، وتقيمها بناء على هذه الصور التي تلتقطها عيناه طوال الوقت، حتى أحاسيس الخيانة والحب، قائمة على هذه الصور الملتقطة طوال الديوان
مع هذه العلاقات غير المكتملة، تتولد فكرة الخيانة، " شايفك هناك / بتواربى فى الشباك / وبتضحكى لغيرى"، فالخيانة هنا تتقاطع مع فكرة الحبيبة غير المكتملة، وقصص الحب القائمة على الرؤية، وهي العين الموجودة طوال الديوان، لترصد وترى، وتكتب، لكن فعل الخيانة كما أراد له عنوان القصيدة أن يكون هو مواربة الشباك، والذي يعني غياب الرؤية، والنظر، والضحك للآخرين، و الثلاثة أفعال الموجودين في الديوان يكشفان طبيعة العلاقة "عاشق لا يفعل سوى النظر، وحبيبة توارب الشباك / تكاد أن تغلقه في وجهه/ وتفتحه في اتجاه أحد آخر، والفعل الثالث هو الضحك لآخر.
في الديوان دائما بيت قديم، وهناك دائما نافذة، والنافذة لدى محمود في هذا الديوان تفصل بين زمنين، وبين حالتين، حالة الحب والخيانة كما في قصيدة "خيانة"، وحالة الصبا والطفولة، كما في قصيدة "تحت شباك الحنين"، "من هنا عدى الولد، من هنا عدى الحنين/من هنا عدى الشجن، الضرفتين مش مفتوحين، متعفرين ليه بالتراب، البنت راحت بس فين"، لكن الإحساس بالزمن يسقط ويصبح العمر يومين فقط، حين يرتد إلى الطفولة مرة اخرى، قبل أن يدرك الحقيقة "دى لسه كانت من يومين / دى لسه كانت من سنه / دى لسه كانت من سنين"، وقوله "فى الدور التانى / بنت / باشوفها واقفه فى الشباك / ومواربه الشيش / أنا فاكر /مره ابتسمت لى / ودخلت من غير ماتقفل الشباك"
يحضر الأب كقوة قاهرة في قصيدة اللحظة المناسبة، حيث يبدو على اعتبار أنه ربما النقطة التي تجعل الشاعر يفاضل بين حاله وطفولته " يرجع / بيجر ف أحزان الحب الاول / وبيجهز نفسه / لعصاية ابوه النايمه / تحت سرير / باربع عمدان"، هذا القهر يتبدى في قصيدة الأوضة اللي ما بقتش بتاعتي، فهو يحكي بحميمية شديدة عن كل تفاصيل غرفته، وكأنه يعيش فيها، ويحكي كل تفاصيلها، الزمانية والمكانية ، قبل أن يكتشف القارئ "إنه الإوضة دي " خلاص / مابقتش بتاعتى / من يوم ماطردنا ابويا من البيت /المكتب بعته / مالوش مكان فى الشقه التانيه / والسرير / مارضيش يسيبه / واداه لابنه"، هذا الإشكالية تحضر، مرة أخرى في قصيدة "حاجة ما اعرفهاش ، حث يتحدث عن علاقة مثالية بين أب وبنته وابنه، ثم نكتشف في نهاية القصيدة أن "كل الحاجات دى / ويمكن اكتر / هتحصل / لما يبقى عندى ولد وبنت / يمكن ساعتها اعرف / شكل العلاقة اللى مابين أب واولاده / العلاقة اللى ما اعرفهاش / مع انى ماكنتش يتيم".
الحياة طفولة يعقبها موت، والموت ربما لا يكون موتا حقيقيا بقدر ما هو موت معنوي، لكنه يقدم مبررات هذا الموت في قصيدة انتحار، فالشاعر يترك مبررات هذا الموت في قصيدة أو "جواب على حافة المكتب / ونازل"، ربما ليبحث عن الماضي ، وربما لهذا يبحث عن اسمه على مقعد المترو "بقالى اكتر من 13 سنة/ باحاول الاقى الكرسى /اللى كتبنا عليه اسامينا/ فى أخر يوم/ فى امتحان الثانوى/ وكإننا بننقش/ على شاهد قبر / لدنيا بتروَّح"، وربما يكون هذا هو التعبير الأمثل، فالشاعر يفتش عن الماضي كمن ينبش قبرا بحثا عن شيء يدرك أنه لن يجده، وابتعاد الطفولة هو المرادف للموت لديه، ومن ثم الموت الفعليفي قصيدة العيال "يا عيال انتوا فين يا عيال /انا قلبى مال للحزن وانتوا بعيد".
الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقف أمام هذا الحزن وهذا الموت، أن يعود إلى طفولته مرة اخرى "أرجع ولد / بيلم أمطار الغنا / ويا العيال / والامهات م الشبابيك القدام / تنده لنا"، سر التمسك بهذه الطفولة تكشفه قصيدته التي يصبح العمر فيها غاربا، بينما تتواري الطفولة وذكرياتها بعيدا " الدنيـا وش غــروب / ولاعــادش فيها سطوح /ولاعــادش فيها جيران / ولا كحك ولا بسكوت / عالـم برىء بيغــيب / عالـم برىء بيمــوت"، فغياب هذا العالم ، الذي يصفه مرتين بالبراءة، يعني الموت".
ربما يبدو السؤال الأكثر إلحاحا هنا : لماذا ينحاز محمود إلى عالم الطفولة لهذا الحد ؟، لأن عالم الأطفال به "عيال كتير/ وبيضحكوا / وبيفرشوا الشارع غنا /وبيرسموا الحواديت جنان / ولا أى شىء بيهمهم / غير ماتش كوره فى الميدان / ولا عرفوا ايه معنى الالم / ولا عرفوا طعم الحزن ايه / ولا يعنى ايه بتكون وحيد / فى ركن منسى من الزمان"، في هذا المقطع يجيب الشاعر عن كل الأسئلة التي يطرحها الديوان، وربما يصف حالته الآن المكونة: من الوحدة ، والحزن كما يقارن بين العالمين.
قصيدة العيال، يقدمها ببيت شعر دال لرجب الصاوي " مليانه يادنيا العيال بالهنا"، وفيها يكشف الشاعر، أو يكشف المأزق الحياتي له ولجيله بأكمله" انا محمود الجديد / اللى مايشبهش محمود القديم خالص / نزلوا العيال يلعبوا / وانا كنت ماشى ع الرصيف بانهج / حاطط ايديا فى جيوبى / واقف اتفرج / واعدل النضاره / انا لسه واقف على أول الحاره / صبح يوم العيد / لكنى خالص مش سعيد"، هذه القصيدة الجميلة المليئة بالشجن تلخص حالة الديوان بالكامل، حالة الصراع بين محمود الطفل، ومحمود الذي كبر مع الحياة، لكنه ما زال يبحث عن طفولته، لذا فهو لا يشعر بالسعادة يوم العيد، يستعيد كل تفاصيل الطفولة، لكنه لا يستطيع أن يستعيد ذاته.
هذه القصيدة تجرنا للحديث عن الموسيقى في ديوان محمود، فمحمود يكتب قصيدة التفعيلة والنثر، لكنه يبدو أكثر انحيازا لقصيدة التفعيلة، وربما لأنه صدر ديوانه بمقطع لفؤاد حداد يقول "غنوتى شكل اللى ضاع منى"، والذي يعبر كثيرا عن مضمون الديوان، فهو قد كشف عن غير قصد عن حرصه على الغنائية في ديوانه، الغنائية التي قد تصل إلى حالة العدودة، في بعض القصائد، وإلى الغناء الراقص في بعض القصائد.
يرفض محمود ارتداء عباءة فؤاد حداد، التي ارتدتها أجيال كاملة تأثرت بحداد، لكن محمود يفضل أن يكون له صوت الخاص، في لغة عذبة سلسة، بسيطة، تحمل في مضمونها طاقة شعرية هائلة، وتختصر صورها البسيطة حالات شعورية كاملة.
يمتزج الغناء بالسرد، تماما كما يفعل المعني الشعبي، لكن محمود يقبض على نهايات الحكايات، ويترك قارئه يفكر في النهاية، التي يدرك بعدها، إنه مش فاضل حاجة، تنتهي الحكايات حكاية وراء اخرى، كأن الحياة تنتهي "بتخلص الحواديت / كإنى بانزل سلالم/ وبارد باب البيت"، الحكاية جنة في رأي الشاعر، لأنها تعيده طفلا مرة أخرى "ماتدخلينى جنة الحواديت، وترجعينى طفل من تانى"، وفي قصيدة حواديت زمان، التي يبدأها بلزمة الحكي، المرتبط بعالم الطفولة، يكشف محمود عن مأزق السرد لديه "كان ياما كان / ليه القصيده بتبتدى بحواديت زمان؟"
هذا الغرام بالتفاصيل والذكريات يبدو واضحا جدا في قصيدة "الاوضه اللى مابقتش بتاعتى"، التي تبدو مرثية لعمر مضي، الديوان كله يبدو مرثية لمحمود فهمي، ولجيله بأكمله، مرثية جميلة، وحزينة، تجعلك تعيد قراءة الديوان مرة ومرة، مرثية تكشف عن شاعر حقيقي ، وديوان جميل.
ــــــــــــــــــــــــ
*نشر في أخبار الأدب