لسنوات طويلة، كنت مهتماً فيها بمتابعة ودراسة ملف الإسلام السياسي، لاسيما
ماشهده هذه الملف خلال الثلاثين سنة الأخيرة من اغتيال السادات، مروراً بأحداث عنف
الثمانينيات والتسعينيات، ثم مبادرة وقف العنف في 1997، وانتهاء بالمراجعات أوائل
الألفية الجديدة، في كل هذا كانت الظاهرة اللافتة بالنسبة لي أن جل من التحقوا
بالجماعات الراديكالية، أو حتى الذين تم تسفيرهم إلى أفغانستان، لم يكونوا ينتمون
إلى مؤسسة الأزهر الشريف التي أنتمي إليها.
وأذكر أنني طرحت هذا الاستفسار على أحد القادة التاريخيين لها الشيخ كرم
زهدي، وكان رده أن عدد الأزهريين كان
قليلاً فعلاً، لكن يكفي أن أمير الجماعة الإسلامية ـ المحبوس حالياُ في أمريكا مدى الحياة ـ الشيخ
عمر عبد الرحمن كان أزهرياً. لكن في ظني لا يبدو هذا كافياً، فالأهم من الأمير
القواعد، وهم قلة في تاريخ الحركة الجهادية المصرية بالفعل، فعلى مدار تاريخ جماعة
الإخوان المسلمين، لم يلمع في الجماعة أزهري أو يصل إلى مكتب الإرشاد من الأزهر
سوى عبد الرحمن البر، وهو نفس الأمر بالنسبة لتنظيم الجهاد، أو الجماعة الإسلامية،
أو حتى الجماعات التي ظهرت بشكل متقطع واختفت، مثل شباب محمد، أو التكفير والهجرة
أو تنظيم الفنية العسكرية، وغيرها، وحتى بالنسبة للتنظيمات الجهادية العالمية مثل
القاعدة، فرأسيها الأول والثاني (أسامة بن لادن، ثم أيمن الظواهري) أو العرب
الأفغان لا ينتمون إلى الأزهر.
وبعيداً عما يمكن أن تصل إليه دراسة متعمقة عن السبب وراء ذلك، او حتى عن
أسباب ظهور الإخوان في الفترة الأخيرة ـ تحديداً في الأزهر، فلدي سبب خاص أستطيع
أن أقدمه. هذا السبب هو درسي الأول والأخير في المؤسسة التي قضيت فيها سبعة عشر
عاماً أتلقى التعليم الديني والعملي، هذا الدرس هو "تسقط الحقيقة المطلقة".
في مادة الفقه التي درستها ثلاث سنوات في الإعدادية، وأربع في الثانوية، ثم
أربع في الجامعة، أدركت أنه لا يوجد ما يسمى الصوت الواحد، لا يوجد من يزعم أنه
يمتلك الحقيقة وحده. في البداية تخصصت في المذهب الحنفي، لكن لم يكن صوت أبوحنيفة
هو الصوت الوحيد في المادة، كان هناك صوت تلميذيه محمد وأبو يوسف اللذان كان لهما
رأي مختلف، وفيما بعد حينما درست المذاهب الأربعة، عرفت أن تعدد الآراء واختلافها
هو سنة العلم، ومن هنا تعلمت احترام الرأي الآخر، ومقوله الإمام الشافعي الشهيرة:
"رأيي خطأ يحتمل الصواب، ورأي غيري صواب يحتمل الخطأ".
لم يكن هذا في مادة الفقه وحدها، ففي مادة التوحيد، تعلمت آراء المعتزلة
والأشاعرة وغيرهم في قضايا جدلية، ولا زالت حتى الآن، مثل خلق القرآن، وعذاب
القبر، والسمعيات جميعها. حتى في مادة النحو، درست في المرحلة الإعدادية كتاب
"قطر الندى وبل الصدى"، وفي الثانوية "شرح ابن عقيل"، وكان
فيهما ما في غيرهما من مواد، والنقطة التي ربما لم ينتبه إليه كثيرون، وهو تعدد
الآراء وتشعبها حتى في الأمور المحسومة مثل موضع الفاعل في الجملة، أو نائب
الفاعل، وهناك دائماً ضرورات شعرية، وشواذ بشواهد شعرية، تخرج عن السياق.
هذا الخروج عن السياق، كان هو درسي الأهم، لا قواعد في الحياة أو في العلم،
لا حقيقة مطلقة.
وربما يكون هذا هو الدرس الذي، وغيري من طلاب الأزهر، بامتلاء بالعلم، فلم
تبهرنا محاولات الجماعات الدينية، التي كان قواعدها ينظرون إلى ما يقوله مشايخهم
بانبهار، رغم أن كل ما يقولونه كنا نعرفه ونحفظه، ونعرف ما ضده، والردود عليه
بالشواهد من القرآن والسنة والتراث الشعري.
الجماعات الإسلامية، تؤمن بالتقديس: تقديس النص، وتقديس الأمير. وهذا هو ما
يتناقض جملة وتفصيلاً مع ما يعمله الأزهر لطلابه، الجماعات الإسلامية تستقطب
عقولاً خاوية مستعدة للانبهار وتصديق أن شيخاً ما في جيبه مفتاح الجنة. وهذا ما
يتنافي مع ما يتعلمه طلاب الأزهر في معاهدهم.
كلما سألني شخص عن رأيي في الأزهر، أقول له إنني أفتخر أنني تعلمت فيه، وأن
درس احترام الرأي الآخر وإسقاط القواعد مبكراً هو زادي في الحياة حتى الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــ