12‏/01‏/2007

الجلوس على رصيف الوطن

الحياة زي الرصيف
لازم تتكنس
فيه ناس بتعرق ع الرغيف
وناس بتعرق م التنس


الشاعر الراحل : فؤاد قاعود
الرصيف ،هذا الهامش ، والذي تحول إلى متن رئيسي ، يلتهمما سواه من متون ، هوأحد ملامح الوطن ، هو الوطن ذاته في أحد تجلياته ، فقره وغناه ، قسوته ، ورحمته ، ضحكه وبكاه ،وجوهه المتعددة ، الرصيف الذي ظل مهملا طويلا ، الآن يقتحم المشهد بكامل لياقته ليضع تفاصيل حياتنا اليومية، ليصبح بطلا رئيسيا
في هذا الملف .. قراءة لبعض ملامح الرصيف ..ملامح الوطن

رصيف نمرة خمسة


"رصيف نمرة خمسة والشارع زحام ، وساكت كلامنا ما لاقي كلام ، تسالي يا خال تدخن يا عم ، تتوه المعاني في لساني لجام " ، أضبط نفسي كثيرا سائرا على الرصيف أدندن بصوت خفيض هذه الأغنية فيما أضع يدي في جيبي البنطلون ، دائما أكتشف أن هذه الأغنية بالنسبة لي على الأقل أجمل أغاني عمرو دياب ، أكثرها قربا لي ، ربما لأنها تتحدث عن أشياء حقيقية ، لأنها قائمة بالرصيف ، بالناس ، بالزحام ، بالوجوه الباسمة ، والوجوه المتجهمة ، بالقاهرة ، المدينة الغاضبة ، بالأرصفة ، المدينة الموازية للقاهرة الحقيقية ، هامش الحياة الذي أصبح متنا ، السطر الأخير في الصفحة الذي يحتوي على كل ما فيها من حكايات ، وغرائب .
الأرصفة تعني أشياء كثيرة : زحام، وأناس يتدفقون ليلحقوا بمصالحهم، وباعة يبيعون كل شيء من الإبرة، وحتى الصاروخ ، وباعة كتب، وجوارب وألعاب أطفال وكل شيء وارد الصين ، وسيارات لم يكفها الطريق فقررت أن تصعد علي الرصيف لتركن، أو لتواصل سيرها ، وشحاذون استوطنوا ظل البنايات العالية ، وصيدليات شعبية تداوي الأمراض المستعصية ، مقاه ( فرشت عدتها) في الشارع ،وعاشقون ، وباعة عرقسوس ، وباعة آيس كريم و شاورمة وجرائد أمس واليوم وغدا ، وباعة يانصيب ، ومحطات مترو ، رجال وسيدات وشيوخ ، وأطفال وتلاميذ يحملون حقائبهم فوق ظهورهم ويهرولون نحو مدارسهم ، وأشياء أخري كثيرة ، عالم مليء بكل أنواع المتناقضات ورغم كل هذا نعبر هذا العالم الغريب الصعب المزعج المحبوب ،عالم الأرصفة ، حيث تختزل المدينة ، الحياة كلها في أرصفتها ، تتحول بكل زخرفها بكل تراثها بكل قدرة المصريين علي الاحتمال وعلي ابتكار الوسائل البديلة للتكيف مع ظروفهم الاقتصادية الصعبة ، فهنا فوق الأرصفة يوجد كل شيء وأي شيء ، هنا فوق الأرصفة تصبح على البلاج صيفا إذا لم تكن تستطيع الذهاب إلى مصيف ، بعد رشه بقليل من الماء ،هنا أنت في نافذة تطل على العالم إذا فضلت الجلوس على مقاعد المقهى الخارجية ، هنا أنت في أكبر سوبر ماركت شعبي مصري حيث كل شيء يباع ، فوق الأرصفة أيضا تكتشف مصر الأرستقراطية ومصر الشعبية ،ومصر أغنياء الحرب ومصر الفقيرة ، فرصيف الغورية يختلف عن المهندسين رصيف حلوان عن رصيف مصر القديمة ، لكل خصائصه ومميزاته وعالمه الفريد .
" كلاكس التروللي ، بيسور وداني ، وشحته المزين بياكل وداني ، يا نادل باريس ، تعالى حاسبني ، وجدول ديونه عشانه وعشاني ، وعبد الله رشدي المحامي القدير ، بيرفع قضية في باب الوزير ، على عم فكري بتاع البليلة ، عشان مرة زعق بصوته الجهير " ليست هذه أغنية من فيلم رصيف نمرة خمسة الشهير والذي قام ببطولته فريد شوقي وتحدث عن أحد أشهر أرصفة مصر ، بل هي جزء من أغنية مغمورة لعمرو دياب غناها في فيلم" آيس كريم في جليم " ، تحكي جزءا عن هذا التاريخ للرصيف التاريخ الذي كان مخصصا للعبور ، بأبطاله المغمورين ، ملايين الوجوه التي تعبر أمامك وبجوارك ، من خلفك تحمل كل تفاصيل مصر الحقيقية ، فقراء وأغنياء ، يمينيون ويساريون ، فلاحون وصعايدة وبدو وأبناء بلد ، بعضهم أصبح الرصيف مكانا لإقامته ، لأنه لم يعد هناك مكان آخر له لكي يقيم فيه ففي الأزمنة الصعبة وحدها يصبح الرصيف مكانا للإقامة ولأننا نعيش زمنا صعبا ، فلم يعد صعبا أن ترى عائلات بأكملها تفترش أرصفة لأنه مأواها الأخير .
" بقالة الأمانة ، ونصحي السروجي ، عاملين لي شركة ف مشروع بوتيك ،ونادوا لعبده ، الفرارجي يشاركهم ، فرد بألاطة ، ما احبش شريك " الرصيف هو التفاصيل الصغيرة للحياة ، والحياة ليست إلا مجموعة تفاصيل ، أعني أن الرصيف هنا يتحول إلى حياة كاملة ، قد تكون الأسماء وهمية ، لكن لا بد أنهناك أسماء كهذه مرت من فوق الرصيف عصرا ، تتنفس ببطء ، وتتأملالعالمالمحيط ، الفاترينات ، والناس ، المقاهي ، المصالح الحكومية ، باعة اللعب والولاعات ، الشحاذين العاشقين الصغار ، الغرباء الذين يسألون عن الطريق إلى محطة مصر كي يعودوا إلى أهاليهم ، الرصيف ابن للمدينة نفس الملامح، نفس العبق، نفس فستان الفرح والحزن والأحلام، و القاهرة لها ألف معنى وألف لون المهم هو كيف ستراها عيونك ، الرصيف في الريف يكاد أن يختفي من تفاصيل الحياة ربما لأن التفاصيل هناك قليلة ولأن هناك عالم متسع أما في المدينة ونظرا لضيق الأماكن فيصبح الرصيف هو المهرب الأخير ، والنافذة الأم
" وجات وقعة سودة في سوق الإمام ، عشان عم لمعي بتاع الحمام ، ماقدرش يوصل لأي اتفاق، مع سبع أفندي في قضية سلام ، وأطفال عجايز ، في مهد الطفولة وأفلام قديمة ، وإعلان كاكولا، تبزنز تعيش ، لآخر حياتك ، ولو باعوا فرخة، هتاخد عمولة، تروماي بسنجة في روض الفرج ، وأعمار تعدي لاييجي الفرج، ولا البحر باين في آخره مراسي ، ولا حد راسي ، منين الفرج " هذه هي حياة الرصيف، بيع وشراء ، وجوه تمرق وتمر وحب وكراهية زعيق وهدوء .. إنها جميع وجوه الحياة .

أيها العابرون فوق الرصيف

أول ملامح الأرصفة عابروها.. وعابرو الأرصفة يختلفون ، لأنهم في أغلبهم غرباء، و ربما لان القاهرة تحبهم فهم أيضا يحبونها، ويأتون إليها دائما. القاهرة مدينة بالمعنى الكامل لكلمة مدينة بكل ما تطرحه هذه الكلمة من قسوة، وصرامة، وحميمية في آن واحد، لكن أرصفة القاهرة أكثر حميمية منها، ربما لان ساكنيها استطاعوا أن يحولوا هذه الأرصفة إلي جزء من الحياة، بل حياة كاملة متكاملة، مستقلة بذاتها، فيها كل شيء: البيوت، بعد أن اعتبر الشحاذون الأرصفة بيوتهم، المقاهي، بعد أن أصبح أصحاب المقاهي يعتبرون الأرصفة امتدادا طبيعيا لمقاهيهم، السوبر ماركت، طبعا هنا يباع كل شيء والصين عندما غزت السوق المصري غزته من السلم الخلفي الأسرع انتشارا، اتجهت مباشرة للطبقة الأكثر انتشارا، والأكثر فقرا، والتي تفضل أن تشتري احتياجاتها من على الأرصفة لانها الاقرب لها، والأكثر التصاقا بها وان تكتفي فقط بالفرجة على الملابس اللامعة المغسولة جيدا، والمغرية جدا والتي تقف وراء فاترينات وزجاج المحلات الكبرى تغريهم بالدخول لكن جيوبهم لا تساعدهم علي ذلك، ثم يذهبون إلي الأرصفة بحثا عن التقليد.
العابرون يعتبرون الأرصفة بيتهم الثاني، ولاسيما في الصيف حين تضيق الشقق الضيقة بمن فيها، فيقررون البحث عن نسمة من الهواء، على الأرصفة التي تحتويهم جميعا رغم الضغط الشديد عليها، لكن العابرين أيضا ينقسمون إلى أنواع، أولهم الغرباء الذين تحدثنا عنهم من قبل الذين يجدون في أرصفة القاهرة ملاذا من وحشة المدينة، من غضبتها، وقسوتها على ريفيتهم التي لم يلوثها بعد زعيق السيارات، وتدافعها ودخانها الذي يسود الجو، ريفيتهم التي لم تدهسها عجلة السرعة في المدينة لذا يسيرون على الأرصفة يستندون إلى الحوائط، وهم ينظرون نظرة ـ في أعمها داهشة ـ ذاهلة، غاضبة أحيانا، إلى هذه الحياة، هم فقط يشعرون بالامتنان الشديد لهذا الرصيف الذي استطاع ان يحميهم، هم يخافون ان يهبطوا الى نهر الطريق، فالسيارات لا تتوقف، واذا ساروا معا ساروا جماعات متراصة، مع ان هذا ضد قوانين السير في العاصمة وعلى أرصفتها، ففي قراهم الشوارع متسعة فارغة لا يمر بها احد إلا لماما لذا هم يسيرون هنا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، اما هنا، على ارصفة العاصمة فليس من المجدي اطلاقا ان يمروا هكذا.
الأرصفة تتيح للغرباء أيضا فرصة رؤية القاهرة السفلية كيف يعيش أهلها، أهلها الحقيقيون، كيف يأكلون: عربات الفول والكشري تنتشر على أرصفة كثيرة ، ولا سيما في أحيائها الشعبية، وعربات البسبوسة والبسيمة «التشكيلة» وبلح الشام موجودة ايضا، ماذا يشرب ساكنو الأرصفة: هنا ستجد أن باعة العرقسوس الذين لا يكفون عن النداء «شفا وخمير ياعرقسوس» لا يكفون ايضا عن التجوال على الأرصفة حيث جمهورهم الأوحد، الطبقة الحقيقية التي تكون مصر الحقيقية البعيدة عن الارستقراطية الخادعة، هنا ستجد باعة الخروب والتمر هندي والسوبيا، ومحلات عصير القصب، القادم من أقصى الصعيد على عربات ربع نقل قطعت عشرات الكيلومترات إلى العاصمة، الأرصفة تتيح للغرباء أيضا أن يشاهدوا عيون القاهرة المفتوحة، أقصد مقاهيها، أن يشاهدوا محلاتها، ودكاكينها، وحلاقيها وعطاريها ومكتباتها، خردواتها التي أصبح الرصيف جزء مكملا لها. الرصيف كما هو مهم تماما في حياة المدينة هو مهم أيضا في حياة الغرباء عنها.. لأن يضع أيديهم على ما يبحثون عنه، تاريخ القاهرة، بل القاهرة ذاتها.
بالنسبة إلى الكثير من العابرين الغرباء يعتبر الرصيف مكان للتلاقي ، فأين تستطيع أن تقابل صديقا ، أو صاحب عمل ، غير هنا ، في مقهى يطل على الرصيف ، أو محطة مترو ، أو محطة أتوبيس ، أو رصيف كبير كالتحرير ، هو مكان للتعرف أيضا على الحياة ، العابرون يعتبرونه نافذتهم ، نظارتهم التي يخشون أن تسقط من فوق أنوفهم .

الثقافة على الرصيف


عندما كنا طلابا في المدارس الإعدادية والثانوية ، وأحرقنا النهم للقراءة ، ولم يكن في جيوبنا ما يكفي لشراء نجيب محفوظ و وتوفيق الحكيم ومصطفى محمود و طه حسين ، وزكي نجيب محمود من المكتبات الكبرى ، بأسعارها الغالية ، كان الرصيف ، وباعة كتب الرصيف هم ملاذنا الآمن ، هم من أطفئوا نهمنا بكتبهم التي كنا نبحث عنها ،والتي كانت تناسب إمكانياتنا المالية المحدودة ، الرصيف هو أكبر مكون ثقافي إذن ،وبنظرة على خريطة باعة كتب الرصيف ، ستجد أن الكتب لديهم القديمة والمستعملة هي التي تكون ثقافة أجيال سباقة ولاحقة .
وطبعا غني عن الذكر هنا أن نقول أن جميع باعة الجرائد يتخذون الرصيف مكانا آمنا لهم ، لعرض بضاعتهم ، على الرغممنن مضايقات البلدية لهم .
بنظرة سريعة على أشهر أرصفة القاهرة ، تستطيع أيضا أن تكتشف أشهر باعة كتبها :
1 – باعة الكتب أمام جامعة القاهرة والمنطقة المحيطة
2 – أسفل محطة مترو حدائق القبة ، من الناحيتين
3 – أمام دار القضاء العالي
4 – أمام محطة مترو الإسعاف
5 – أمام محطة مترو كوبري الليمون " تروماي مصر الجديدة "
6- سور الأزبكية بالعتبة
7 – سور السيدة زينب
7 – بجوار ميدان المطرية
8 – أمام مسجد الاستقامة بالجيزة
9 – بطول سور جامعة الأزهر بمدينة نصر

ثقافة الرصيف تختلف تماما عن تلك الثقافة التي تختفي خلف المكتبات الأنيقة بأسعار توشك أن تكون في حجم راتب احد أبناء هذا الرصيف، قارئو ثقافة الرصيف هم الذين يذهبون إلي معرض الكتاب لكي يذهبوا إلى «سور الازبكية» بحثا عن كتاب قديم، وقيم، وسعره «مهاود».
ويمكننا تقسيم ثقافة الرصيف إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول هم الذين يبيعون كتبا لا علاقة لها بالثقافة، ويستغلون الرصيف لترويجها وهي كتب العفاريت والجن، ومثلث برمودا والجنس، وليلة الزفاف وهي كتب من الطبيعي ألا يكون مكانها في المكتبات الفاخرة، فهي تبحث عن قارئ معين، هناك ثقافة أخرى تنتشر على الرصيف هي ثقافة الكتب الدينية، ملخصات من أمهات الكتب، أو التي ألفها بعض مشايخ الأزهر المغمورين، لمداعبة أحلام المراهقين، وتدور معظم عناوينها في إطار عذاب القبر ونعيمه وماذا ترى في النار، سكرات الموت إلى آخر هذه القائمة، النوع الثالث من الكتب هو ثقافة جادة وان كان لا يجد قارئا متميزا، وهي الكتب الأدبية والثقافية والفلسفية والعلمية، وهي مكتبات كاملة يبيعها أصحابها، بعد أن يصلوا إلى حد اليأس من الثقافة، ومن المثقفين، أو ربما لحاجة إلى المال، ورغم رخص سعر هذه الكتب إلا أنها اقل أنواع الكتب الثلاثة السابقة مبيعا.

يسير العاشقون فرادى


حروف مكتوبة بأيد مرتعشة فوق أسوار كوبري قصر النيل ، عبارة " للذكرى الخالدة " ، قلب مرسوم بقلم أحمر فلوماستر يشقه سهم ، في كل جهة اسم ، وتحته بخط بناتي " أحمد ومنى .. إلى الأبد " ارتعاشة من الشتاء ، ودفء قلب لم تجرحه تدابير الحياة بعد ، باعة الورد والياسمين ، وأغنيات تنطلق بصوت طارق الشيخ من مركب يمر بالأسفل ، باعة لب وسوداني ومياه غازية، أولاد يشوون الذرة ، وبنات تبيع المناديل، وعشاق يمشون بخطى وئيدة على كورنيش النيل ، ينظرون إلى المباني العلية المقابلة ولا يعلقون .
رصيف الكورنيش غني عن التعريف يعرفه كل عاشقي النيل، بل كل من كوى صدره العشق، خاصة العشاق الذين لا يملكون ثمن الدخول إلى الأماكن المغلقة، الأماكن التي بها نادل يبتسم ابتسامة دبلوماسية وهو يمرر في آخر الجلسة ورقة بها مبلغ قد يفزع منه العاشق، وقد يفرق بينه وبين حبيبته. لذا فهو يحتمل ضجيج باعة اللب والفول السوداني وباعة الورد الذي يصرون «وردة للهانم يا بيه» وباعة الياسمين وباعة الكوكاكولا الساخنة.
رصيف الكورنيش أيضا لا يقتصر فقط على العاشقين به أيضا الأسر التي تخرج لتشم الهواء، أب وأم، وطفل رضيع، عندما يكبر فلا شك أن ن الأب حتما سينشغل في أن يجمع له ثمن الدروس الخصوصية وسينسي تماما فكرة الخروج والتمشية علي الكورنيش ربما فقط سيتذكر مع زوجته ذات ليلة «أيام زمان» وعندما كان الكورنيش هادئا، وقبل أن يقتل الزحام الرحمة في قلوب الناس ثم يتنهد قائلا «هيه.. دنيا».
رصيف الكورنيش به المهمشون الحقيقيون في مصر، الذين يبحثون عن موطئ قدم لهم في العاصمة، هنا باعة لا أماكن لهم يبيعون فيها بضاعتهم سوى هنا ولا توجد دكاكين لعرض بضاعتهم، باعة الذرة الشامة ومؤجرو المراكب وباعة الياسمين والفل والترمس
على أرصفة كورنيش النيل تولد يوميا عشرات قصص الحب ، وتموت المئات ، ربما لا يوجد عاشقان لم يمرا من هنا ، لم يسيرا فوق أرصفته ، لم يرمقا بائع الفل وهو ينادي " فل للآنسة يا أستاذ " ، لم تبدأ قصتهم من هنا ، وهنا أيضا تموت عشرات القصص بعد أن تجهضها طلبات الأهل ، والرقابة المجتمعية ، وعيون الناس .
العاشق ، الذي يعطي للشارع ظهره، أمام مبنى ماسبيرو، على الكورنيش ينقل نظره بين الفتاة التي تجلس بجواره، والنيل أمامه، يلجأ إلى كورنيش النيل هربا من أسعار الكافيتريات الملتهبة في وسط البلد ، فهنا يستطيع أيضا أن يتناول الشاي والكولا لكن بأسعار «مهاودة»، وإن كان الباعة يلحون بشكل مرعب ، ربما يكون أكثر ما يضايقه هو العيون المتطفلة والتي تنظر إليه وإلى التي معه بإلحاح وكأنهما يرتكبان إثما، لكنه سيتعود على ذلك حين يدرك أن مصر كلها تأتي إلى أرصفة الكورنيش «عشان تحب».
العين المتفحصة لأرصفة كورنيش النيل تجد العشاق يسيرون معا، قلة من الشباب من كانوا يقفون وحدهم، يتطلعون إلى النيل، إلى برج القاهرة من الناحية الأخرى، وفندق الماريوت ومبنى الاوبرا ثم ينقلون عيونهم إلى مياه النيل، قلة من يأتون لكي يروا النيل ويستمتعون بجماله ، هناك أيضا فئة من الذين يأتون للبكاء على الأطلال إن صح التعبير ،من يأتون لكي يقفوا ويتذكروا حكاية قديمة مرت بهم من هنا ، لكنها تركت في القلب جرحا غائرا . الذين يأتون فرادى لكي يبكوا على الأطلال كشف لي عنهم، مطاوع، العامل في أحد المراكب الموجودة على النيل لتقل من يريد أن يتنزه في النيل من العشاق، او الزائرين القادمين من أماكن بعيدة، وأحيانا بعض السياح الاجانب مقابل جنيهين للدورة الواحدة، مطاوع قال لي: نحن لا نتعامل إلا مع مثل هؤلاء، وهناك وجوه مألوفة بالنسبة لنا، منهم من يأتي لوحده، وفي المرة الثانية يأتي مع أحد آخر، مطاوع لا يؤمن بالحب الذي يولد على كورنيش النيل، ويرى أنه ينتهي بمجرد أن تمر أي عاصفة أمامه. يعرف مطاوع أيضا العاشق الحقيقي من هيئته، ولكن قصصهم معظمها تنتهي بالفشل، بعد أن يكتشفوا أن الحياة أعقد من «مجرد كلمة حلوة على الكورنيش، معظم هؤلاء طلبة جامعة، وبمجرد أن يتخرج الواحد منهم، ويكف عن أخذ المصروف من أبويه تجده توقف عن المجيء إلى هنا ويبدأ في البحث عن وظيفة لن يجدها، لتنتهي قصة الحب التي لم تكتمل».
ما قاله مطاوع رغم أنه قاس قليلا، إلا أنه واقعي تماما. هناء التي كانت تنتظر بجوار أسد كوبري قصر النيل، وتنظر في الساعة بين حين وآخر، ورفضت الحديث معي، إلا بعد أن أتى شخص آخر، قالت لي إنه زميلها في الجامعة، وأنهما اتفقا على الزواج بعد انتهائهما من الدراسة، من معها قال إنه يعمل فترة بعد الدراسة، ولا يأخذ راحة إلا يوم الجمعة، وهو اليوم الذي يخرج فيه معها، وأضاف أيضا أن أسرته وأسرتها لا يعلمون أنهما يلتقيان هنا «وسط البلد كبيرة ما حدش عارف حد فيها ، وكل واحد هنا مشغول في اللي معاه ، كمان إحنا من حتة بعيدة ما حدش فيها بييجي هنا».
العاشقان الفقيران اللذان هربا من الرقابة المجتمعية، ومن البطالة للكورنيش ، قد تنتهي قصتهما على خير إذا حدثت معجزة، كأن يجدا عفريت مصباح علاء الدين الذي سوف يحضر لهما المهر والشبكة والشقة والعمل الذي سوف يكفي لإعالتهما. ، و إلا فإنه على هذا الرصيف سوف تنتحر قصتهما ، كما انتحرت أحلام كثيرة من قبل . باعة الفل والبطاطا واللب والكولا على رصيف كورنيش النيل يحفظون قصصا كثيرة ماتت مبكرا، لكن العشاق يكرهونهم لإلحاحهم، أحد باعة عقود الفل قال لي نحن نعلم أن الولد سيصاب بالإحراج من إلحاحنا وسيشتري فلا للبنت التي معه وإلا اتهمته بالبخل، وأضاف: نحن أيضا ليس لنا مورد رزق إلا هذا ولا توجد طريقة لكسب العيش إلا بهذه الطريقة. كورنيش النيل الذي يبدو جميلا مرحا، يخفي الكثير من الأحزان خلفه، ويضم أيضا إلى جوار العشاق من كانوا عشاقا وتزوجوا فيما بعد.
الأولاد الذين يلبسون بنطلونات جينز، ويمسكون في أيديهم علب سجائر من النوع الرخيص، و يغرقون شعرهم بالجل ، والبنات اللائي يرتدين حجابا صغيرا، أسفله بودي ذا لون فاقع لا يسر الناظرين ، وبنطلون استرتش يلمع من كثرة الكي حتى يبدو جديدا ، ويخفين وجوههن بالنظر إلى كورنيش النيل، يحملون حتما قلوبا تدق، أو ربما تجرب الخفقان لأول مرة، لكن أمامهم يقف عائق الرقابة المجتمعية، والبطالة التي جعلتهم يأتون إلى هذا المكان لأنه الأرخص ، باعة الورد يبيعون لهم حتما مع ورودهم شوك الفراق الذي سوف يأتي يوما ما، حينما تصدمهم حقيقة الواقع ، حقيقة الرصيف ، وعندها ، عندها سيسر العاشقون فرادى .

الأشهر

أشهر الأرصفة رصيف نمرة خمسة ، بعد إن مثل له فريد شوقي فيلما وغنى له عمرو دياب أغنية ، رغم أن الكثيرين لا يعرفون مكانه ، هناك أيضا رصيف التحرير الذي شهد تجمهرات كثيرة ومظاهرات عدة طوال نصف القرن الماضي، واستطاعت الدولة أن تحاصره، أن تسوره، أن تغلقه حتى على العشاق الذين يبحثون عن نسمة حب بدعوى تجميله، رصيف التحرير الذي يمتد بطول وعرض ودائرية ميدان التحرير من أشهر ارصفة مصر، يكفي ان تقول لصديقك سوف انتظرك في التحرير، أمام علي بابا، أو أمام «عم رمضان بتاع الجرايد»، أو أمام مقهي وادي النيل، أو أمام كشري هيلتون أو أمام المجمع، أو أمام تمثال عبد المنعم رياض، أو امام مسجد عمر مكرم، مئات الأماكن للانتظار في ميدان التحرير وفي رصيف التحرير ربما ليخلق بهذا وظيفة جديدة للرصيف لم تتحدث عنها من قبل نعم وظيفة الانتظار، فرغم أن الرصيف تمر به الحياة بسرعة، متدافعة متلاصقة، بلا دقيقة واحدة للتوقف والتقاط الأنفاس، إلا أن الانتظار أهم سمات الرصيف، أصدقاء ينتظرون بعضهم، عاشقون، أعداء، ولصوص أيضا.
هناك أيضا رصيف شارع عماد الدين ، فإلى جانب المئات الذين يسيرون للفرجة على محلاته واستوديوهاته القديمة ،هناك المئات الذين يقفون على أرصفته انتظارا لدخول السينمات الكثيرة المنتشرة بطوله ، ولا تنسوا رصيف شاع طلعت حرب والذي كانت له أهمية خاصة خلال القرن الماضي ، في بدايته كان يمشي عليه الأجانب والمثقفين للذهاب إلى جروبي لتناول الشاي وقراءة الصحف ، وفي الستينيات كان ملجئا للمثقفين المصريين الذين كانوا يفضلون الجلوس عليه أمام مقاهي أغلقت في السبعينيات مثل إسترا ، وايزافيتش ، وريش قبل أن تتحول .
سلم الجامعة ، المقولة الشهيرة ، لو اعتبرناه رصيفا ، فإنه سيكون الأشهر على الإطلاق ، يكفي فقط أن تستعيد الصورة الكلاسيكية للطلبة وهم يجلسون عليه في انتظار محاضراتهم ، أو للحديث عن المحاضرة السابقة والامتحانات والمستقبل والحب . .

رصيف المترو


لا يملك رصيف المترو كنز التجارب والخبرة الذي تملكه أرصفة باب الحديد، ربما لأن قطاراته تمر كل فترة وجيزة ، فلا تترك لرواده فرصة خلق حالة من الألفة معه ، على عكس رصيف أو أرصفة باب الحديد فإنها عقدت فيما يبدو علاقة اتفاقية مع أهل مصر الذين يبيت الكثير منهم فوقها في انتظار قطار سيتأخر قليلا .
رصيف المترو حديث النشأة في ربع قرنه الأول ، أي انه في مرحلة الشباب ، قد يبدو أكثر نظافة وتنظيما ، لكنه يبدو أحيانا أكثر قسوة ، ربما لأنه يدخل في دوامة الحياة ، ولأنه جزء من عجلة تسير سريعا ، لا يعطي رصيف المترو فرصة للتعارف ، ولا لإقامة العلاقات ، ولا لرسم خطوط على حيطانه القريبة يكتب فيها " للذكرى الخالدة " .
كيوبيد إله الحب ، قد يبدو هو الوحيد الذي كسر هذا الحاجز ، فقد قرر أن يٌهرّب أبناءه الصغار إليه ، التلاميذ الصغار ، الذين يكتشفون الحب لأول مرة على طرقاته فيما يذهبون إلى مدارسهم ، فيقررون أن يتركوا قطاراته تمر بينما هم يجلسون على كراسيه السوداء البلاستيكية ، أو الحجرية
رصيف المترو، أهم ظواهره: احتفاؤه بالعشاق الصغار، لأن عينك ستقع حتما، على ولد وبنت في سنواتهما الأولى يجلسان متجاورين على رصيف محطات المترو يمر القطار تلو القطار ولا ينصرفان، فقط يتحدثان ولا يأبهان كثيرا بالمترو، ولا بالعيون المتطلعة إليهما ، رصيف المترو خلق مكانا جديدا للحب يختلف كثيرا عن رصيف الكورنيش في انه مغلق كما انه يمكن وصفه بالحب «المقنع»، ما يضايق فقط الأحبة هو العيون المتطلعة والعساكر الذين يروحودن ويجيئون كثيرون ، لذا فهم لا يجلسون كثيرا ، وينتقلون كل قليل من محطة إلى أخرى .
أشهر أرصفة المترو، رصيف محطة المرج الجديدة ، حيث يدخلها يوميا ما يزيد عن المليون راكب ، الساكنون بالقرب من هناك ، والقادمين من منطقة القناة، الإسماعيلية وبورسعيد والسويس ، والقادمين من المدن الجديدة القريبة ، هناك أيضا رصيف محطة جمعة حلوان ،وهذا ينشط شتاء ، بسبب فترة الدراسة ، ورصيف محطة رمسيس ، فهي المصب الأساسي للقاهرة ،كما أن من رصيف المحطة تستطيع أن تتوجه إلى أي مكان في الاتجاهات الأربعة .

رصيف النفاق

أطول رصيف نفاق
الأهرام ، ورئيس تحريره ،وأعضاء مجلس الإدارة ،والصحافيون ،والإداريون والعمال يرحبون بزيارة
مبارك
يا سلام .. دول كلهم ؟ و دون أن يتخلف نفر واحد ؟

سوبر ماركت الرصيف وشركاه


هل تعرف محطة مترو العتبة ، إذا قررت الخروج من الاتجاه الذي يذهب بك إلى ميدان العتبة ومسرح العرائس وسور الأزبكية ، فإنك ستجد أمامك أكبر رصيف تجاري ، ربما لا يشبهه سوى الرصيف المقابل لمسجد الفتح بميدان رمسيس ، على رصيف محطة مترو العتبة ستجد كل ما يخطر على بالك من منتجات ، وبأسعار لا منافس لها ، ورغم أن معظمها سيئة الصناعة ، أو صينية المورد ، إلا أن فقراء وبسطاء وموظفي مصر ، وهم الأغلبية يجدونها الأنسب لإمكاناتهم المادية ، رغم أنهم يعرفون سلفا أنهم عندما يشتون هذه السلع فلن تعمر معهم كثيرا .
في سوبر ماركت الرصيف مفتوح ،وهناك بالطبع قسم خاص للمرضى تباع فيه أدوية شعبية لأمراض شعبية أيضا ، أو مستعصية فشل الطب في إيجاد علاج نهائي لها ، يقبل عليها الناس بعد أن تعبوا من المشاوير المتكررة الأطباء قساة القلوب غلاة الثمن الذين لا يريدون أن يرحموهم ويعطوهم علاجا رخيص السعر ، ستجد جميع أنواع الملابس ، الداخلية بتنوعها البيولوجي، وحتى الخارجية بأشكالها المختلفة ، تقليد لماركات عالمية ، أدوات مكياج تجد إقبالا كبيرا لرخص ثمنها ، شرائط الكاسيت الجديدة بعد تزويرها ، سي ديهات لأفلام ممنوعة ، حقائب للسفر ، ولاعات ، وأدوات كهربائية ، إيريال تليفزيون يلتقط لك قنوات فضائية ، سمسمية وحلويات مشكوك في صلاحيتها للأكل ،أحذية ، وأدوات منزلية ، دقيقة المحمول بنصف جنيه ، كتب في السور ، أي حاجة بنصف جنيه ،ورود صناعية مناديل ، ساندويتشات ، لو خرجت قليلا على رصيف مسرح العرائس ستجد الباعة السودانيون يبيعون محافظ ، وأعشاب ، ومقويات جنسية ، لو مشيت على الرصيف المقابل لجراج الأوبرا ، ستجد باعة صحف وكشري وفول ومشبك ،وستجد بائعة فطير مشلتت والأغرب ستجد امرأة تبيع محشي ، لو دخلت في الشارع المقابل ، ستجد على الرصيف الموجد أمام كل محل باعة يبيعون كل شيء ، فقد قرروا أن يحولوا الرصيف إلى سوبر ماركت مفتوح ،وعلى الرغم من أن البعض يردد أن أصحاب المحلات هم من يعطون باعة الرصيف هذه البضاعة لتسريبها ،وتصريفها لعيوب فيها ، أو لإدراكهم أن الناس يقبلون عليهم أكثر ،فإن هذا لا يمنع أن الرصيف هو أكبر تجمع اقتصادي .
الرصيف هو سوبر ماركت الفقراء ، يتفرجون على المعروض في المحلات الفخمة ،ويذهبون للبحث عن تقليده على الأرصفة ، هم بالتأكيد يشعرون أن الأرصفة هي الأقرب إليهم ، هي التي تشبههم ، هي التي يستطيعون الاشتباك معها دون أن تقسو عليهم .

رصيف نمرة 11

أبناء الجنوب فقط يعرفون هذا الرصيف ، فحين قدومهم إلى القاهرة للدراسة أو العمل ، أو لتأدية خدمتهم العسكرية لابد أنهم مروا عليه ، وقفوا عليه طويلا ، ولا بد أنهم في عودتهم انتظروا عليه ، مارسوا الحزن والتأمل ، قبلوا أصدقاءهم ، وودعوهم ، اشتروا جرائد ومجلات قديمة من باعتها المنتشرين على طوب الرصيف ، اشتروا شريطا جديدا لياسين التهامي أو للعربي البلبيسي ، سمعوه ذات مرة عند أحد معارفهم ، يمدح فيه النبي وآل البيت ، من بائع هناك .
رصيف رقم 11 هو أكثر أرصفة باب الحديد تميزا بحزنه ، أكثرها شهرة بحكاياته المأساوية ، عليه تمر قطارات قادمة من الصعيد ، أو ذاهبة إليه ، تحمل عبق تلكم البلاد البعيدة الجميلة ، تستطيع أن تلمحه من أي مكان ، منه انطلق القطار الذي احترق منذ سنوات ، وعليه تتعلق آلاف الأحلام للقادمين ، الباحثين عن الحلم والمال والعلم ، عليه تصافح عيونهم لأول مرة القاهرة ،عليه يكتشفونها فيفزعون .
على القرب منه توجد أرصفة أخرى كثيرة ، بعضها أرستقراطي ، تمر عليه قطارات مكيفة ، وقطارات للنوم ،وبعضها عادي يحمل الطلاب في الجامعات إلى المحافظات القريبة،وحكاياتهم وقصص حبهم معه و .لكن رصيف 11 يحمل فوقه مغزى الحياة ، وصناعها ، عليه دموع سكبت في وداع حبيب أو صديق أو لقريب ، عليه عادت أحلام فشلت في إيجاد مكان لها ، عليه تفاصيل الحياة ، باعة ، وشحاذين وحمالين ، ونساء ورجال وطلبة وحب وكراهية .
رصيف رقم 11 هو رصيف باب الحديد ، محطة مصر، تعرفه من الوجوه السمراء المتعبة المجهدة الواقفة فوقه المنتظرة قطارا درجة ثالثة أرخص جنيهين ، كي توفرهما للأولاد .
أرصفة باب الحديد عامة هي أشهر أرصفة القاهرة، يعرفها كل من جاء مسافرا من محافظات القاهرة إليها، لم يأت إليها احد إلا ومر من خلالها، ووقف عليها، وانتظر قطارا، وودع أحبة، ذرف دموعا عليهم، ولوح لهم بمنديله، وقد يغني لهم «يا مسافر وحدك، وفايتني» ، عليها انهارت أحلام، وجاءت أحلام، وسقطت أخرى تحت عجلات قطاراتها الكثيرة
أرصفة باب الحديد حياة متكاملة صور جزءا منها المخرج يوسف شاهين في فيلمه الذي حمل نفس الاسم ولعب بطولته مع هند رستم. به كل وجوه مصر، صعيدها وريفها، ودلتاها وبحرها وشمسها وحدودها. لو ذهبت إليها ستجد وجوها جاءت من كل شبر.. به تلخيص للحياة الاجتماعية.. وحتى هذا الرصيف يقسمهم طبقات حسب القطارات، فركاب قطارات النوم يختلف تمام الاختلاف عن ركاب قطارات الدرجة الثالثة و«السبنسة»والاشتراك.
مرتادو رصيف رقم 11 غرباء ، يحملون بلادهم داخلهم ، حين تقتلهم المدينة سيقرءون شعرا عن هذا الرصيف ":
" أيها الغرباء
سأمهلكم قليلا
كي تستنشقوا أغاني قادمة
من الصحراوات البعيدة
كي تشموا عرق القطارات
كي تعانقوا الحقائب الراحلة
تحملونها بقبلاتكم
وبأحلام ميتة
للصغار " .

كسر الرقابة

هناك صورة قديمة لأرصفة الليل مترسبة في ذاكرة العديد من الأجيال ، تبرز فيها فتاة الليل تستند على عامود نور ضوء ه شحيح ،وترتدي فستانا قصيرا ،وتدخن في شراهة ، فيما تمر بجوارها قطة سوداء .
هذه الصورة الكلاسيكية لليل ،ولأرصفته تبدو بعيدة إلى حد كبير عن رصيف الليل الحقيقي ، والذي يشبه حضن دافئ يربت على كتف الناس بعد مباراة من السرعة والتعب طوال النهار .
رصيف الليل يختلف عن رصيف النهار ، رصيف النهار مزدحم قاتل، قد يصيبك باليأس ، أناس تتدافع لتقضي حاجاتها ، لتعود إلى بيتها لتنام قليلا، لتهبط ليلا مرة أخرى إلي نفس الرصيف لكن وهم أكثر هدوءا للتمشية ، للجلوس علي المقهي ، لمقابلة الأصدقاء ، للوصول إلي حافة الرفض ، وهو الدور الذي يلعبه الرصيف ببراعة ، فهو أحيانا يمثل لدي البعض كسرا للرقابة ، فعليه يوجد كل شيء فمثلا عندما تمنع الرقابة فيلما، ستجده يباع في اليوم التالي علي الرصيف ، بعد أن تم تصويره ونسخه ، وعندما يتم منع كتاب يتم تصويره ونسخه ونشره بسرعة ،والرصيف هنا يمثل حافة المعجزة ،الطريق للقفز علي التابو ، الجنس والسياسة والدين.
على أرصفة الليل ،تجد الأزواج الجدد يفتشون في الفاترينات عن ملابس للبيبي المنتظر ، الأصدقاء القدامى يجلسون على مقهى ، المتعبين والفاقدين للأمل في بارات قديمة ، باعة جرائد الغد الذين يبيعونها بزيادة ربع جنيه ، الشحاذون بأشكالهم ووسائلهم المختلفة ، الازدحام أمام السينمات ، باعة المخدرات ، في الأزقة الجانبية ، عربات تلتقط فتيات ليل يختلفن عن الصورة الكلاسيكية ، على أرصفة الليل تجد الممنوعات بأشكالها المختلفة ، باعة السي ديهات الممنوعة ، والمزورة والمجلات الإباحية ، وتجار العملة ، ومروجي المخدرات ، ينشطن في هذه الفترة ، أيضا في الليل تتقاطر الضحكات الصافية من المقاهي المنتشرة على الأرصفة بعد تعب يوم كامل .
أرصفة الليل بيوت حقيقية ، يجدها البعض ملاذا آمنا ، ومهربا من " خنقة " النهار " ويجدها البعض الآخر فرصة للراحة ، واكتشاف جوانب جديدة للحياة ، لذا فإنك لا شك ستكتشف أن ثمة فارقا بين وجوه الناس بالليل ،ووجوههم بالنهار . .
مشكلة الأرصفة أنه لا يفكر فيها احد، في تجميلها ، لتحويلها إلي بيوت حقيقية ،مادام المصريون اعتبروها ، بيوتهم الثانية، قري مصر ، ومدنها الصغيرة ، ليس بها أرصفة، القاهرة بها ذلك ، القاهرة هي أرصفتها.
أواصل سيري ، أردد أغنية " رصيف نمرة خمسة والشارع زحام ، وساكت كلامنا ما لاقي كلام " انتقل من مقهى إلى مقهى ، من رصيف إلى رصيف ، من وجه إلى آخر ، ابحث عن وجه المدينة ، أتعثر ، تتلقفني يد المدينة، اقصد رصيفها .