20‏/12‏/2019

محمد أبو زيد: نعيش أزمة قراء


حاوره: السيد حسين
أكد الشاعر والروائى محمد أبو زيد، أن  قصيدة النثر أصبحت جزءا فى  تاريخ الشعر في العالم، والعالم كله تجاوز مشكلة قصيدة النثر والموزونة ما عدا نحن.
 ويعد أبو زيد أحد أهم الأصوات الشعرية المتفردة، حيث صدرت له سبعة دواوين أبرزها:«ثقب فى الهواء بطول قامتي»، و«مديح الغابة»، و«قوم جلوس حولهم ماء»، و«طاعون ا يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء» و«مدهامتان»، و«مقدمة فى الغياب» كما صدر له ديوان للأطفال بعنوان «نعناعة مريم»، وكتاب نقدى بعنوان «الأرنب خارج القبعة». وفى السرد رواية «أثر النبي»، وسبقتها رواية «ممر طويل يصلح لثلاث جنازات متجاورة» التى حاز عنها جائزة «يحيى حقي» بالمجلس الأعلى للثقافة في مصرفى العام 2003 وحصل أبو زيد على جائزة سعاد الصباح فى الشعر عن ديوانه «أمطار مرت من هنا» في العام 2005..
وكان ل هذا الحوار للأهرام العربي حول ديوانه الأخير «جحيم» وروايته الثالثة «عنكبوت فى القلب» التى وصلت إلى القائمة الطويلة فى جائزة الشيخ زايد الإماراتية، فإلى نص الحوار
-جاء ديوانك الأخير "جحيم" بعد توقف عن نشر الشعر على غير عادتك لماذا؟
ـ ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي أتوقف فيها عن نشر الشعر لمدة أربع سنوات، فآخر ديوان لي هو "سوداء وجميلة" صدر عام 2015، وربما لو راجعت ما نشرت ستجد ديواناً لي كل عامين على الأكثر، لكن أعتقد أنني بعد الديوان الأخير كنت  في حاجة للتوقف قبل الخطوة القادمة، وفي ظني أن هذه الوقفة مطلوبة من كل كاتب بعد كل عمل له، ورغم أن هذه وقفة متكررة بعد كل كتاب لمحاولة تجاوز التجربة السابقة والدخول في تجربة جديدة، إلا أن الأمر طال هذه المرة، ليس لأن الأمر متعلقاً بما أكتب فقط، بل لأن المشهد الشعري بالكامل يتغير، وأظن أن الحراك في المشهد الشعري الآن أصبح مختلفاً لا سيما بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي واستفادته منها؟

ـ ما التجربة الإبداعية التي يطرحها الديوان؟
كان ديوانيّ الأخيرين "مقدمة في الغياب" و"سوداء وجميلة"، نتاج تجربة السفر للعمل في الخارج، ومن الممكن أن تلمح فيهما ذلك بوضوح، وبرغم أن الديوان الجديد "جحيم"، مكتوب بالكامل أيضاً خارج مصر، إلا أن التعامل مع الغربة فيه اتخذت شكلاً مختلفاً، بل يمكن أن تقول إنها اختفت، ما عدا ظلال بسيطة وبعض القصائد في النهاية، ربما يمكن للنقاد أن يقولوا ما الذي تطور في هذا الديوان، لكن أعتقد أن القصائد صارت أكثر تكثيفاً وبساطة، وربما هذا هو درس الشعر الذي نتعلمه مع الوقت، أنك تكتشف أن البساطة هي سر الشعر، وأن التعقيد والانغلاق عدوه الأبدي؟

ـ "جحيم".. لماذا هذا العنوان، ماذا تقصد به؟
ـ يمكنك أن تقول إن هذا العنوان هو إغلاق لقوس فتحته قبل تسع سنوات مع عنوان ديوان "مدهامتان"، والذي هو وصف للجنة كما ورد في القرآن الكريم، ما بين "الجنة" و"الجحيم"، تغيرت رؤيتي لما أكتب، ولمحيطي ولجدوى الكتابة ذاتها، الجحيم ليس بالضررة أن يحمل معنى دينياً أو ذاتياً، يمكن أن يكون إنسانياً مع التغيرات التي حدثت للفرد الذي دهسته ماكينة العالم العملاقة.

-بعد ثمانية دواوين شعرية صدرت لك ما بين عامى 2003 و2015، إضافة لعمل شعري للأطفال بعنوان "نعناعة مريم"، هل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره في المشهد؟
ـ لا أعتقد أن الشعر تراجع، بل يمكنني القول إن هناك ثورة شعرية تبدو في الأفق مع عشرات الأصوات الشعرية التي نراها يومياً، واستفادتها من وسائل النشر المختلفة التي أصبحت متاحة الآن، بل إن الشعر ـ على سبيل المثال ـ هو الأكثر استفادة من الفنون الأخرى من النشر عبر فيس بوك وتويتر، ففي حين يصعب نشر قصة ويستحيل نشر رواية أو مسرحية كاملة، وجد الشعر ضالته في الانتشار والوصول إلى قارئه بعد أن عانى كثيراً.

 -أنت من كتاب قصيد النثر فما رأيك بها؟ وهناك من يعتبرها مجرد خواطر شخصية ولا ترتقي لمستوي القصيدة العمودية؟
ـ لن يتقدم النقد العربي، والكتابة العربية خطوة للأمام، ما لم نتجاوز هذه المقولات. قصيدة النثر أصبحت جزءاً من تاريخ الشعر في العالم، والعالم كله تجاوز مشكلة قصيدة النثر والموزونة ما عدا نحن. ربما يكون هذا عائداً لرفضنا أي جديد. وعائد أيضاً لأننا نريد أن نعيش في الماضي ونكرر ما كتب، والدليل على هذا هو أن معظم القصائد العمودية التي تكتب الآن هي إعادة كتابة لقصائد قديمة. ليست لدي مشكلة مع القصيدة العمودية، ولا قصيدة التفعيلة. مشكلتي فقط في أننا نقف في حين يتقدم الآخرون، أننا نتعلق بالشكل ونتغاضى عن المضمون، الشعر كائن حي، لا بد أن يتطور.ونثرية القصيدة جزء من هذا التطور، تماماً كما تطور الإنسان وتطورت أفكاره منذ كان رجل الكهف إلى رجل العصور الوسطى وحتى الآن، وهناك تطور قادم سواء في الإنسان أو في القصيدة  فكلاهما انعكاس للآخر.


- هل نعيش أزمة شعر أم أزمة شعراء؟ وفي رأيك لماذا الشعر يفتقد القراء؟
ـ نعيش أزمة قراء. هناك شعر وهناك شعراء، لكن لا يوجد قراء. وأنا هنا أعلق الجرس في رقبة الجميع، بداية من المجتمع الذي لم يعد يهتم بتعليم اللغة العربية من الأصل، مروراً بالمناهج التي تًحقّر من أي نوع شعري بخلاف القصيدة العمودية، إلى الناشرين الذين يبحثون عن المكسب السريع بنشر كتب رديئة وليس انتهاء بالمؤسسة الثقافية بكل آلياتها، من الشعراء إلى الهيئات الحكومية، إلى قصور الثقافة إلى المكتبات الغائبة. الأزمة ليست في غياب الشعر فقط، الأزمة في غياب كل ذي قيمة لصالح تلميع الخواء والفجاجة.

-هل يختفي ألق الشعر أمام ألق الرواية؟ وهل يمكن أن نقول إن الزمن زمن رواية بامتياز، وإن الأجناس الأدبية الأخرى آن لها أن تتنحى؟
ـ لا أعتقد أن هناك حرباً حرباً بين الشعر والرواية، أو مباراة سيكسبها أحدهما في النهاية، هما نوعان من الفن قد يلتقيان أحياناً في نص مشترك وقد يفترقان، ولكل نوع قراؤه ومحبوه، وهناك مستفيدون من مقولة "زمن الرواية" سعوا للترويج لها، بداية من الناشرين إلى المؤسسات المانحة للجوائز، في حين يغيب الشعر عن كل هذا. عموماً الشعر في غنى عن كل هذا، الشعر فخور بكونه غريباً، فقد ولد غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للشعراء والغرباء.

*الشاعر الفرنسي دوني روش، قال مرة بأن الشعر عاجز عن إحداث أي تغيير في الإنسان والعالم واعتزل الشعر، كيف تقرأ قوله هذا، ولماذا يكتب الشعراء إذن إذا كان ما يذهب له صحيح؟
ـ لم يعد الأدب قادراً على تغيير شيء في المجتمع، لم نعد في الزمن الذي يكتب فيه شخص رواية فيتغير قانون أو تقوم ثورة. مهمة الشعر أو الفن هي تغيير الفرد، بداية من كاتبه، وهذا تغيير على المدى الطويل، فإذا كنت قادراً على نشر الشعر، فأنت قادر على نشر الجمال، فأنت على المدى الطويل قادر على خلق الجمال في مجتمع بالكامل. لكن ما أقوله دائماً، أنني في البداية كنت أكتب الشعر ظاناً أني أستطيع به تغيير العالم، لكن ما أطمح إليه الآن أن يساعدني الشعر على تغيير نفسي.

-صدر لك روايتك "في روايتك "عنكبوت في القلب"، اشتغلت على تيمات مختلفة، جعلتنا أمام عوالم يتداخل فيها الواقعي بالسحري والخرافي والأسطوري.. فكيف تقدم للقراء هذا النص؟ وكيف ولدت فكرة العمل لديك؟ وفي أي أجواء كتبته؟
ـ أعتقد أن الكتابة الجديدة تطورت لدرجة أنه لا يمكن الفصل فيها بين الفنون المختلفة، وهذا ما سعت الرواية إلى تحقيقه، وأتمنى أن تكون نجحت فيه، فكما حاولت في النص أن أستفيد من الثيمات الحديثة في الكتابة، حاولت أيضاً أن أستفيد من التراثي الكتابي، سواء العربي أو الأجنبي. وفكرة الرواية شديدة البساطة وهي قصة حب بين شاب وفتاة،  لكنها تطرح عشرات الأسئلة حول حقيقتها وحول استمرارها، وحول وجودها من الأساس، وقد استمعت إلى قراءات كثيرة للرواية، وكل قراءة ترى النص من زاوية مختلفة. لا أعني بهذا أن النص مغلق أو أكثر تطوراً، لكن أعني أن النص سعى بالفعل إلى هذا لحظة كتابته.

-برأيك ما الحد الفاصل ما بين الواقع والمتخيل في "عنكبوت في القلب" شخوصاً وأحداثاً؟ ومن ثم إلى أي مدى يستطيع الكاتب أن يكون حيادياً في تسيير شخصيات روايته؟
ـ الفن ينبع بالأساس من المتخيل، لأن الخيال يعلو الواقع بدرجات، وأعتقد أن هذه هي الإشكالية التي تطرحها الرواية أو تناقشها، وهي كيف نجعل واقعنا أفضل بالمتخيل، تماماً كما تمنحنا أحلامنا وطموحاتنا طاقة لإكمال حياتنا بمبررات أقوى. الخيال يفعل هذا. والرواية لم تمزج الواقع بالمتخيل، بل حولت الواقع إلى خيال لتجعله أكثر احتمالاً وأكثر جمالاً، وهذا ما كانت تفعله بطلة الرواية "ميرفت عبد العزيز"، التي تعاني من رتابة حياتها، وكانت تبحث عن معجزة صغيرة تعطي طعماً لأيامها العادية، حولت حياتها إلى خيال، وهو ما تحقق في النهاية. حتى ظهور المؤلف في الرواية، لم يكن تماساً مع الواقع، فبداية لم أذكر أنني المؤلف، حتى لو كان يحمل اسمي، فالفصل الذي أتحدث فيه عن الكاتب اسمه "مؤلف" أي من الممكن أن يكون أي مؤلف آخر غيري، كما أن المؤلف حياته غير تقليدية، فهو يقابل الكائنات الفضائية على الطريق الدائري، وعامل السوبر ماركت يصعد إليه طيراناً. هذه الرواية إذن بعيدة عن الواقع بشكل الطبيعي، لكن قدمت ما يمكن أن نسميه تخييل الواقع، أو خلق واقع مناسب لشخوص الرواية.

- تقول "أعتبر هذه الرواية تكملة لمشروعي الشعري"، كيف ذلك؟
ـ لم أكتب الرواية بصفتي روائياً، لكن بصفتي شاعراً، يمكنك أن تقول إنني فردت بعض خيوط القصيدة لديّ على امتدادها فجاءت الرواية، بمعنى أن بعض شخصياتي الشعرية، التي ظهرت في العديد من دواويني، منحتها حياة إضافية، وسردت الكثير من تفاصيلها، أن بعض الصور الشعرية التي قد تقرأها في سطر في قصيدة، تعاملت معها باعتبارها واقعاً وأكملت بقية الحكاية. أعتقد أن من قرأ دواويني السابقة سيفهم الرواية بشكل مختلف عمن سيقرأها بشكل منعزل، وأعتقد أيضاً أن المهتم بعوالم السينما ستصله إشارات مختلفة تماماً عن المهتم بالتراث العربي القديم والحكائي بشكل عام. كان طموحي أن أستفيد من منابع الثقافة المختلفة، لاسيما العصرية من عوالم السوشيال ميديا إلى الفيديو جيمز، وأعتقد أن الرواية بها طبقات من الكتابة المختلفة، لأنها حاولت أن تستفيد من كل ذلك ومن مجالات الفن المختلفة من الشعر إلى السينما إلى المسرح، وأتمنى أن تكون وفقت في هذا.

-شخصيات الرواية ميرفت عبدالعزيز، بيبو، سامى، وأنت محمد أبوزيد وغيرها كم اقتربت من الواقع؟ وهل تسرب جزءاً من سيرتك الذاتية إلى الرواية؟
ـ لا شيء من سيرتي الذاتية في الرواية، كما يمكن أن يكون "محمد أبو زيد"، بطل الرواية شخصاً آخر غيري، لكن صادف أنه يحمل اسمي، ومع ذلك يمكنني أن أعترف لك أنه لا يوجد مشهد في الرواية لم أره أو أصادفه أو أمر به أو أحلم به، كتبت الرواية في سبع سنوات حدث الكثير خلالها في حياتي وفي العالم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، يمكن أن ترى ذلك في الرواية، ويمكن ألا تراه، وأعتقد أن هذه هي خدعة الفن التي نحبها.

- كل عمل أدبي لا يخلو من هدف، إلى ماذا كنت تهدف؟ وهل يمكن النظر إلى الرواية بصفتها تحمل إسقاطاً على الحاضر؟
ـ لا أحبذ فكرة الإسقاط، ربما كان هذا يصلح لزمن آخر، لكن أعتقد أن الكتابة الحديثة تجاوزت هذا من زمن، كما لا أحبذ أن يتحدث الكاتب عن الهدف من وراء كتابته، لكن أقول إن الهدف الأول والأخير بالنسبة لي وللقارئ، هو المتعة وحدها، وإذا صادف القارئ هدفاً آخر فهذا شيء جيد.

-ما هي أهم المحاور التي تحب الخوض في غمارها أثناء كتابتك؟ من ثم وأنت تكتب هل تفكر في القارئ؟
ـ لا أفكر في القارئ بالطبع، وإن كنت أسعد بالطبع إن أعجب ما أكتب قارئاً. والحقيقة أن فكرة التعويل على القارئ في عالمنا العربي شديدة البؤس، فلا قارئاً في الأفق ولا يحزنون، جميعنا يعلم أن الأدب ـ سواء كان شعراً أم رواية ـ لا يطبع ولا يُقرأ ولا يوزع، وأقصى طموحنا أن تنتهي الطبعة التي لا تتجاوز في أفضل الحالات 3 آلاف نسخة، وبعض دور النشر الخاصة تطبع 200 نسخة، ومعظمنا يعرف قراءه بالاسم، فأي قارئ تتحدث عنه. الحقيقة هي أننا نكتب لأنفسنا أو دائرتنا الضيقة المحدودة، هذه الدائرة أحياناً تدفع البعض لتكرار ما يكتبه هو أو يكتبه من حوله حتى يحوذ على الاستحسان المحدود، لذا فالأفضل بالنسبة لي أن أكتب لنفسي، أنا قارئي الأول والأخير، وفي كثير من النصوص أكون قارئي الوحيد.

-ما الذي ينقص الرواية العربية لتصبح منافسًا عالميًا؟
ـ الترجمة، وأقصد بها هنا شيئين، الأول أن نقرأ روايات مجايلينا أو من سبقونا من الدول الأخرى بشتى اللغات، وأعتقد أن هذا سيسهم في تطوير الرواية العربية بشكل كبير، والشيء الآخر هو أن تترجم الأعمال العربية. لم يكن نجيب محفوظ سيحصل على جائزة نوبل لو لم تترجم رواياته منذ فترة طويلة وتُقرأ عالمياً، كيف سيعرف العالم أن هناك كاتباً يكتب بالعربية بشكل جيد، الإشكالية الحقيقية هنا هي أن معظم الأعمال العربية المترجمة إلى اللغات الأجنبية رديئة، لأنها تعتمد على العلاقات العامة، وعلى مدى علاقتك بالمترجم أو دار النشر، على كونك تعيش في الخارج ولديك علاقات، أو تعرفت بالصدفة على مترجم يزور بلدك العربي واتفقت معه على ترجمة روايتك، ومعظم هذه الترجمات بسيطة ومحدودة ولا تصل إلى القارئ الأجنبي، ولن تؤدي إلى شيء في النهاية ولن تفيد الأدب العربي في شيء، وسيظل الأدب العربي بعيداً عن العالمية ما دامت العلاقات العامة هي التي تحرك الترجمة.

-بالنظر إلى تجربتك في تأسيس ورئاسة تحرير موقع الكتروني "موقع الكتابة الثقافي". أسألك هل انخرط الروائيون والكتاب العرب في المد الرقمي كما ينبغي؟ وهل يمكن لهذا أن يؤسس برأيك لتراكم إبداعي عربي في مجال الأدب الرقمي؟
ـ أكمل موقع الكتابة الثقافي ثلاثة عشر عاماً، وأظن أنه خلال هذه السنوات استطاع أن يكون أرشيفاً لجيل كامل من الكتاب المصريين، لكن سؤالك يفتح جرحاً، وهو مدى علاقتنا نحن العرب بالمد الرقمي، يمكن القول إن الأجيال الجديدة من الكتاب تهتم بهذا، لكن الأجيال السابقة لا زالت ترى النشر الورقي هو الأهم، لذا فهناك غياب كبير للأجيال القديمة عن النشر الرقمي، لكن ليست هذه هي الإشكالية الوحيدة، إذ أن المشكلة الكبرى هي غياب الدعم عن معظم المواقع الإلكترونية الثقافية فمعظمها يعتمد على التمويل الذاتي، ولهذا فمعظم هذه المواقع يغلق أبوابه في النهاية، وهو ما حدث مع موقع مهم مثل "جهة الشعر" الذي بذل فيه الشاعر الكبير قاسم حداد جهداً كبيراً على مدار سنوات، والبعض يغلق المواقع لإنه مل أو تعب أو وجد أنه لا توجد فائدة ترجى من وراء هذا الجهد أو لم يجد التقدير الكافي. ومع إغلاق هذه المواقع تغلق نوافذ لحفظ الإبداع العربي رقمياً، وتضيع آلاف المواد المؤرشفة رقمياً، لدرجة أن بعض الأسماء من الممكن ألا تجد لها وجوداً على الإنترنت، ولو مددنا الخيط على استقامته سنجد أنه مع إغلاق صحف عربية مهمة مثل الحياة والسفير والمستقبل ضاع تراث ثقافي مهم أيضاً كان محفوظاً إلكترونياً. وأنا هنا لا ألوم المثقفين الذين تبرعوا وأطلقوا هذه المنصات الثقافية، فقد تبرعوا بهذا، بل أعيب على المؤسسات الثقافية التي لا تسعى لأرشفة الأدب العربي إلكترونيا بما يساعد القارئ والكاتب والباحث. لذا لا أظن أن المواقع الثقافية العربية الموجودة حالياً ستؤسس لأي تراكم أدبي عربي، لأنها معرضة طوال الوقت للإغلاق أو الإفلاس.

- كيف تقرأ المشهد الإبداعي والثقافي في مصر اليوم؟
ـ أعتقد أن هناك حالة حراك ثقافي كبيرة تحدث الآن، هناك نصوص كثيرة تكتب، تجاوز الكثير من الكتاب أزمة النشر الورقي وأصبحوا ينشرون إلكترونياً أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت التواصل مع نظرائهم في الدول العربية، فساهم هذا في الاطلاع على تجارب عربية أخرى. وأعتقد أن الانفتاح الرقمي سيلغي فكرة التجييل التي تعودنا عليها، لأن الكتابة ستصبح جزءاً من حركة آلة العولمة وهذا له فوائده وأضراره الجمة لكن ليس هذا هو حديثنا، طبعاً هناك مشكلات كثيرة مثل أن من يريد أن ينشر أي شيء سينشره، وسيجد من سيصفق له، لكني أؤمن بأن الزمن مصفاة، كما أن أزمة غياب النقد لا زالت مستمرة، فضلاً عن غياب المؤسسة الثقافية الرسمية، لكني مع ذلك أظن أن المشهد الثقافي سيخلق آلياته البديلة في النهاية بما يتيح له الاستمرار والتطور، وهو ما يوجب الإشارة إلى ضرورة عدم الحكم على المشهد الثقافي اليومي بآليات المشهد في العقود السابقة.


-كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية العربية، وهل يمكن اعتبارها معياراً حقيقياً وصادقاً يؤشر للأعمال الجيدة؟
ـ أول ملحوظة على الجوائز هي غياب جوائز الشعر، وإن وجدت فهي للقصيدة العمودية أو التفعيلية، وهذا يشرح لك إلى أي مدى تتجاهل المؤسسات الثقافية العربية قصيدة النثر، الملحوظة الثانية هي أن الجوائز العربية تخضع في النهاية لذوق اللجنة، ولسياساتها، فليست بالضرورة النصوص الفائزة هي الأفضل بقدر ما هي تعبر عن اللجنة وذوقها وتربيطاتها وحساباتها أحياناً، لكن في النهاية فوجود الجوائز هو أمر جيد ودافع للكثيرين للكتابة، وهو ما نحتاجه، بغض النظر عن اسم الفائز.

- كيف حال النقد معك؟ هل أنت مرتاح من جهة النقاد؟ وهل نالت أعمالك نصيباً من اهتمامهم؟
ـ أي كاتب يسعد بتناول النقاد أعماله، وسعدت بتناول نقاد كبار أعمالي بالنقد، لكن هناك مشكلة في غياب النقد من الأساس. عدد النقاد الأكاديميين يمكن عدهم على أصابع اليدين، ولكل واحد منهم اهتماماته وصداقاته وعداواته وشلته، ومعظم من يكتب النقد هم شعراء أو روائيون يكتبون لمؤازرة زملائهم لأنهم يعانون مثلهم. للأسف فالمشهد النقدي الراهن لا يعبر بأي  حال من الأحوال عن المشهد الإبداعي الثري.  

-ماذا تكتب الآن؟
ـ أعمل على كتاب أدبي، ليس شعراً ولا رواية، هو نص مفتوح عن مدينة القاهرة، أعمل عليه منذ سنوات طويلة وأتمنى أن ينتهي قريباً.
...........
*نشر في مجلة الأهرام العربي


06‏/12‏/2019

The Art of Self-Defense .. أو "فن الوحدة" للدفاع عن النفس


The Art of Self-Defense .. أو "فن الوحدة" للدفاع عن النفس

كان يمكن لفيلم "The Art of Self-Defense" أن يصبح فيلماً عادياً من أفلام رحلة الانتقام، والتي تبدأ بتعرض البطل لاعتداء يغير حياته، فيقرر أن يتدرب على ممارسة الرياضة كي ينتقم ممن اعتدوا عليه في النهاية، وهي أفلام تكون غالباً بلا قيمة فنية تذكر، قدم الكثير منها أبطال الأكشن في الثمانينيات والتسعينيات مثل  سلفستر ستالون أو أرنولد شوارزينجر أو فان دام، وغيرهم. وكان يمكن أيضاً أن يكون فيلماً يحتفي بإحدى لعبات الدفاع عن النفس في سياق رحلة الانتقام مثل فيلم "فتى الكاراتيه" بتنويعاته المختلفة أو عشرات الأفلام الصينية أو حتى بعض أفلام مارفل ودي سي، أو كان يمكن على أفضل تقدير أن يصبح فيلماً دموياً ذا نكهة فنية خاصة مثل "اقتل بيل"، لكن المخرج والسيناريست رايلي ستيرنز استطاع أن يذهب بفيلمه الأخير بعيداً عن كل هذا، واستخدام كل تلك الأدوات القديمة لتقديم فيلم عن الوحدة في مواجهة العالم.
بأداء مثير للإعجاب من جيسي إيزنبرغ، نقابل "كايسي"، أمين المكتبة الخجول الذي انتصفت ثلاثينياته، ويعيش وحيداً مع كلبه، بلا أصدقاء، ولا علاقات عاطفية، لا يستطيع إكمال جملة في حوار مع أي شخص، ، حتى في الوقت الذي يقرر أن يخوض فيه حديثاً مع أحدهم لا يصمد أمام سخافات الآخرين، يتعلم الفرنسية لأنه يحب فرنسا ويحلم بالسفر إليها، يقاوم ضغوط الحياة بطقوس يومية ثابتة، ينأى بوحدته بعيداً عن الاحتكاك بالعالم، من الممكن أن نرى ظلال هذه الشخصية في عشرات الوجوه حولنا، الذين حولتهم التكنولوجيا إلى أشخاص انطوائيين، ويمضي بهم العمر وهم لا يفعلون شيئاً سوى اتقاء شرور الحياة، ينأون بأنفسهم عن الدخول في أية علاقات إنسانية، وهو ما يذكر بأفلام عظيمة مثل "تاكسي درايفر"، و"her"، وغيرها.
تسير الحياة على وتيرتها التقليدية التي تعوّد عليها كايسي، حتى يقع الحادث الذي يفترض به أن يغير حياته، وهو تعرضه للاعتداء والإيذاء الشديد من عصابة موتوسيكلات مُقنعة، فيظل في بيته رافضاً الخروج ثم في نوبة شجاعة يقرر شراء سلاح ناري، قبل أن يلتحق بمدرسة لتعلم الكاراتيه. حتى هنا تبدو الأحداث عادية من الممكن أن نراها في أي فيلم أكشن تقليدي، لكن لقطات الفيلم الطويلة الصامتة، والأداء شديد البساطة والإقناع من جيسي إيزنبرغ الذي يبدو صامتاً هادئاً بملامح وجهه المسالمة وكفيه المدليين كأنهما مستسلمان، وكتفيه المائلين إلى الداخل كأنه كتاب مغلق على نفسه، كل هذا يدل على فصل مختلف قادم من الفيلم.
لا يلتحق كايسي بمدرسة الكاراتيه من أجل الانتقام، بل لأنه يريد ألا يظل خائفاً، لأنه يريد أن يصبح مثل الذين اعتدوا عليه، تصبح لعبة الكاراتيه هي علاجه النفسي، يشعر بالقوة عندما يكون في المدرسة، لكنه عندما يخرج منها يعود إليه قلقه وخوفه من العالم، لذا عندما يحصل على الحزام الأصفر، يذهب إلى السوبر ماركت ويشتري الأشياء الصفراء فقط، لأن اللون أصبح معادلاً للقوة في داخله، بل يرتدي حزام الكاراتيه الأصفر على ملابسه أثناء الخروج كي يتغلب على خوفه، ثم يقرر صنع حزام أصفر خصيصاً لا يخلعه أبداً حتى لا يفقد شعوره بالأمان.
تحضر الألوان برموزها في الكثير من مشاهد الفيلم، بداية من الأبيض الذي كان عليه كايسي في البداية، وحتى الأسود الذي تحول عليه في النهاية، قبل أن يتنازل عنه،  كل لون يعبر عن مرحلة حياتية، وعن حالته النفسية، بل إن كل لون يحمل أكثر من وجه، فبعد أن كنا نرى الأصفر يعبر عن الثقة والقوة يتحول لشيء شرير وغاضب، وذلك عبر طرح مساحات شاسعة من الألوان الأساسية في مشاهد الفيلم.
يكمن جمال الفيلم في أن أسئلته أكثر من إجاباته. هو لا يقدم إجابات على أي حال تريح المشاهد، إلا في المشاهد الأخيرة التي تبدو خارجة قليلاً عن السياق العام الذي يتبعه الفيلم، وأسئلة الفيلم تتعلق بالمعنى الحقيقي بالقوة والمجتمع، والنظرة الخاطئة للذات وللآخرين، والنظرة للمرأة، وهل الوحدة أفضل من الأخويات التي تدعّي الحماية في حين أنها تعاني من الفساد الداخلي، وكيف يطلق الغضب الوحش الكامن داخل كل إنسان حتى لو بدا بلا حول ولا قوة.

محمد أبو زيد: قتلت ميرفت عبد العزيز بيدي!


حوار: سمر نور

يقفز الشاعر محمد أبو زيد بين الشعر والرواية ببساطة من يعمل على مشروع واحد، تظل صفته كشاعر هى الحاضرة بقوة بعد عشرة دواوين وروايتين، لكنه لا يضع حواجز تفصل كل تلك الكتب عن بعضها البعض، وكأن روايته الأخيرة "عنكبوت في القلب"، المرشحة بالقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للمؤلف الشاب، هى استكمال لمصير "ميرفت عبد العزيز" الحبيبة التي وصفها في أغلب دواوينه، وكأن ديوانه الصادر حديثًا "جحيم" هو بداية جديدة مع هاجس جديد، ونسأله:
-        الوحدة، أو العزلة على وجه الدقة، تيمة أساسية في روايتك المرشحة لجائزة الشيخ زايد، لكنها وحدة ممتدة بين ثلاثة أشخاص، بيبو وميرفت والمؤلف، كل شخصية تعيش عزلتها وتتدخل في خيالات الآخرين، هل العزلة مرتبطة بالخيال والحياة في عوالم أخرى بالضرورة؟
-        العزلة جزء من تكويني الشخصي، وفي ظني هي أحد وجوه الكتابة، لأن جزءاً من فعل الكتابة سمو عن الاعتيادي، والسمو لا يكتمل إلا بالعزلة. لكن العزلة في الرواية ليست متعلقة بالكتابة، بل بشخصيات النص ذاته، والتي تكشف في أحد جوانبها عن انسحاق الذات البشرية أسفل حذاء اليومي المعتاد القبيح، وتوحش المدينة، حينها تصبح العزلة مهرباً من البشر والمكان والحياة ذاتها.
-        ما سر شخصية ميرفت عبد العزيز التي يتكرر اسمها في أعمالك وما يمكن أن تمثله لتشغل كل هذا الحيز عبر سنوات؟
-        أؤمن أن الكتابة لعبة، وشخصية ميرفت لعبة شعرية وسردية بالنسبة لي، بعض الشعراء يكتب لحبيبته بالاسم، لكن ماذا لو تم اختلاق هذه الحبيبة بالكامل، ماذا لو تحوّلت إلى ذات تستطيع أن تجمع كل النساء فيها، وترى فيها كل فتاة نفسها. أعتقد أن من يقرأ دواويني بداية من "قوم جلوس حولهم ماء" الذي شهد الظهور الأول لها، وحتى ديوان "سوداء وجميلة"، يستطيع أن يتعرف على ميرفت جيداً من خلال أفكاري عنها، لكنه يستطيع أن يراها عن قرب من خلال رؤيتها لذاتها  في الرواية، لكن في كلتا الحالتين لن يجد وصفاً لملامحها، بل إن الرواية تقدم لها ثلاث بدايات بثلاث أمهات، كما تقدم ثلاث احتمالات لقصتها مع بيبو، لأن ميرفت ليست شخصاً واحداً، ميرفت شخصية شعرية لكن باحتمالات متعددة لفتيات مختلفات.
-        هل يمكن اعتبار روايتك الأخيرة محاولة لقتلها وانهاء علاقتها بمشروعك؟
-        قررت فعلاً أن يكون آخر ظهور لها في "عنكبوت في القلب"، يمكنك أن تعتبريه قتلا لها. لكني أعتبره اكتمالاً لظهوراً، لأني في كل الدواوين السابقة كنت أقدم لمحات عنها، جزءاً من صورتها، أعتقد أن هذه الصورة اكتملت الآن. كما أعتقد أنني قلت كل ما لديّ عنها تقريباً، وأي استخدام آخر قد يكون استغلالاً لها.
-        هناك حالة من الكشف وتدخل المؤلف بشخصك داخل الرواية ومناقشة لفكرة الكتابة ذاتها، ما الذي قادك لهذا الفصل؟
-        أولاً: هذا "المؤلف" ليس بالضرورة أن يكون أنا. حتى لو كان اسمه "محمد أبو زيد"، أقدم الشخصيات في الرواية منكّرة، بدون "ال" التعرف، فأقوا: فتى، فتاة، مؤلف.  وما قصدته هو أن أكشف معاناة "مؤلف" مع شخصياته، وهذه ليست فكرة جديدة، فقد تم استخدامها كثيراً من قبل، لكن ما أردت تقديمه هنا هو مناقشة هم الكتابة من خلال شخصية المؤلف، مناقشة فكرة المقارنة بين الخيال والواقع، من خلال شخصيات تخلط بين واقعها وخيالها، "المؤلف" في النهاية شخصية خيالية، لأنه يرى كائنات فضائية على الطريق الدائري، ويرى عامل السوبر ماركت يصعد إليه طائراً. هو جزء من لعبة الكتابة في الرواية. وبالنسبة لي لا احب طريقة السرد الخطي التقليدية. لست ضدها، لكني قادم من فن كتابي آخر وهو الشعر، وكتبت الرواية لأكمل جزءاً من مشروعي الشعري الذي أعمل عليه، وهذا العالم مرتبط ببعضه بعضاً، بمعنى أنني تحدثت عن شخصيتي "سكارليت جوهانسون"، و"أودري تاتو" الموجودتين في الرواية في الديوان السابق، كما أن شخصية بيبو تتقاطع مع شخصية بطل روايتي الأولى "أثر النبي"، وستجدين مقاطع من كل كتبي  في الرواية. ولهذا أضع مراجع في آخرها به عناوين أعمالي السابقة.
-        من العزلة إلى الحرب في ديوانك الأخير "جحيم"، الفكرة الأكثر حضورًا في كل القصائد، والتي تفرض عليك ككاتب، تفاعل مع العالم الحقيقي بكل بشاعته، وهو ما راته أستاذة عبلة الرزوينى في مقالها عن الديوان، خيال أكثر منه معرفة، كيف ترى الحرب في ديوانك الأخير؟
-        ثمة إشكالية في قصيدة النثر، أن البعض يظن أن الشاعر يجب أن يُغرِق في تفاصيله اليومي المعتادي ويبتعد عن القضايا الكبرى، لكن ماذا لو كانت هذه القضايا الكبرى هي تفاصيلنا اليومية؟ منذ تسع سنوات تقريباً، ونحن نتحدث عن الدم والحرب والمظاهرات والاحتجاجات وداعش، من مصر إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا إلى العراق؟ أليست الحرب هي تفاصيل يومنا؟ كيف أتجاهلها؟ في الديوان محاولة لهزيمة الحرب بالخيال، أتحدث دائماً عن ما بعد الحرب، عن الخراب الذي خلفته والذي أراه من الآن.
-        كيف ترى ترشيحك لجائزة في مجال الرواية، في إطار عدم وجود جائزة حقيقية تحتفي بقصيدة النثر وإقصائها عن جوائز الشعر؟
-        فوجئت بوصول روايتي للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، خاصة أنني أطرح نفسي طوال الوقت كشاعر وليس كروائي، لكني سعدت جداً بهذا الترشيح، لأنه سيتيح للرواية أن تقرأ جيداً، وهو ما بدأت ألاحظه بالفعل في اهتمام الكثيرين بها بعد خبر ترشحيها. وأعتقد أن هذا هو الفوز الحقيقي لأي كاتب. أن تصل أعماله إلى القارئ. بالنسبة لقصيدة النثر، هناك جوائز قليلة جداً وبمبادرات فردية، لكن لا توجد مؤسسة كبيرة تتبنى جائزة لقصيدة النثر  سواء كانت حكومية أو خاصة، لكني أعتقد أن هذا جزء من المناخ العام، الذي يحتفي بالرائج دون اهتمام بفن مؤثر ومهم مثل قصيدة النثر، التي أعتقد أنها رغم ذلك التجاهل تحقق نجاحات في مجال الوصول إلى قراء جدد يوماً بعد يوم.
..........................
*نشر في جريدة الأخبار 5 ديسمبر 2019

"عنكبوت في القلب" ومخيلة الصورة الروائية


د. يسري عبدالله
"عرفت الرواية في مساراتها المختلفة، ودروبها الوسيعة أنساقا متعددة من الكتابة، وفي رواية "عنكبوت في القلب"، (هيئة الكتاب 2019)، يُحول الشاعر والروائي محمد أبوزيد غير المألوف إلى مألوف، كما ينطلق من العادي إلى الغرائبي، لاعبا في تلك المسافة الحرة بينهما؛ ولذا تبدو الرواية لعبا فنيا على مساحات التقاطع بين الواقع والخيال، وتنهض بنيتها التي يمكن تلمسها في كل فصل من فصولها الأربعة ( فتى/ فتاة/ مؤلف/ سيارة)، ومقدمتها الدرامية وبنيتها الكلية على جدل الحضور والغياب، وتقاطع المتعين مع المتخيل.
ويتوزع السرد بين مسارين أساسيين تجدل بينهما الرواية، حيث ثمة واقعيون، وثمة متخيلون أيضا. ثمة حقيقة، وثمة خيال، عبر سرد يجدل بين الواقع والفانتازيا، ولا يكتفي بالمزج بينهما، فمن جدلهما الخلاق يتشكل المنحى الرئيسي للسرد، ويتخلق المسار السردي المركزي في الرواية.
ثمة شخصيات واقعية تحضر في الرواية ( الروائي هاني عبدالمريد/ الفنانة التشكيلية سحر عبدالله/ القاص الطاهر شرقاوي)، مثلما نرى حضورا لشخصيات فانتازية، فيحضر علاء الدين بمصباحه السحري، ومشاجراته مع زوجته المستبدة، ومع الجني أيضا، كما تحضر سنووايت برقتها ونعومتها، لكنهم جميعا -واقعيين ومتخيلين- حين يحضرون، يصبحون جزءا من نسيج النص الروائي، ومنطقه؛ ولذا ستجدهم متخذين في حضورهم داخل النص دلالة أخرى، هي ابنة المسار االسردي، هذا المسار المتشعب والمتشظي في مسارات مختلفة، تعتمد في بنائها على آليات التداعي الحر، والتدفق الحكائي، والانتقالات السردية الرشيقة، والتي تمثل جميعها ملامح أساسية للسرد هنا، وتقنيات مركزية يعتمد عليها البناء الروائي.
يضع محمد أبوزيد مقدمة لروايته تأخذ شكل التقسيم المقطعي المعتمد على الأرقام اللاتينية، في حال من الجدل بين الثقافتين العربية والغربية، فالرواية تتشكل من أربعة فصول، وتعتمد الشكل الكلاسيكي في التسمية (الفصل الأول/ الفصل الثاني/ الفصل الثالث/...)، وتتشكل المقدمة أيضا من أربعة مقاطع وتأخذ في عناوينها الترقيم اللاتيني.
توسع الرواية من مفهوم التراث الإنساني إذن، وتصنع ارتحالا في الثقافتين العربية والأوروبية.
ثمة سارد رئيسي يحكي ويقبض على زمام الحكاية من أولها لآخرها، ويبدو راويا عليما دائما، ومشاركا أحيانا. يستدعي شخوصه من قلب التراث الحقيقي أوالفانتازي، من قبيل استدعائه للشاعر العربي القديم (تأبط شرا)، وعلاء الدين القادم من رحم التراث والأسطورة، كما يستدعي شخوصه أيضا من الواقع الحقيقي، أو من المتخيل.
تلعب الرواية على مسافات الجدل والتقاطع بين الشخوص والأحداث، والحقيقة والحلم، وثمة تماس بين "بيبو"، و"ميرفت"، الشخصيتان المركزيتان في الرواية، واللذان يحتلان فصلين من فصولها الأربعة(فتى/ فتاة)، ويحضران في الفصلين الآخرين ( مؤلف/ سيارة).
يتوق "بيبو" لحياة عادية بعد أن حاصرته الهواجس والخيالات، ويعمل في مستشفى العباسية للأمراض النفسية ومعه صديقه "إتش"،. والذي يسائله ويتداخل معه بشأن صداقته بالمثلة الفرنسية الجميلة أودري تاتو، أو "صوفي" في الفيلم الشهير "شيفرة دافنشي".
أما ميرفت فهي تحيا حياة مغلقة ومملة، وميرفت عبدالعزيز التي تحضر في الرواية بوصفها أحد مراكز الحكي داخلها والتي يتناص من خلالها أبوزيد مع مشروعه الشعري عبر أكثر من ديوان، من قبيل حضورها في دواوينه (قوم جلوس حولهم ماء/ مديح الغابة/ مقدمة في الغياب)، وغيرها، نجد ظلالا شعرية لها في مفتتح بعض المقاطع.
وبما يعني أن الروائي هنا يتناص مع أعماله الشعرية التي حوت حضورا داخلها لشخصية متخيلة تبدو أيقونة للبراءة والدهشة الخارجتين من رحم العادية، فميرفت تهوى العناكب وتحب الوحدة تقيم عالمها من تفاصيل صغيرة تخصها.
ومثلما يتشابك المساران الواقعي والمتخيل، يتشابك مسارا الشخصيتين المركزيتين في الرواية (بيبو وميرفت)، ويبدو الحب معنى مبتورا هنا، مثلما بدت الرواية في مجملها بحثا عن ذلك المعنى الغائب.
يلوح حس ساخر في الرواية، وتصبح السخرية آلية لإنتاج المعنى، فمن خلالها تتعمق المفارقات اللفظية والدرامية التي تزخر بها الرواية. ثمة حضور للفنون البصرية والأدائية في بنية الرواية، حيث تحضر بعض تقنيات المسرح، مثل تقنية كسر الحائط الرابع البريختية الشهيرة، كما يتماس الكاتب كثيرا مع السينما بنجومها العالميين وأفلامها المتعددة، فيحضر جريجوري بيك وأودري تاتو، وتحضر جنيفر لوبيز، وجنيفر أنيستون، وكيت وينسليت، وغيرهم، وتتشكل صورة سردية تعتمد في بنائها على المشهدية البصرية بالأساس، حيث يتسم المقطع السردي هنا بإمكانية تخيله بصريا، واعتماده كثيرا على أفعال الحركة.
وتلعب بعض الشخصيات الهامشية دورا في منح السرد أبعادا جديدة، وتبدو جزءا من الدلالة الكلية الساخرة للنص، وهذا ما يبرز مثلا في الإشارة إلى شخصيتي إتش، وعبدالله هدهد.
وبعد.. تأتي رواية "عنكبوت في القلب" في ظل موجة جمالية جديدة، حيث تهيمن مخيلة الصورة على السرد، ويتجادل الحكائي مع البصري في تخليق جمالية مغايرة للتلقي، تبدو مختلفة عن السائد والمطروق".
.....................
*نشر في جريدة "روزاليوسف"