في مشهد من الفيلم الروائي
المصري الطويل "عين شمس" تطلب المعلمة من تلاميذها أن يكتبوا تصوراتهم
عن مكان يحبونه، فتقرر الطفلة "شمس" أن تكتب عن وسط البلد، وتتخيلها
مكانا مليئا بالملاهي والألعاب المبهجة.
إذا كان ما تخيلته شمس مفارقا
للواقع، فالقصة حقيقية فكل شخص في مصر يتخيل أن وسط القاهرة يبوح بالأسرار، وأن به
ما لا عين رأت، إلا المثقفين المصريين، والنخبة السياسية، والغرباء الذين يعتبرون "وسط
البلد" هي بيتهم الخاص الذين يعرفون كل تفاصيله، والمكان المفضل لعقد ندواتهم
، ومقاهيهم .
قلب الثورة
قلب وسط البلد هو ميدانها
"ميدان التحرير"، والذي كان يحمل اسم ميدان الإسماعيلية، لكن تغير اسمه
أيضا، وكان المكان الذي تفجرت منه ثورة 25 يناير.
في أيام الثورة كانت وسط البلد
خلية نخل، مقاهيها، أماكن لتجمع المثقفين والثوار لبحث تطورات الثورة، مطاعمها
مفتوحة ليل نهار، رغم حالة الانفلات الأمني، أمام الثوار، شقق مبانيها مفتوحة أمام
الجرحى والمصابين من أبناء الثورة، الصور التي تتناقلها الصحف ووكالات الأنباء
لثوار مصريين يرفعون الأعلام فوق التماثيل هي تماثيل وسط البلد من طلعت حرب إلى
مصطفى كامل إلى سعد زغلول وإذا كان لمكان في مصر أن يفخر بأنه شارك في صناعة
الثورة فهي ولاشك وسط البلد.
غرفة تخص المثقفين
تبدأ وسط القاهرة في نظر محبيها
من حيث تبدأ الدنيا، لكنها الحقيقة تبدأ من محطة مصر، من ميدان رمسيس، تستطيع
بعدها أن تسير في شارع عماد الدين حيث كان التاريخ يرسم عمر الفن المصري، ولذلك
ستجد في الشوارع المتفرعة من هذا الشارع تحمل أسماء فنانين مثل نجيب الريحاني أو
زكريا أحمد أو غيرهما .
شارع عماد الدين
ففي هذا الشارع مشى محبو وعاشقو
وفنانو الزمن الجميل، من نجيب الريحاني وعلى الكسار إلى ماري منيب وإسماعيل ياسين
وبديعة مصابني، في هذا الشارع كانت المسارح و السينمات وصناعة السينما، قبل أن
تحترق بداية مع حريق القاهرة في يناير 1951 ، وتراجعت رويدا، رويدا حتى لم يعد بها
سوى ثلاث أو أربع دور سينما معظمها مغلق وتعلق أفيشات أفلام قديمة.
يمكنك بعدها أن تسير في شارع 26
يوليو، أو محمد فريد أو عبد الخالق ثروت أو عدلي، أو علوي، أو البورصة، ميدان طلعت حرب كفيل وحده بأن يكشف لك كنزا من
الاسرار فلو وقفت فيه يكفي انك سترى شوارع ( طلعت حرب وقصر النيل ومحمود بسيوني
وصبري أبو علم وجروبي ومكتبة الشروق و مدبولي أشهر المكتبات المصرية ) وسترى حتى
مقهى ريش الشاهد على تاريخ جميل لن يعود.
اسمان لكل شارع
معظم شوارع وسط القاهرة تحمل اسمين، فستجد من
يسألك أريد أن أذهب إلى شارع سليمان باشا، أو شارع طلعت حرب، والاسمين يدلان على
شارع واحد، لكنها الأسماء التي تغيرت بعد ثورة يوليو 1952 ، لكن لأن وسط البلد لا
تنسى، ولأنها جزء من التاريخ فأسماء شوارعها القديمة لم تسقط أيضا.
أكثر محبي وسط القاهرة من
الغرباء، أكثر مرتادي مقاهيها منهم، ربما لأن أبناء مدينة القاهرة لهم مقاهيهم
الخاصة في أحيائهم وشوارعهم، أما غرباء القاهرة، فيجدون في مقاهي وسط القاهرة غرباء
مثلهم، سبقوهم إليها، يلقونهم بالترحاب، وبكوب شاي، ربما لن يدفعوا حسابه الآن،
وبسماع نصوصهم الطازجة الفوارة بالبكارة القادمة لتوها من الريف، هؤلاء الغرباء،
بعد سنتين على الأكثر، سيشعرون أنهم أصحاب مكان، فيستقبلون غرباء آخرين.
شوارع الغرباء
أكثر ما يسعد الغرباء في وسط
المدينة، أن يسألهم قاهري عن الطريق إلى مكان ما في وسط البلد، لتجدهم يجيبون بكل
سعادة ،"أول يمين ، في ثالث شمال"، فوحدهم من يحفظ ملامح شوارع وسط
القاهرة.
الشاعر ـ جنوبي الأصل ـ ياسر الزيات قال لي إن وسط البلد هي المنطقة
الوحيدة التي يسير ويقول "السلام عليكم" للناس فيها، لأنه تقريبا يعرف
جميع الناس، ويعرف الشوارع والبيوت والأزقة الضيقة والشرفات والملابس المنشورة على
أحبال الغسيل تنقط في حزن.
مثلث الرعب
بين أرجاء مثلث الرعب الشهير
بوسط القاهرة "مقهى زهرة البستان ، أتيليه القاهرة، بار ومطعم الجريون" تصنع الثقافة المصرية
على مدار أكثر من نصف قرن أشهر ملامح وسط القاهرة الثقافية، الأجيال الأدبية تورث
بعضها الأماكن كالعهدة الحكومية ليتم تسليمها للأجيال القادمة.
ثمة تكتلات أدبية ستجدها في وسط
القاهرة، كل جيل، كل جماعة أدبية اختارت أن تتكتل في مكان ما خاص بها، يخرج فقط من
الصورة مقهى ريش العريق والذي كان مأوى لكتاب جيل الستينيات في تلك الفترة، والذي
خرجت منه إبداعات أمل دنقل، ويحيي الطاهر عبد الله، وجيل عطية إبراهيم، و خيري
شلبي، ونجيب محفوظ ، وعبد الرحمن الشرقاوي، و تنظيم مظاهرات، ومجلات مبشرة في فترة
النكسة مثل "جاليري 68 ".
اختلف وضع مقهى ريش الآن، أصبح
مكانا سياحيا، يجاهد لاكتساب زبائنه من السياح الذين يبحثون عن تاريخ الثقافة
المصرية، خاصة مع ارتفاع أسعاره، لدرجة أن أحد كتاب جيل الستينيات قال لي "إن معاشي لا يكفي لثمن غداء وكوبي
شاي في ريش الآن".
أما مقهى زهرة البستان، فهو
يفضل أن يجمع جيل الثمانينات، وبعض الصحافيين من أجيال أخرى وطلبة مبنى الجامعة
الأميركية المجاور.
من البورصة إلى أفتر
إيت
المقاهي الثقافية ما زالت تولد
في وسط القاهرة على الرغم من كل شيء، ربما في دلالة على أن وسط البلد ما زالت
مستمرة في صنع الثقافة، وفي تكوين و خلق
جيل جديد من المثقفين، كل جيل يخلق مقاهيه الخاصة، بالنسبة للجيل الجديد ستجده على
"التكعيبة" ، و "عم
صالح"، و"البورصة" و"افتر إيت" ، وقلة ستجدهم على
"الندوة الثقافية"، و "سوق الحميدية".
هناك دائما "وسط البلد"
أخرى، غير تلك التي يعرفها أصحاب الزيارات العابرة الذين يأتون للفرجة أو لقضاء
مصلحة من مجمع الخدمات الحكومية، يعرفها سكانها من الغرباء، وسط البلد الأخرى هي
في تفاصيلها، مقاهيها التي لا يعرفها أحد، أسطح بيوتها التي يفضل البعض السكنى
عليها، مطاعمها شبه الرخيصة، باعة الكتب القديمة فيها، معمار مبانيها، باراتها،
مصنع الثقافة، قوته الناعمة، العمارات القديمة الصحف والأحزاب المتمركزة داخله،
المظاهرات التي لا تخرج الا منه، التي جعلت الأرستقراطيين يسكنون فيها لفترة،
ومكانا للجامعة الأمريكية قبل أن تصبح ملكا لأبناء الطبقة المتوسطة، ومحلات الموضة
ودور السينما ومقار الشركات والبورصة والصحف والفنادق والبنسيونات القديمة.
النداهة
يقول المصريون أن من يشرب من
مياه النيل لا بد أن يعود إليه مرة أخرى، ومن الصحيح أيضا أن من يزور وسط القاهرة
سيأتيها مرة أخرى، وربما هنا يصح الوصف الذي أطلقه عليها الشاعر إبراهيم داود في حديثي معه ذات مرة "النداهة".
النداهة في التراث الشعبي
المصري هي التي تسحر الناس في الريف وتناديهم فيذهبون إليها، وسط القاهرة كذلك،
نداهة لكل من له علاقة بالقصة والشعر
والرواية وبالتغيير والثورة، تعبر عن القوة الحقيقية للثقافة المصرية بعيدا عن
الصالونات والقاعات المكيفة.
من معالم وسط القاهرة ندواتها
الثقافية، لكن على كثرة الندوات التي تعقد تندر الندوات التي تعقد على مقاه، عددها
لا يتجاوز الثلاثة، منهم اثنتان حديثتان هما ندوة الدكتور علاء الأسواني التي
يعقدها كل خميس وندوة مقهى التكعيبة كل
أحد، وندوة كان يعقدها الناقد فاروق عبد القادر كل أربعاء في مقهى سوق الحميدية
قبل اعتزاله ورحيله، والتي تعد أقدمهم وأكثرهم تأثيرا وشهرة .
الثورة كانت هنا
في آخر فيلم عين شمس يقرر والد
الطفلة شمس أن يأخذها في رحلة إلى "وسط البلد" فتبدو الشوارع هادئة،
فارغة تماما، وهذا لا يحدث في الواقع إلا في أيام الإجازات، وصباحات الجمع،
والأيام التي تنطلق فيها المظاهرات، منذ السبعينيات حين انفجرت انتفاضة 77 ، وحتى
ظهور حركة كفاية قبل سبعة أعوام، وظهور كل الحركات لاحتجاجية طوال هذه السنوات،
وحتى 25 يناير حين قامت الثورة المصرية، في وسط القاهرة التي حبلت للمصريين
بالثورة، وجاءت بالتغيير .