ذات مرة، استيقظت في الصباح، فوجدت نفسي فوق
سطح قمر. كان ذلك منذ زمن بعيد، فلم أعد أذكر التفاصيل. ما أذكره أنه كان عالماً
غير العالم، حياة غير الحياة التي عرفتها، أخطو بخفة العائم في منطقة انعدام
الجاذبية، ويدي تجري فوق الورقة كمريض مشرف على الموت اكتشف علاجه السحري. كنت في
الصف الرابع الابتدائي، وفي يدي ورقة مملوءة حتى نهايتها بكلام من صفين، آخر حروفه
متشابهة، لكنها جميعاً تحتج على الموت.
كانت أول قصيدة لي عن الموت. قبل ربع قرن
تقريباً، أرثي أمي. أرثي العالم. تبتسم مُعلّمةُ اللغة العربية، وتربت على رأسي،
بعدها بثلاثة عشر عاماً صدر ديواني الأول، كان عن الموت الذي لم أفك شفرته، لا قبل
ولا بعد، فقط أحاول مصادقته من نص إلى نص، من قصيدة إلى قصيدة، من بيت إلى بيت.
ذات مرة، استيقظت، فوجدت أنني الوحيد الذي
يتنفس على سطح قمر. كان ذلك منذ زمن بعيد، ربما منذ عشرين عاماً، كمن اكتشف باباً
سحرياً للحياة فقرر أن يدخل، كمن وجد حبلاً سرياً يقوده إلى أعلى الجبل فقرر أن
يتسلقه، كشبح يرف بجناح واحد اكتشف قدرته على الطيران، كميّتٍ عرِف طريق العودة
إلى الحياة. كنت أظن أنني الوحيد الذي أستطيع فعل ذلك، مع الوقت تتكشّفُ الدهشة، يتبدّى
الانبهار، أقفز على النظرات الغريبة والمتسائلة، وأواصل الدخول، التسلق، الطيران،
العودة إلى الحياة.
أتذكر ذلك جيداً الآن، كنت أبكي كمن أصيب
بمسٍّ. أبكي وأرتجف دون سبب، ثم أكتب فأهدأ. أهدأ تماماً. تنتظم أنفاسي. أهدأ.
فأكتب، وأكتب، وأكتب، ولا زلت أكتب من وقتها حتى الآن. أول قصيدة لم تختلف عن ثاني
قصيدة عن القصيدة العاشرة عن آخر قصيدة، لم تختلف الأسئلة بل تزيد، تتراكم فتخلق
نصوصاً جديدة، لا إجابات، فأعيش معذباً بالأسئلة، بلعنتي، بقصيدة تدور في الفراغ.
نعمتها حياتي، نقمتها الجواب الذي لا يصل.
ذات مرة، استيقظت فوجدت نفسي في العراء. لا
شيء حولي سوى عواء الريح، والحياة التي لا تحتمل في الخارج، الحياة التي لا
أحتملها، فقررت أن أُحصّن نفسي ببيت، أُجرّب أشكال الكتابة المختلفة، أتنقل ما بين
السرد، والشعر، ما بين القصيدة العمودية إلى التفعيلية إلى قصيدة النثر، يعلو
البيت ويظلني، يدفعني لمواصلة الحياة، تتراكم القصائد كحائط صد ضد الموت، الموت
الذي يقترب كلما ابتعدت القصيدة.
ستة دواوين متراصة لا تقول شيئاً، أم تقول؟.
أمد يدي فأُخرِجُ يدي، ذراعي، جسدي، روحي، هل قُلتُ شيئاً، لم أقل. بعد كل ديوان
جديد أقرر أن أبدأ من البداية، أقول لنفسي: لم يكن هذا ما أردت قوله، لم أكن أقصد هذا.
أنتهي لأبدأ من جديد، لا أكاد أنتهي حتى أبدأ، لا أعرف هل أشعر بالامتنان أم
بالحنق، تتراص الدواوين كأدلة اتهام، كمشانق متجاورة فارغة من رأس كان معلقاً
فيها.
أفكّر الآن في الطفل الذي فقد أمه فقرر أن
يكتب قصيدة يسائل بها الموت، عن الفتى الذي كان يقود الدراجة خمسة كيلومترات كل
يوم إلى المدرسة وعينه تُحوّل الحقول حوله والمقابر والسيارات إلى نصوص، يتوقف في
منتصف الطريق ويكتب، عن الشاب الذي ركب القطار، فرأى نصوصه في وجوه الفقراء
النائمين غير مهتمين باهتزاز العربات العتيقة، عن الطائرة التي حطّت، عن السيارة
التي وصلت، عن القطار الذي هدر ثم صمت؛ فغادرهم كهلٌ، لا يحمل شيئاً، وحيدٌ
كالحرية، لا يعرف كيف يكمل الرحلة، ولا متى سيصل.
ذات مرة، استيقظت، فوجدتني هنا، بين تسع
وتسعين باباً مفتوحاً، وباباً واحداً مغلقاً فتحته فوجدتني هناك. في الحياة.
الكتابة حياة. القصيدة حياة.