طفل صغير ينطلق على دراجته ، الزرقاء صينية الصنع ، كل يوم من قريته الصغيرة في وسط الصعيد إلى المدينة لاستكمال دراسته الإعدادية ، و لشراء الكتب القديمة ، ومبادلتها ، أو استئجارها باليوم ، قصص تنابلة السلطان وكابتن ماجد ، وسلاحف النينجا ومجلة كابتن سمير ومغامرات عم دهب ، وقصة علاء الدين والمصباح السحري التي كانت مقررة علينا في الخامس الابتدائي ، وأهل ، أصدقاء ، ووجوه طيبة، وغيطان خضراء ، ومقابر تحتضنها البيوت ، وسكة حديدية يمر قطارها وهو يطلق صافرته المميزة ،وذكريات عن رصاص يتطاير في الهواء وطلقات تقطع صمت الليل في عمليات ثأرية بين عائلات متناحرة ، وسور أولى من القرآن الكريم أبدأ في حفظها ، وموت أقارب ، وسينما قديمة متهدمة ، وكسر في الذراع اليسرى لم يختف أثره بعد ، وساقية تدور كل أسبوعين ، وموسم قطف القطن ، وأغان للريس حفني ناصف والشيخ ياسين التهامي ، وأول قصيدة تنشر في مجلة محلية ، والعودة إلى البيت طائرا من فوق الدراجة ، وتفاصيل أخرى كثيرة أسترجعها الآن ، لم تمح من الذاكرة ، بل أصبحت زادا للكتابة، للتأمل ، للهروب من الواقع في أحيان كثيرة .
أدرك الآن أننا ككتاب أبناء لطفولتنا ، لذكرياتنا ، المرتبطة دائما بمرحلة عمرنا التي اختزنا فيها خبرات كثيرة ، لم نكن ندرك ذلك وقتها ، لم نفعل ذلك قاصدين ، ومن أين لنا أن نعرف ، لم نكن ندرك أن تلك الأيام التي تنقضي رويدا رويدا ، أن الأحداث العادية فيها ، الابتسامات الصغيرة ، الهزائم العادية ، الصداقات الطفولية , السهرات العادية ، ستضحي زادا لا ينتهي للكتابة ، ودليلا من جهة أخرى على البراءة .
لماذا يلح علي الآن أن معظم الكتاب المجيدين سواء كانوا في القصة أو الرواية أو الشعر هم أبناء لقرى أو مدن بعيدة عن العاصمة ، ربما لم يكسر القاعدة سوى نجيب محفوظ الذي تربى في العاصمة الفاطمية ـ فولكلورية الملامح ـ أما البقية الباقية فهم أبناء لقراهم ، لمدنهم ذات البعد الإقليمي أيضا ، أبناء لسماء تظهر واضحة جلية ، لصحراء شاسعة تقول الكثير ، لنيل يحكي لمن يسمع ، لأرض خضراء وصفراء ، وتحمل ألوان قوس قزح ، لماذا لم تنجب المدينة كتابا لها إذن ؟ هل لكونها مدينة آلية تحول من فيها إلى ماكينات دخل في ذلك ؟ ، هل أبراجها العالية التي تكتم على الأنفاس ، هذا ما أحسه ، زحام شوارعها ، سرعتها الجنونية ، تمنع الإبداع ، أم أن قرانا ، بالبراح أمامك ، بالتاريخ ، والحكايات التي تسمعها ، والقصائد التي تراها منحوتة على وجوه الناس هي التي تعطيك الفرصة للإبداع و الكتابة .
أعتقد أن القرية ، لم تغادر أيا من الكتاب الذين غادروها ، يعودون إليها كلما افتقدوا أنفسهم ولو كتابة ، يكتبونها ، أم تراها تكتبهم ، يخلدونها ، كما خلدتهم من قبل ، يهربون إليها عندما يشعرون بالوحدة ، ربما ليتحدوا بها المدينة ، لتعضدهم في التحدي .
في قصيدة لي بعنوان "جثث وحيدة " نشرتها في ديوان " قوم جلوس حولهم ماء " " قلت " " أيها الغرباء ، أحسنوا ضيافة حزني ، فهو طيب كحمامة ، هادئ كصنم ، مسالم كمَيِّتٍ " كنت أتعامل مع أصحاب المدينة أنهم الغرباء ، هم الغرباء بالتأكيد عني ، لكن بعد فترة يصبح البون شاسعا ، أصبح أنا الغريب الذي يهرب من غربته إلى قصيدة في مديح الطفولة ، أو في هجاء المدينة ، لذا تكمل القصيدة "" إذن ، حاولوا ألا تتذكروا أولادكم ، ولا غبار شارعكم، ولا نكتة ألقاها جنى، فضحكتم عليها حتى الصباح ، ولا القلق ينبت في أعينكم ، وأنتم تنتظرون ، خروج زوجاتكم من غرف الولادة ، حاولوا ألا تتذكروا مقهى بلدتكم ، ولا حلاقها الذي يجرحكم متعمدا ، فتنزفون ضحكا ، أيها الغرباء ، أشعلوا في ذاكرتكم النسيان "
تصبح التفاصيل الصغيرة ، أبسط التفاصيل دليلا على الحنين والهروب ، نبتسم عندما نجد شخصا ينطق حروفه بالجيم المعطشه ونسأله على الفور " إنت منين ؟ " ، وفي البداية نرفض شراء الطبعات الأولى من الجرائد ليلا لأننا تعودنا على قراءتها صباحا ثم ينتهي كل شيء بعد سنوات "" لا تشتروا جرائد الغد الآن ، ففي بلادكم تقرؤونها في موعدها ، وليس في الليلة السابقة ، حاولوا ألا تركلوا السيارات ، فهي عنيفة كذئب ، وانتم طيبون ، طيبون كسحابة ، سرقت منها الأجنحة "
كلما ابتعدت في العمر عن فترة الصبا ، كلما اشتقت إليها أكثر ، وكلما حاولت المدن الأسمنتية أن تأخذنا من طفولتنا ومن قريتنا ، من براءتنا ، كلما اقتربنا منها أكثر ، الكتابة تجسيد لهذه البراءة .
في أحيان كثيرة أتساءل وأنا أتصفح موقع يوتيوب ، أو موقع الفيس بوك عن هذا الكم الكبير من المجموعات التي تعيد نشر مقاطع فيديو لفترة الثمانينات ، سواء كانت أغان أو كارتون أو برامج ، حيث عشنا طفولتنا ، وهذا الإقبال الكبير عليها ، هل هو الحنين ، هل هي النوستالوجيا لزمن براءة نفتقده ، أم هو عدم قدرة على التعايش مع معطيات الوقت الراهن ، فنضطر للهرب .
شذرات صغيرة ستجدها في ديواني الأول " ثقب في الهواء بطول قامتي " عن الطفولة والقرية، ربما لأنني كنت وقتها قريبا منها ،فلم أكتبها جيدا ، لكني لما ابتعدت عنها ، صارت معظم شخوصا أبطالا في ديواني الثاني " مديح الغابة " ، وديواني الثالث " قوم جلوس حولهم ماء " ، سواء كان بالتلميح أو التوضيح . عندما أرى أمام كتاب في الطريق لدى باعة الكتب القديمة ، قرأته وأنا صغير ، أتوقف ، أتوقف طويلا ،أشتريه وأعيد قرأته ، حتى لو لم يكن له قيمة كبيرة ، لكنه بالنسبة لي يمثل جزءا من ذاكرتي .
قريتي قد لا تبين لها معالم واضحة في قصائدي ، لكنها تلعب دور المحرك للقصائد ، تلعب بعاداتها وتقاليدها ، وحكاياتها ومآسيها دور عين الصقر الذي يرى الواقع الآن ويعلق عليه ، دور الراوي الذي لا يقوم بدور في الرواية لكنه يعرف كل شيء ، ما مضى وما جاء وما سيحدث .
ديواني الأخير ، لم استطع أن أكتبه في المدينة ، كلما حاولت الكتابة أفشل ، كنت أستغل فترات سفري القصيرة للعمل في مناطق مختلفة خارج القاهرة ، في أماكن مفتوحة ترى السماء تشبه قريتي جاءت قصائد الديوان هجائية لتغول المدينة داخلي ومرثية لطفولتي ولي .
الآن ، أبتسم عندما يسألني قاهري عن مكان ما وسط العاصمة الواسعة الشاسعة ، وأجيبه كواحد منها ، لكني في الحال أعود إلى شوارع ترابية وبيوت صغيرة مبتسمة ، أعود إليها فقط وقت الكتابة ، أردد مع من لست أذكر اسمه بيني وبين نفسي " ردني إلى بلادي " .