07‏/12‏/2014

مقدمة في الغياب‮:‬ تمارين ‮ ‬لمقابلة الموت

ياسمين مجدي
الكتابة بوصفها وصية أو سجل يخلد الشاعر فيه نفسه..هي أحد أغراض الكتابة.. لكنها تبقي مجرد محاولة للبقاء.. في رحلة يبدو الرحيل فيها هو الجزء الأقوي والأكثر تأثيرا. يمكن للكتابة كذلك أن تكون تجربة لمقابلة الموت في عدد من النصوص الشعرية بديوان الشاعر المصري محمد أبو زيد "مقدمة في الغياب" الصادر هذا العام عن دار شرقيات.
يأخذك ديوان "مقدمة في الغياب" بإهدائه "إلي جدتي"، إلي منطقة مملوءة بالحنين والدفء العائلي ولحظات الزخم والونس الذي يقاوم كل ما يسير به الزمن من وحدة ومسئوليات. يركض الزمن لدرجة أنك حين تقلب الصفحة تكون كهلاً وقد وصلت للحافة، حيث نص " كهل علي الحافة".
ذكريات زمنية ومكانية
الرحلة لدي محمد أبو زيد.. هي معني مزدوج.. الأول هو الرحلة في الزمن..والتي يكون هاجسها طوال الوقت الموت.. الرحلة الثانية هي الرحلة في المكان بسفره خارج مصر.. ويكون هاجسها الذكريات. باجتماع الرحلتان في الديوان، نجد أنفسنا أمام كم هائل من الذكريات في مواجهة الموت..تركيبة غاية في التضاد..حيث الذكريات التي تمثل الحياة في مواجهة الموت. تتكرر علاقات التضاد الشديدة، لنجد "حي شعبي في مدينة طاردة للسكان".. كيف يكون الحي الشعبي بكل ما يتسم به من دفء في مدينة باردة كارهة للناس.. هو بالتأكيد حي شعبي به "أصوات باعة الخضار.... تشبه صوت البكاءين".
من وحي فكرة التضاد نجد الشاعر لا يلجأ للحنين بل بالعكس يوغل في الكتابة عن البعد.. سواء البعد عن الوطن بحديثه عن جماليات في الغربة، أو بالبعد عن الحياة بمرافقة الموت. يبدو الديوان كأنه ديوان المراوغة.. ديوان يقاوم الاستسلام للحنين ويقاوم الارتباط بالمكان، فيقول الشاعر أنه رفض إدخال قطة إلي شقته حتي لا يصنع ذكريات.
أبطال النصوص في الغالب مفردات أو أشياء، لكن البطل الإنساني غير واضح غالبا. وبملاحظة ذلك يبدو المعني الذي يمنح قيمة الأشياء غير موجود، الأشياء والكائنات متراصة وفي أماكنها لكن شيئًا يغيب، مثل يد الشاعر التي تكتب القصيدة ولا يجدها، مثل علب العصير الموجودة في الثلاجة إلي جوار بعضها البعض لكنها لا تحس شيئا تجاه بعضها. المفقود هنا هو البطل الإنساني، لأن كل الأشياء الحاضرة هي الأشياء الهامشية، لكن حضورها أقوي لإحساس الشاعر دائمًا بالموت أو الغياب. وعبر تلك الأشياء يمارس جنونه، ويبتكر علاقات غير مألوفة "في سفينة تشق البحر/ أضع إصبعي في عين حوت".
العالم في المواجهة يلح بمفردات تشعل الحنين، فيكتب الشاعر كيف أن أصوات الطيارات تتحول مع الوقت إلي منبه يذَكِّره بصوت القطار في قريته ثم صوت وابور الطحين. هل يجب دائمًا أن نغيب لكي نستعيد الأشياء. الهوية والنافذة ومفردات كثيرة يستخدمها الشاعر محمد أبو زيد للتأكيد علي الحالة:
يبدو ديوان "مقدمة في الغياب" مثل محاولات وتمارين لمقابلة الموت.. هل الحديث عن الأشياء بكثرة يبطل الخوف منها.. يجعلها حقيقة واقعة نتقبلها.. يبدو الموت لدي محمد أبوزيد أنه الأصل في مواجهه بضعة أحداث يمكن تسميتها "الحياة".. يعترف "أنا ميت". ويُعطي تصورات  متعددة حول تجربة مقابلته للموت. يصبح الموت الرفيق الأقوي علي مدار الصفحات. تظهر بذلك الحياة بوصفها مجرد مقدمة للمتن الذي هو الغياب. كأن رحلة الحياة هي رحلة في أساسها لمقابلة الموت "كان بداخلي طفل""أريد أن ....أخرج/ تاركا كل شيء خلفي/ كما رأيته أول مرة". ماذا لو كان في إمكان الشعراء كتابة وصية عامة في ديوان، كما يذكر أبو زيد: "بمجرد عبورهم من أمام قبري/ لا يبقي في ذهنهم/ سوي هذه القصيدة/ التي أحاول أن أحشر فيها خلودي/ قدر الإمكان".
بالنسبة لزمن الفعل في النصوص، فيكون الفعل الماضي هو المستخدم في الحديث عن الموت.. قد يريد الكاتب بذلك الاعتراف بأن الموت حاضر منذ البدء، وأن الرحيل هو التجربة القديمة الثابتة. علي الناحية الأخري نجد الفعل المضارع في النصوص التي تتحدث عن مفردات العالم وعن محاولة الشاعر طوال الوقت لتغيير العالم ورقيًا وابتكار علاقات جنونية بين مفرداته، كأن الشاعر بالفعل المضارع يقول للقارئ كن موجودًا بينما أحاول تغيير العالم ورقيًا.
الحس الساخر حاضر في النصوص ، حتي التي تتحدث عن العنف وتشويه العالم، ولا يخلو الأمر من رسائل يوجهها الشاعر لأشخاص بأسمائهم، نساء ورجالا.

يبقي أن الذين يسافرون يتركون أشياء وراءهم: "كجارتي اليونانية التي سافرت ولم تعد/ تاركة حبات الفيشار ترقص من يومها علي النار/ دون أن توقف الموسيقي". وكل الذين يشهدون سفر الأخرين، يكبرون، تمضي بهم الأيام ،تغيروا وتغيرت سماتهم وقست قلوبهم: "سرنا وراء الجنازات وقست قلوبنا"، "كما أن الطريق إلي المدرسة تغير كثيرًا، أكثر منا". لذا سيبدو الموت هو الرفيق للذكريات الماضية ولذكريات قادمة في نصوص محمد أبو زيد.

14‏/11‏/2014

كشبحٍ يرفُّ بجناحٍ واحدٍ



ذات مرة، استيقظت في الصباح، فوجدت نفسي فوق سطح قمر. كان ذلك منذ زمن بعيد، فلم أعد أذكر التفاصيل. ما أذكره أنه كان عالماً غير العالم، حياة غير الحياة التي عرفتها، أخطو بخفة العائم في منطقة انعدام الجاذبية، ويدي تجري فوق الورقة كمريض مشرف على الموت اكتشف علاجه السحري. كنت في الصف الرابع الابتدائي، وفي يدي ورقة مملوءة حتى نهايتها بكلام من صفين، آخر حروفه متشابهة، لكنها جميعاً تحتج على الموت.
كانت أول قصيدة لي عن الموت. قبل ربع قرن تقريباً، أرثي أمي. أرثي العالم. تبتسم مُعلّمةُ اللغة العربية، وتربت على رأسي، بعدها بثلاثة عشر عاماً صدر ديواني الأول، كان عن الموت الذي لم أفك شفرته، لا قبل ولا بعد، فقط أحاول مصادقته من نص إلى نص، من قصيدة إلى قصيدة، من بيت إلى بيت.
ذات مرة، استيقظت، فوجدت أنني الوحيد الذي يتنفس على سطح قمر. كان ذلك منذ زمن بعيد، ربما منذ عشرين عاماً، كمن اكتشف باباً سحرياً للحياة فقرر أن يدخل، كمن وجد حبلاً سرياً يقوده إلى أعلى الجبل فقرر أن يتسلقه، كشبح يرف بجناح واحد اكتشف قدرته على الطيران، كميّتٍ عرِف طريق العودة إلى الحياة. كنت أظن أنني الوحيد الذي أستطيع فعل ذلك، مع الوقت تتكشّفُ الدهشة، يتبدّى الانبهار، أقفز على النظرات الغريبة والمتسائلة، وأواصل الدخول، التسلق، الطيران، العودة إلى الحياة.
أتذكر ذلك جيداً الآن، كنت أبكي كمن أصيب بمسٍّ. أبكي وأرتجف دون سبب، ثم أكتب فأهدأ. أهدأ تماماً. تنتظم أنفاسي. أهدأ. فأكتب، وأكتب، وأكتب، ولا زلت أكتب من وقتها حتى الآن. أول قصيدة لم تختلف عن ثاني قصيدة عن القصيدة العاشرة عن آخر قصيدة، لم تختلف الأسئلة بل تزيد، تتراكم فتخلق نصوصاً جديدة، لا إجابات، فأعيش معذباً بالأسئلة، بلعنتي، بقصيدة تدور في الفراغ. نعمتها حياتي، نقمتها الجواب الذي لا يصل.
ذات مرة، استيقظت فوجدت نفسي في العراء. لا شيء حولي سوى عواء الريح، والحياة التي لا تحتمل في الخارج، الحياة التي لا أحتملها، فقررت أن أُحصّن نفسي ببيت، أُجرّب أشكال الكتابة المختلفة، أتنقل ما بين السرد، والشعر، ما بين القصيدة العمودية إلى التفعيلية إلى قصيدة النثر، يعلو البيت ويظلني، يدفعني لمواصلة الحياة، تتراكم القصائد كحائط صد ضد الموت، الموت الذي يقترب كلما ابتعدت القصيدة.
ستة دواوين متراصة لا تقول شيئاً، أم تقول؟. أمد يدي فأُخرِجُ يدي، ذراعي، جسدي، روحي، هل قُلتُ شيئاً، لم أقل. بعد كل ديوان جديد أقرر أن أبدأ من البداية، أقول لنفسي: لم يكن هذا ما أردت قوله، لم أكن أقصد هذا. أنتهي لأبدأ من جديد، لا أكاد أنتهي حتى أبدأ، لا أعرف هل أشعر بالامتنان أم بالحنق، تتراص الدواوين كأدلة اتهام، كمشانق متجاورة فارغة من رأس كان معلقاً فيها.
أفكّر الآن في الطفل الذي فقد أمه فقرر أن يكتب قصيدة يسائل بها الموت، عن الفتى الذي كان يقود الدراجة خمسة كيلومترات كل يوم إلى المدرسة وعينه تُحوّل الحقول حوله والمقابر والسيارات إلى نصوص، يتوقف في منتصف الطريق ويكتب، عن الشاب الذي ركب القطار، فرأى نصوصه في وجوه الفقراء النائمين غير مهتمين باهتزاز العربات العتيقة، عن الطائرة التي حطّت، عن السيارة التي وصلت، عن القطار الذي هدر ثم صمت؛ فغادرهم كهلٌ، لا يحمل شيئاً، وحيدٌ كالحرية، لا يعرف كيف يكمل الرحلة، ولا متى سيصل.
ذات مرة، استيقظت، فوجدتني هنا، بين تسع وتسعين باباً مفتوحاً، وباباً واحداً مغلقاً فتحته فوجدتني هناك. في الحياة. الكتابة حياة. القصيدة حياة.

11‏/11‏/2014

قتلة بالفطرة

في أول مشهد من فيلم "قتلة بالفطرة" الذي كتبه كوينتن تارانتينو، وأخرجه أوليفر ستون، يقتل الزوجان السفاحان "ميكي ومولي" جميع رواد المطعم ثم يتركان شاهداً واحداً، لأنه هو من سيوصّل ما حدث للإعلام، وهو ما ظلا يفعلانه في كل جرائمهما فيما بعد، في إدراك منهما لأن الصحافة ستحولهما إلى نجمين أكثر شهرة من أوبرا وينفري.
الفيلم الذي أنتج عام 1994 وأثار الجدل مطولاً، يبدو هو الأقرب لوصف المشهد العربي الحاضر، من احتفاء بالعنف، سواء من الإعلام الذي يقوم بذلك، أو من القتلة أياً كان تصنيفهم، فبإمكان  من يتابع وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومواقع إخبارية أو قنوات فضائية أو مواقع تواصل اجتماعي، أن يدرك كم الجرائم التي ترتكب من شائعات وخلق مجرمين، والمساعدة على أن يصبحوا نجوماً يخطفوا الأنظار، وأن يصبح الدم مشهداً عادياً عادية المياه في الحياة اليومية، لا يلفت الانتباه أو يثير الاهتمام.
ولأي لعبة قتل طرفان، قاتل وقتيل،  لكن في هذه اللعبة يقوم الطرفان بالقتل الممنهج. يقومان به وهما يعرفان ما الدور الذي يقوم به، يعرف الصحافي أن ذلك سيساعده لكي يكون أكثر شهرة، ويعرف القاتل أن ذلك سيجلب له أتباعاً، ومتابعين وتابعين، عشاقاً، وخائفين، وأن صورته ستحل في الصفحة الأولى من الصحيفة إلى جوار الصحافي الشهور "الذي يبيع ويشتري الخوف" بحسب وصفه في الفيلم.
من أبرز الجماعات الراديكالية التي اكتشفت أهمية الإعلام، كان "تنظيم القاعدة" الذي كان حريصاً على توصيل رسائل زعيمه الراحل أسامة بن لادن إلى قناة الجزيرة عقب أحداث 11 سبتمبر، ومن بعده سار تنظيم داعش على نفس الخط، وهو ما يفسره نشاطه الغريب، على مواقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك وتويتر ويوتيوب)، وحرصه الشديد على نشر صور الرءوس المقطوعة، وإطلاق الرصاص على المدنيين العزل، وعمليات القتل الجماعي، والرجم، وقطع الأيدي، والإعدامات، ومن يراجع جلّ هذه التسجيلات سيجد أن من قام بنشرها هو التنظيم بنفسه على خلفية أناشيد حماسية متوعدة، ولم يكتف التنظيم بهذا بل أعلن عن نيته إطلاق قناة فضائية، كما لجأ أيضاً إلى إصدار مجلة إلكترونية حملت اسم "دابق"، باللغة الإنجليزية، وهو ما يدعو للتساؤل لماذا يلجأ تنظيم يقول إنه إسلامي ويسعى إلى إعادة الخلافة إلى إطلاق مجلة بالإنجليزية وليس بالعربية، والإجابة طبعاً في كلمة واحدة وهي "الإعلام". فكما شاهدنا في فيلم أوليفر ستون الناس من كل أنحاء العالم وهو يتابعون جرائم السفاحّين بشغف وحب لدرجة أن حولاهما إلى نجمَين تتصدر صورهما أغلفة المجلات، لدرجة أن هذا الجمهور "يتظاهر" احتجاجاً على اعتقال القاتلّين، نرى على أرض الواقع "الجهاديين الأجانب" الذين ينضمون إلى داعش، والجهاديات اللائي يسافرن بحثاً عن "رومانسية الحرب" بحسب تعبير إحدى الوكالات الإخبارية.
الأمر ليس متعلقاً بما تفعله التنظيمات الراديكالية فقط، فما شهدته المنطقة العربية، ولا سيما الدول التي شهدت تحولات سياسية جذرية، خلال الأربع سنوات الماضية، يكتشف أن للإعلام كانت اليد الطولى في الأمر، في إقامة المظاهرات، وإسكاتها، في الانحياز للنظام والصراخ ضده، في تحريك الشعوب وإخفاء صوتها. الصراخ الذي ينبعث من البرامج التلفزيونية يكشف عن أن كل ما يحدث من احتفاء بالدم أو سكوت عنه، ليس إلا لعبة في يد أفواه تتحرك ـ في أغلب الأحيان ـ كعرائس الماريونيت، تتبدل المواقف والآراء في ذات اللحظة، فهكذا تقتضي اللعبة التي تحتاج إلى مهارة في التعامل، وقدرة على التقاط الموجة الرابحة، سواء كان هذا لصالح رأس المال، أو لصالح شخصي، أو لصالح سلطة ما، أو رغبة في استمرار إضاءة الكاميرات التي تضيء في كل مكان، بحثاً عن تصريح لا قيمة له، من شخص يجلس ويخاطب الملايين، فلا يعرف "الجمهور"، مع التكرار اليومي، هل هو مجرد أراجوز أم خطيب مفوه.
في العام 2003 كنت أعمل صحافياً بجريدة الشرق الأوسط عندما احتلت الولايات المتحدة العراق، وكان عدد قتلى التفجيرات في العراق، يحتل المانشيت الرئيسي في الصفحة الأولى دائماً، في الصحيفة التي أعمل بها أو الصحف المصرية أو الأجنبية، لكن مع استمرار الأمر، تضاءل الخبر، وانتقل إلى طرف الصفحة، ثم انتقل إلى صفحة داخلية، ثم اختفي في صفحة تكاد تكون غير مقروءة بأقل عدد من الكلمات، لأن الناس اعتادت الأمر، وأصبح عدد القتلى مجرد "رقم" ليس أكثر، ولأن الإعلام ملّ الحدث، وبدأ يبحث عن ضحية جديدة يسلط عليها الضوء. كل هذا رغم استمرار القتل في العراق بصورة يومية طوال، تكاد أن تكون نمطية طوال تلك السنوات، ولكن دون اهتمام أو شغف إعلامي، إلى أن ظهر من جاء بالشغف بشكل جديد للقتل والتدمير والذبح والسبي وهو تنظيم داعش، فعادت الكاميرات مرة أخرى تنظر إلى هناك.
الإشكالية هنا في احتفاء الإعلام الذي يحول خبر القتل إلى خبر عادي، لم يعد مثيراً للشفقة ولا للغضب، ولا حتى للاستياء، ولا لأي مشاعر، وهو ما عبر عنه أوليفر ستون في مشهد رائع، عندما كانت السفاحة "مولي"، تحكي عن طفولتها وكيف أن زوج أمها كان يغتصبها، لكننا على خلفية هذه الحكاية المأساوية نسمع في الفيلم تصفيق الجمهور وضحكهم كأنهم يشاهدون مسرحية وليس جريمة بشعة.
في آخر فيلم "قتلة بالفطرة" يساعد الصحافي السفاحين على الهروب من السجن لكي يحظى بسبق صحافي، ثم يقتله السفاح "ميكي"، فهو لا يحتاج إلى شاهد على جرائمه، مكتفياً بالكاميرا التي تتابع تحركاته، وهو ما يمكن تفسيره بدلالات كثيرة، لكن قبل حادثة القتل يدور حوار مثير، فيقول ميكي: "قتلك وما تمثله هو تصريح علني، ففرانكشتاين قتل مخترعه"، في إشارة إلى أن السفاح من صنع الإعلام. فيرد الصحافي: "أنا مجرد طفيلي, ألستما بقاتلين؟ أنتم لنا، للملأ والإعلام، هكذا هي الأمور".
ما مضى ليس انتقاداً لدور الإعلام في كشف الفساد وجرائم القتل، بل لدوره في جرائم القتل، لاحتفائه بالموت، بتحويله إلى حدث مسلٍ وليس مأساوياً، بتحويله إلى حدث اعتيادي لا حرمة له، بسكب الجثث من شاشة التلفاز على موائد الأطفال.
غياب الإعلام لا يعني غياب الجريمة والقتل، لكن استخدام الإعلام مرة في يد رأس المال، ومرة في يد القاتل،  ومرة في يد السلطة، ومرة بحثاً عن الشهرة والسبق يساهم في زيادة كل ما مضى.

لم يطلب أحد من الإعلام أن يكون محايداً تماماً، لكن الجميع يعرف أن الإعلام يجب أن يكون لديه ضمير، وإلا لن نعرف الإجابة الحقيقة على سؤال: "من هم القتلة بالفطرة؟" المجرمون أم وسائل الإعلام؟.

28‏/10‏/2014

وليس قرب قبر حرب قبر

أمام مسرح البالون بالعجوزة، قلت لسائق التاكسي الذي وقف وهو يزفر غضباً في وجهي:
ـ شارع إيران لو سمحت؟
رمقني السائق بنظرة لا تختلف كثيراً عن نظرته إلى نادية الجندي في فيلم "مهمة في تل أبيب"، قبل أن ينطلق بأقصى سرعة، وهو يتمتم بكلمات، أدعي أنني لم أفهمها، وقبل حتى أن أشرح له أن مقر الجريدة التي أعمل بها في شارع إيران، وليس في السفارة الإيرانية.
طبعاً، وكما ينصح دائماً خبراء التنمية البشرية، أخذت أسوق لنفسي المبررات، أن الأمر متعلق بتوتر العلاقة بين مصر وإيران، وأن هذا سائق وطني، ومرة أقول لنفسي إن هذا هو حال كل سائقي التاكسي، فمن المعروف في مصر إن السائق هو الذي يختار الراكب وليس العكس، يقف أمامك يتفحصك جيداً، ثم يقرر هل يسمح لك بتلويث سيارته الفخمة المقدسة موديل 56 أم لا.
حكى أحد الأصدقاء ذات مرة، أنه استوقف تاكسي، وبعد أن تحرك التاكسي قرابة المترين التفت السائق إلى الصديق وسأله: هل سبق أن التقينا من قبل. فهز صديقي رأسه نافياً، فأوقف السائق سيارته، قائلاً: "طيب معلهش، مش بركب معاي حد معرفوش".
طبعاً هذه أغرب جملة من الممكن أن يقولها سائق تاكسي في مدينة تعداد سكانها يتجاوز الـ 13 مليوناً. كنت أسوق المبرر لنفسي وراء المبرر، وأنا أشير لتاكسي وراء تاكسي بدا أنهم غير راضين عني فرفضوا الوقوف لي، حتى وجدت سيارة تتحرك من خلفي وتقف أمامي. هيأت نفسي وابتسمت ابتسامة عريضة تبدأ من أذني اليمنى إلى أذني اليسري، وقررت ألا أكرر غلطتي السابق، واخترت أن أقول اسم شارع قريب من الشارع "الملعون" الذي أريده:
ـ شارع مصدق يا أسطى؟
ابتسم الرجل ابتسامة أكثر اتساعاً من ابتسامتي، وهو يقول لي:
ـ هل تقصد الشارع الموازي لشارع إيران؟
شعرت أن الرجل بإجابته دخل عليّ غرفة النوم وأنا أغير ملابسي، وقبل أن أفكر في مهرب مناسب، فتح الباب قائلاً: اركب.
اكتشفت بعد أقل من دقيقة أنني ركبت مع سائق مجنون بالتنمية البشرية، إذ بمجرد ما دارت السيارة، حتى أخذ ينتقد سائقي التاكسي الذين رفضوا الوقوف لي، منتقداً العنف والغضب وقلة الذوق، مؤكداً أنهم بحاجة إلى دروس في التنمية البشرية.
ـ مثل هذه
مد يده إلى الدرج أمامي وأخرج أسطوانة لخبير التمنية البشرية إبراهيم الفقي
ـ أو هذه
مد يده الأخرى وأخرج أسطوانة أخرى من الشماسة أمامه
ـ أو هذه وهذه وهذه وهذه
مد يديه وقدميه وأخرج اسطوانات من أسفل المقعد الذي أجلس عليه، والذي يجلس عليه، ومن مشغل الاسطوانات، ومن جيب قميصه، ومن جيب جاكته، ومن المقعد الخلفي، ومن كل مكان.
كانت السيارة تتأرجح بنا في الطريق مثل لعبة الأفعوانية، وهو يخرج لي الأسطوانات مثل حاوي يخرج الثعابين في سيرك شعبي.
انطلقت دروس التنمية البشرية تمرح في العربة، مرة من مشغل الأسطوانات، ومرة من مشغل فيديو، ومرة من فمه، الذي لم يتوقف عن الكلام، ولم يمنحني حتى فرصة الإجابة عن أسئلته.
طبعاً لم أقل له أن خبراء التنمية البشرية بالنسبة لي ليسوا أكثر من نصابين، وأنهم لا يختلفون عن عبد المنعم مدبولي في فيلم قديم حاول فيه أن يقنع رجلاً قصيراً بأنه سيصير طويلاً إذا قال "أنا مش قصير قزعة، أنا طويل وأهبل"، أومثل ذلك الطالب السمج الذي يدعوك لأن تقول "وقبر حرب بمكان قفر، وليس قرب قبر حرب قبر"، لكي يؤكد لك أنك لا تستطيع الكلام، أو ذلك الشخص الذي يتحداك أن تقول "قميص نفيسة نشف؟ لسه ما نشفش" عشر مرات متتالية، مع أن الأجدر بنفيسة أن تتوقف عن نشر قمصانها أمام الناس، وتشتري مجفف ملابس وتريحنا من هذا.
الحقيقة هي أن أسهل شيء هو أن تصبح خبيراً في التنمية البشرية، وتوجه نصائح من نوعية "بعد أن تستيقظ، افتح عينيك"، "لا تشرب الشاي وهو ساخن، حتى لا يحرق لسانك"، "لا تدخل الحمام وهناك أحد بالداخل"، "ما توقفش قدام المروحة وانت مستحمي"، و"لو وقفت شوكة في حلقك وأنت تأكل السمك، قف إلى جوارها واسمعها واعرف مشكلتها، ولماذا وقفت هذه الوقفة، فربما تعذرها"، "لا تنم وأنت غاضب من أحد، فكر له في مصيبة أولاً قبل أن تنم"، "ليست السعادة في أن تمتلك هاتف آي فون، إنما السعادة في أن تمتلك شاحناً". وهذه النوعية من النصائح لا تحولك إلى خبير تنمية بشرية، بقدر ما تحولك إلى نصاب.
في فيلم "ذئب وول ستريت"، المأخوذ عن قصة حقيقية، بعد أن يخرج نصاب البورصة من السجن، يتحول إلى واحد من أشهر خبراء التنمية البشرية، وهذا دليل، على أن مهارات المهنتين واحدة، وهي الكلام، والكلام، والكلام، وأقرب مثال لذلك هو أن مؤلف كتاب "كيف تصبح مليونيراً؟" هو الوحيد الذي أصبح مليونيراً من مبيعات كتبه، وليس أحد غيره.
خبير التنمية البشرية عندي لا يختلف شيئاً عن الخبير الاستراتيجي، فكلاهما، لم يجدا شيئاً يفعلانه، فأصبحا خبراء، مثلاً لا أعرف لماذا يضيع شخص وقته بأن يقرأ كتاباً اسمه "كيف تحافظ على وقتك"، أو "اعرف شخصيتك من لون حواجبك" أو "كيف تبتسم في وجه حماتك" أو "النصائح الذهبية حتى تصبح أذكى إخوتك"، لأنه لو كان ذكيا لما فكر أن يشتري كتباً مثل هذه، أو "كيف تتحول إلى سوبرمان" رغم أن مؤلف الكتاب لو تحول حتى إلى "الجوكر" لما احتاج إلى أن يؤلف هذا الكتاب، وليس خفياً أن أرباح كتب مثل "كيف تقلع عن التدخين في 4 أيام" ـ لا أعرف لماذا 4 أيام تحديداً ـ تنافس أرباح شركات السجائر، وكلاهما يستمر في حصد الأرباح بلا توقف عن التدخين من أي أحد.
في مصر، وفي الدول العربية، انتشرت في الفترة الأخيرة مراكز التنمية البشرية، التي تُخرّج الآلاف سنوياً، ممن يعتقدون أنهم يملكون سر الحياة، وأن من حقهم أن يقدموا لك النصائح، تسأل الواحد منهم (دائماً يرتدي البذلة الكاملة، ويحمل حقيبة سوداء يخفي فيها مسروقاته)
ـ ماذا تعمل يا بني؟
فيرد بفخر أول إنسان على سطح المريخ: أنا خبير تنمية بشرية.
لم أجرؤ طبعاً أن أقول حرفاً من كل ما سبق لسائق التاكسي، الذي فاجأني أنه خبير تنمية بشرية، ليس لأنني خفت منه ـ فقط ـ بل لأنه لم يعطني فرصة أصلاً لأتكلم، بل كان يفاجئني بنصائح إبراهيم الفقي في وجهي الواحدة تلو الأخرى، حتى تورمت عيناي.
أصر الرجل أن آخذ بعض أسطوانات إبراهيم الفقي وأن هذا واجبه تجاه إخوته في البشرية حتى ينير طريقهم للمعرفة، وأمام إصراره قبلت هديته مجبراً، لكن قبل أن أفلت بجلدي: وجدته يناديني:
ـ ثمن الأسطوانات
طبعاً بلا جدوى حاولت أن أقنعه أنني لا أريد، ولكنه كان قد تخلى عن كل نصائح خبراء التنمية البشرية بعدم الغضب والاشتباك مع الزبائن والنصب عليهم.

بعدها بشهرين قرأت في الصحف أن إبراهيم الفقي مات محروقاً في شقته.

27‏/08‏/2014

حرب الإبادة الثقافية

عرضت قاعات العرض السينمائي قبل أشهر قليلة فيلماً سينمائياً يحمل اسم "رجال الآثار" أخرجه وقام ببطولته النجم الأمريكي جورج كلوني، بالإضافة إلى مات ديمون وكيت بلانشيت وبيل موري وجون غودمان، ويدور حول مهمة انتحارية ثقافية لفريق أمريكي خلف خطوط العدو، لإنقاذ تراث الإنسانية من تحف ولوحات نادرة وتماثيل، كاد أن يدمرها هتلر إبان الحرب العالمية الثانية.
وبغض النظر عن تقييم الفيلم فنياً، وهو ما يحتاج إلى مقال آخر، إلا أن قصة الفيلم التي قيل إنها تستند إلى وقائع حقيقية، تذكر بمشهد على مدى بصرنا، وهو التراث العراقي والسوري الذي يتم تدميره يومياً مرة على يد داعش، ومرة في اقتتال طائفي، ومرة باسم الحلال والحرام، ومرة بأيدي لصوص الآثار.
اهتم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بالفيلم، ودعا أبطاله ومؤلفه وأحد الذين شاركوا في المهمة، ليقيم له عرضاً خاصاً في البيت الأبيض، كما وجهت الأمم المتحدة الشكر إلى صناعه على الدور الذي قاموا به، لكن لم يهتم أحد في المقابل بتراث الإنسانية الذي ينهب ويدمر كل يوم مع سبق الإصرار والترصد في العراق والشام.
كما لا يمكنني أن أغض البصر وأن أنسى وأنا أتخيل التكريم الأمريكي والأممي لصناع الفيلم والحدث، المشهد الذي بثته القنوات والصحف عقب سقوط نظام صدام حسين في 2003، لدخول الجنود الأمريكيين إلى أحد المساجد في العراق، وتحطيم محتوياته الأثرية، ناهيك عن تحطيم القصور التاريخية، وتدمير المتاحف، على يد نفس الدولة التي كانت تحاول إنقاذ تراث الإنسانية في الحرب العالمية الثانية كما يحكي الفيلم.
فعلى مدار إحدى عشرة سنة، منذ الاحتلال الأمريكي في العام 2003 وحتى الآن، استمر النهب والتدمير المتواصل لكل ما خلفته الحضارة الإسلامية في العراق، وقبلها الحضارة السومرية والبابلية وحضارة ما بين النهرين، مرة باسم الاحتلال، ومرة في صراعات طائفية بين السنة والشيعة، ومرة أخيرة باسم داعش.
وكان المشهد المفزع في 2003 عقب دخول القوات الأمريكية بغداد، هو عمليات السلب والنهب المنظمة التي تنقلها الكاميرات على الهواء، لعصابات منظمة، تسرق ما تستطيع حمله، وتحطم ما يثفل عليها. كما تم نهب المتحف الوطني العراقي على أيدي القوات الأمريكية، وتروي تقارير أن العديد من الدبابات خرجت محملة بالعديد من الكنوز التراثية الثمينة، كما تم فتح أبواب المؤسسات والمراكز والجامعات والوزارات العراقية، أمام الغوغاء وجماعات النهب والسلب.
لم يكن الأمر عشوائياً، إذ تمت سرقة المستودعات والمخازن المقفلة التي وصل إليها اللصوص عبر طرق خلفية، مخترقين بوابتين من الفولاذ وجداراً من الآجر المضغوط. من الواضح أنه كانت تتوفر لديهم خارطة مفصلة للمبنى، كما عُثر في المخازن على قاطعات زجاج وأطقم مفاتيح.
الأمر لم يتوقف على ذلك، فقد تكفل الصراع الطائفي طوال العشر سنوات التالية في تدمير مساجد وأضرحة وأبنية أثرية عبر سيارات مفخخة وقنابل موقوتة، ولا ننسى التفجيرات التي دمرت شارع المتنبي الذي يعتبر السوق الثقافي لأهالي بغداد في العام 2007، بهجوم بسيارة مفخخة أدى لمقتل ما لا يقل عن 30 متسوقاً وتدمير العديد من المكتبات والمباني، إذ تم تدمير المكتبة العصرية بشكل كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست عام 1908، كما دمر مقهى الشابندر الذي يعد من معالم بغداد العريقة. إضافة إلى تدمير واحتراق العديد من المكتبات والمطابع والمباني البغدادية الأثرية في الشارع. ثم اكتمل الأمر مع تنظيم داعش الذي كان أول ما فعله هو تحطيم قبر النبي يونس في الموصل، وتمثال أبو تمام، ونبش قبر ابن الأثير، كما حطم تمثال عثمان الموصلي، وهو موسيقي وملحن عراقي من القرن التاسع عشر، باعتباره "صنماً".
لا يختلف الأمر كثيراً في سوريا، حيث دمرت الآثار الإسلامية في حلب التي تكاد أن تكون قد أبيدت عن بكرة أبيها، فضلاً عن قيام جبهة النصر بتدمير الكنائس الأثرية السورية وتخريبها، كما دمرت مئذنة الجامع الأموي الأثري في حلب، والتهمت النيران أجزاء من سوق حلب الأثري بدكاكينه القديمة ذات الأبواب الخشبية التي يعود الذي يعود للقرن السادس عشر، حيث احترق فيه 1000 دكان كما لحقت أضرار بقلعة حلب، أما قلعة الحصن التاريخية التي تعود للعصور الصليبية فقد تعرضت لقصف من القوات السورية، وتم تحويل الكنيسة المعروفة باسم القديس سيمون إلى مركز للتدريب.
دمر داعش وجبهة النصرة في سوريا، الآثار القديمة مثل التماثيل اليونانية والرومانية لأنها "أصنام" تعبد من دون الله برأيهم، كما قام داعش بتفجير فسيفساء بيزنطي يعود للقرن السادس الميلادي قرب مدينة الرقة، وإذا كان السياسيون يعدون تنظيم داعش من أغنى التنظيمات الإرهابية في العالم، فذلك ليس عائداً فقط إلى سيطرته على آبار النفط، بل لعمله أيضاً في تجارة الآثار، رغم أنه يعتبرها أوثاناً وأصناماً.
يمكن أن يمتد هذا المشهد المحبط إلى كل الدول العربية المشتعلة، من اليمن إلى ليبيا، إلى فلسطين التي لا تكف فيها آلة الاحتلال الإسرائيلي عن تهويد كل ما تمر به، ومحو حقائق الزمن والتاريخ والجغرافيا.
نحن هنا في حل من ثنائية البشر والحجر، فليس معنى دفاعنا عن التراث الذي يدمر يومياً في بغداد وسوريا، والذي يضيع كل يوم أننا نتناسي الآلاف الذين يقتلون ويذبحون ويهجرون من بيوتهم، وليس معنى أن نذكر بما يحدث هناك يومياً من قتل أن ننسى التاريخ والحضارة الذي يدمر، ولا حرب الإبادة الثقافية التي تحدث، والتي قد توصلنا يوماً إلى أن نقول كان هنا حضارة.
تمت "المهمة الثقافية" التي تحدث عنها فيلم كلوني في أتون الحرب، التي كانت لا ريب ستنتهي، كما ستنتهي الحرب في العراق وسوريا، لكن بعد أمد لا يعرف أحد مداه، الفارق أن هناك من أنقذ تراث الإنسانية قبل 7 عقود فبقيت الحضارة الأوروبية كما استعاد اليابانيون حضارتهم، لكننا الآن نقف متفرجين، كأننا نريد أن يباد كل ما يربط هذه المنطقة بالإنسانية والحضارة.
قبل ثمانية عقود، بالتحديد في يوم 16 فبراير (شباط) 1198، جمعت كل الكتب الموجودة في مكتبة ابن رشد والتي تضم إلى جانب كتب هذا القاضي الفيلسوف كتباً أخرى لابن سينا والفارابي وابن الهيثم وغيرهم في الساحة الكبرى بإشبيلية، ووسط حضور حاشد وأُرغِمَ بن رشد على مشاهدة مئات الكتب لعشرات الفلاسفة والمفكّرين العرب وهي تُحرق وسط تكبير و صراخ الغوغاء بتحريض من بعض شيوخ الدين. هذا الحادث الذي كان بداية نهاية الحضارة العربية في الأندلس لا يختلف كثيراً عن المشهد الذي نراه يومياً الآن. وكأن الزمن يعيد نفسه بنفس الرتابة، لكن إذا كانت دولة وحضارة الأندلس انتهت بعد حرق كتب ابن رشد، فهل سيكون هذا مصيرنا الآن؟
ستضع الحرب ذات يوم أوزارها، فكل الحروب تنتهي بمآسيها، كما حدث في الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح ستة ملايين شخص، وأزالت مدينتي نغازاكي وهيروشيما من الوجود، لكنها في النهاية تركت التاريخ والحضارة لأنها ملك للمستقبل وللأجيال القادمة وليست ملكاً لنظام أو فصيل. لكن ما يحدث في المنطقة العربية يكشف عن أن ثمة من يريد أن يمحي ماضي وحاضر ومستقبل هذه المنطقة، حتى لا يقول أحد فيما بعد إن حضارة عظيمة مرت من هنا، بل يقول فقط: المغول مروا من هنا.


07‏/08‏/2014

قصيدة الخراب

قصيدة الخراب
مختارات شعرية باللغة الفرنسية
شعر: محمد أبو زيد
ترجمة إلى الفرنسية: أنطوان جوكي

02‏/05‏/2014

تحداني يهودي أن أجمع مليون قارئ لهذا المقال




فور أن تكتب عبارة "تحداني يهودي" في محرك البحث غوغل، ستظهر لك مئات الصفحات تحمل هذا الاسم، وكلها تبدأ هكذا: "تحداني يهودي حقير أن أجمع مليون محب للرسول"، و"تحداني يهودي حقير أن أنشر هذا الفيديو ليكون صدقة جارية"، و"تحداني يهودي أن أجمع مليون 100 كومنت"، و"تحداني يهودي أن أظل على قيد الحياة في مصر"، و"تحداني يهودي حقير أن أجمع مليار لايك لهذه الصورة"، مع أن عدد مشتركي فيس بوك أقل من هذا، و"تحداني يهودي حقير أن أجمع ألف شير لاسم الله عز وجل"، و"تحداني يهودي إذا جمعت مليون لايك سيعلن إسلامه" و"تحداني يهودي أن الزمالك سيفوز على الأهلي"، و"تحداني يهودي أن أدعو 1000 بوركيني فاساوي على الغداء".
في الحقيقة لست مشغولاً بذلك اليهودي، الذي ترك كل شيء في حياته، وتفرغ فقط لعملية التحدي التي لا أعرف الطائل منها، لكني مشغول بذلك "المطبع" الذي لا يتوقف عن عمليات التحدي التي يخسرها كلها، وخاصة فيما يتعلق بالزمالك.
مثل هذه الصفحات التي انتشرت كثيراً على فيس بوك، لا تفعل شيئاً سوى إثارة المشاعر الدينية، لحصد الإعجابات والمشاركات والتعليقات، والإعلانات فيما بعد، ولا تفعل شيئاً آخر، ولا يمكن اعتبارها إلا محاولة للابتزاز.
لكن محاولات الابتزاز تلك، لا تتوقف فقط عند ذلك اليهودي العجيب، الذي لا يعرف أحد من هو، ولكنها  تنتشر وتتمدد في صور دينية تصل عبر البريد وواتس أب وفيس بوك وتويتر، تكاد أن تقبل قدمك كي تكتب تعليقاً، مثل "ارسل هذا البريد، وإلا ستدخل النار"، أو "سوف نرى هل أنت أقوى أم الشيطان، لا تدعها تقف عندك"، و"حياة حبيبك النبي ارسلها لكل من عندك"، و"أسألك بالله، جعلتها أمانة في رقبتك، إذا لم ترسلها سيسخطك الله قرداً"، و"إذا لم تنشرها ستصاب بالبلهارسيا"، وبعضها يتحداك قائلاً: "هل تخاف من وضع صورة أسد الإسلام أسامة بن لادن على بروفايلك؟".. في الحقيقة.. نعم أخاف.
لا أعترض على المحتوى الديني المرفق عادة مع مثل هذه الرسائل، ولكن اعتراضي على حالة الترهيب والوعيد، وكأن شخصاً سادياً يسعد بإرسال العشرات إلى النار، مع أن الغرض من محتوى هذه الرسائل من الأدعية هو قراءتها وليس التهديد بها.
ولا تختلف هذه الرسالة في شيء عن رسائل التصيد الإلكتروني، والتي انتشرت مؤخراً على فيس بوك: فتيات سمراوات يرسلن رسائل بالإنجليزية مصحوبة بترجمة عربية ركيكة إلى آلاف إيميلات فيس بوك، مثل رسالة تقول: "أنا إيمانويلا.. للاتصال بك سعيد جداً، ..، أنا الحب يريد"، والتي لا تملك إلا أن ترد عليها قائلاً: "السيدة إيمانويلا. أنا الحب لا يريد".
يذكرني هذا أيضاً بطلب صداقة على فيس بوك جاءني ذات مرة من يابانية، كل ما على صفحتها مكتوب باليابانية، طبعاً، لا أعرف لماذا أضافتني، ولا كيف عثرت علي، رغم أنني لا أعرف عن اليابان إلا أنهم يأكلون الأرز بالأعواد الخشبية، ولا أعتقد أنها ظنتني توم كروز فهناك فروق واضحة في تسريحة الشعر، إلا إذا كانت ربطت بين ملامحي وبين جون مالكوفيتش.
الحديث عن رسائل التصيد والابتزاز لا ينتهي، ولعل أقدمها قرأته قبل ربع قرن قبل فوضى الإنترنت، عندما فاجأنا زميل في المرحلة الابتدائية بتوزيع ورقة عن شيخ حلم بإمام المسجد النبوي وطلب منه أن ينسخ هذه الرسالة 10 مرات، ومن لم يفعل سيسخطه الله كنغرو، ولم أكن أعرف وقتها ما هو الكنغرو فلم أهتم.
لكن أشهر لك الرسائل، تلك الرسالة التي تصل عبر البريد الإلكتروني من أرملة مات زوجها ـ لا بد أن يموت وينتحر بسبب رسائلها ـ تعيش في جزيرة لم أسمع بها من قبل، ولن أسمع، وترك لها كنزاً، وتريد أن تأتمنني عليه، ولا أعرف أيضاً لماذا اختارتني أنا أيضاً من بين سكان المجموعة الشمسية، وطبعاً لا يمكن هنا أن ننسى الرسائل التي تصل عبر الهواتف المحمولة من شركات تخبرك أنك فزت في مسابقة، لم تشترك فيها أصلاً.
وأذكر هنا قصة قرأتها قبل سنوات طويلة، عن أحد النصابين المفلسين في الولايات المتحدة، نشر إعلاناً في إحدى الصحف يقول: "ارسل عشرة دولارات إلى هذا العنوان لتفوز في المسابقة الكبرى"، وبالفعل أرسل الآلاف العشرة دولارات، وأصبح النصاب مليونيراً، ولم يعرف أو يسأل أحد أبداً ما هي اتلك "المسابقة الكبرى".
أشكال "الابتزاز العاطفي" "وتسول القراءة" والتصيد الاحتيالي، تتعدد وتتطور مع الزمن، من "المسابقة الكبرى"  إلى "الكنغرو" إلى اليهودي الحقير الذي أتحدى أي شخص أن يعرف من هو، إلى "استحلفتك بالله" إلى "الأرملة المجنونة"، إلى الصفحات الإعلانية بحثاً عن مزيد من "اللايك" و"الشير" و"الكومنت"، وليس شيئاً آخر، بل وتوجيه الرأي العام أحياناً.
أذكر أنه في بداية العام 2012، وفور إعلان جماعة الإخوان المسلمين ترشيح خيرت الشاطر لرئاسة الجمهورية، وصلتني على فيس بوك دعوتان لصفحتين جديدتين، إحداهما اسمها "سأنتخب خيرت الشاطر، انشرها لكي تكون صفحته الرسمية"، والأخرى اسمها "لن أنتخب خيرت الشاطر، انشرها كي تكون أكبر من صحفته الرسمية"، الغريب أن الذي أرسل لي الصفحتين نفس الشخص، والأغرب أنني اشتركت في الصفحتين، لكن الأغرب من هذا وذاك، هو ما حدث بعد تنحية الإخوان في 30 يونيو الماضي، إذ من متابعتي للصفحتين اكتشفت أنهما تدعمان الإخوان، وتنشران نفس المواد.
ما الذي يعنيه هذا، يعني أن ضغطة الإعجاب التي تقوم بها ليست إلا تجارة، يستخدمها ملوك العالم الجديد على الإنترنت للترويج لأنفسهم، ولأفكارهم، مرة بخداعك باسم مخالف تماماً لما تريد، ومرة باستعطافك، ومرة بتهديدك، ومرة باستمالة عاطفتك الدينية، وهذا يكشفه تحول عدد كبير من "صفحات الاستعطاف" بعد أن تجمع آلاف المعجبين، إلى صفحات سياسية في أحيان كثيرة، وناشرة لإعلانات تجارية في أحيان أخرى.
لا أستبعد أن يدفع أحدهم باب غرفة نومي، ويوقظني من النوم ليقول لي: "تحداني يهودي حقير أن أوقظك من النوم، وإذا لم تبتعد عني فاعلم أن ذنوبك هي التي منعتك"، وعندها سأرد عليه قائلاً: "وأنا تحداني يهودي أحقر من اليهودي الذي تحداك أن أستمع لهذا الترهات، يرضيك إن اليهودي يكسب يا عم؟".
ـــــــــــــــــــ
نشر في موقع 24