لم يعد حديث الموت
يثير الشفقة ولا التوقف ولا الدهشة. لم تعد صور الجثث التي تطل من كل مكان، عبر
أوراق الصحف وشاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، تستدعي حتى وقوفاً لتأمل
ما يحدث. تجاوزنا مرحلة أخبار الموت، إلى صور جثث الموتى، ثم تجاوزنا كل ذلك إلى
أشلاء الضحايا، ننظر إليها بقلب ميت، ثم نقلب الصفحة، أو القناة، أو الموقع، دون
أن يرف لنا جفن، أو يثير الأمر امتعاضاً.
حين قتل داعش قبل
حوالي العامين الطيار الأردني معاذ الكساسبة حرقاً، في مشهد رآه الجميع، قامت
الدنيا، كرر داعش المشهد مع آخرين حتى أصبح عادياً، فتجاوزه لما هو أبشع في إطار
حربه النفسية. قبل أسابيع ذبح "تنظيم بيت المقدس" في سيناء شيخاً طاعناً
في السن كاد يلامس المائة عام، هو الشيخ سليمان أبو حراز فلم يحرّك الخبر أحداً
أوشيء. قدم الجهاديون أبشع ما لديهم من انحرافات نفسية، من حرق وذبح وسلخ وتقطيع
أطراف ودفن ورجم وإغراق وسحل وخنق وتفجير الرؤوس وقطعها وإلقاء من علٍ ومشاركة
أطفال في القتل، وفي المقابل لم يعد كل ذلك صادماً ولا مستهجناً ولا مثيراً حتى
لمصمصة الشفاه.
لم تعد صناعة
الموت هي مهنة التكفيريين فقط، ولم تعد نشر عمليات القتل كاملة للترويع مهمة
الدواعش وحدهم، بل هي ملعب الإعلام، وهكذا تتنقل من لحظة مقتل السفير الروسي في
تركيا من زوايا مختلفة، إلى جهادي مجنون يقنع طفلته بتفجير نفسها، إلى مذيع يعرض
أشلاء جثة انتحاري، بقايا الرأس والقدمين، ولا حديث هنا عما تعلمناه في أدبيات
الصحافة من حرمة نشر صور الموتى، فالكل يتسابق للوصول إلى الأبشع، أبشع مما وصل
إليه غيره في سباق الجنون والشهرة، وفي المقابل تبلد الجمهور، فلم يعد يشعر بأي
شيء حيال ذلك، لم يعد يتابع، لم يعد يهتم.
أصبح الحديث عن
الموت عادياً، حتى أصبح البشع مكروراً، والمثير للاستهجان لا طعم له. خبر مذبحة
رفح الأولى ثم الثانية أقام الدنيا ولم يقعدها، لكن للأسف غدا استهداف الجنود في
سيناء متكرراً، ففقد الكثيرون حماستهم للمتابعة، فأصبح الغريب المثير للاستياء
عادياً، مثله مثل أي خبر آخر عن انفجار قنبلة هنا، أو تفجير إرهابي هناك.
قبل سنوات استطاعت
صورة الطفل الفلسطيني محمد الدرة أن تحرك العالم، وأن تخرج لأجلها المظاهرات، لكن
كم صورة أشد بشاعة من صورة الدرة صرنا نراها الآن، ربما نندد ونشجب عندما نرى صورة
الطفل إيلان الكردي، وربما نشعر بالغضب لصورة الطفل السوري عمران، لكننا أصبحنا
نريد ما هو أقسى حتى نتحرك في المرة التالية، حتى تتحرك إنسانيتنا، حتى تتحرك
أصابعنا لتغير صورة "البروفايل" على فيس بوك أو تويتر، فهذا أقصى ما
يمكننا فعله.
اعتدنا الموت، صار
طعاماً يومياً، تماماً مثل اعتيادك حوادث السيارات التي تراها يوماً في طريقك إلى
العمل، تتحول إلى أمر عبثي من كثرة تكرارها، لا يثير حتى التساؤل عن سببها أو
الحوقلة أو بعث القشعريرة في الجسد.
لم يعد لدينا
للموت قدسية، بعد أن أصبح حدثاً عابراً بلا سبب في كثير من الأحيان، تأمل الأخبار
عن تفجير العزاءات في العراق لتدرك مدى العبث، شخص راح يعزي آخر فمات في تفجير
إرهابي. تبلّدنا. فقدنا إنسانيتنا. ما تت مشاعرنا وضمائرنا، مع اعتياد صور الموتى،
وتكريس نشر ألبومات الجثث، والاختلاف السفسطائي حول هل هم قتلى أم ضحايا أم شهداء،
حتى "التعاطف الانتقائي" خسرناه مع كل هذا الموت المجاني.
أصبح الموت رقماً
عابراً، قد يدفع أحياناً للتعاطف إذا زاد، لكن مع الوقت تحول "التعاطف"
إلى وحش كريه، يحتاج إلى رقم أكبر كل مرة من المرة السابقة حتى يخرج، ويصبح
صادقاً، ويحرّك جزءاً من الإنسانية التي تموت فينا كل يوم ببطء.
..........
نشر في "المصري اليوم"