ربما لم تشعر والدة الشهيدة مينا دانيال بفقده إلا الآن،
ربما تكون قد افتقدته إثناء 18 يوما قرر فيها أن يبيت في ميدان التحرير ضد نظام
فاسد ومستبد، لكنها كانت تعلم أنه سيعود إليها بمصر الحرة، ربما افقتقدته في
الاعتصامات والإضرابات والمظاهرات التي شارك فيها، ربما شعرت بالقلق عليه، ربما
طلبت رقمه، وطالبته بالعودة، لكنها كانت تعلم في النهاية أنه يفعل ذلك من أجل
مستقبل أفضل لمصر.
وعندما خرج في مظاهرات ماسبيرو، ضد الطائفية، وضد مصر
التي يريد البعض تقسيمها، وضد بيادة المجلس العسكري التي تدهس الثورة، ثم جاءها الخبر بأن مدرعات المجلس العسكري
دهسته، هي بكت بشدة، وشعرت بروحها تسلب منها، لكنها كانت تدرك أن مينا دانيال لم
يمت، لأن المبادئ التي ناضل لأجلها لا زالت حية، في هتاف آلاف المتظاهرين، ضد حكم
المرشد، وضد حكم المجلس العسكري.
كانت تعلم أنه باق، وأنه يرفرف فوق كل المظاهرات،
والاعتصامات مبتسما، يردد ما قاله المسيح، ليحمي الثورة التي وهبها روحه، كانت
تعلم أنه لم يمت، لأن الثورة مستمرة، وأن
الدماء التي سالت في محمد محمود وماسبيرو ومجلس الوزراء ومسرح البالون، والعباسية،
لم تسل إلا لتغسل جراح الوطن، وتطهرها.
الآن فقط تشعر والدة أم مينا دانيال بالفقد، وهي ترى
الثورة التي ضحى نجلها لأجلها بروحه، وهي
تضيع تماما، تماما، وبالفصيلين الذين خاض ضدهما معركته يصلان إلى نهاية السباق،
كتنين وكراكن يتعاركان للاستحواذ على الأرض.
المعركتان الكبيرتان اللتان خاضهما مينا دانيال، حتى
اللحظة الأخيرة في عمره، كانتا ضد حكم المرشد، وضد النظام السابق وحكم العسكر،
الآن فقط تشعر بالمرارة، بالخسارة الشديدة، فالطريق الذي فرشه الشهداء بدمائهم إلى
صندوق الرئاسة، انتهلا بأحد خيارين، حكم المرشد، أو حكم العسكر، إما تجرع السم، أو
القتل بالرصاص، إما سكة اللاعودة، أو "سكة اللي يروح وما يرجعش".
لمن ستمنح أم مينا صوتها في الانتخابات، لمن قتله وقتل
غيره من الثوار، أم لمن سيقتله مجددا، ويكفره، ويطارده بما لم ينزل الله به من
سلطان في أي من كتبه، ماذا ستفعلين يا أم مينا؟ أية مرارة وحيرة وضعتك فيها
الثورة، والثوار وانشقاقهم، ونرجستهم ورغبتهم في الصعود إلى كرسي الحكم.
من تلومين يا أم مينا؟ هل ستلومين حزب الكنبة الذي لم
يدرك فداحة المأساة وقرر التصويت لأحمد شفيق مطيحين بالثورة، أم ستلومين الثوار
أنفسهم الذين لم يستطيعوا أن يتجتمعوا على مرشح واحد، ورفضوا كل محاولات التوافق،
والاجتماع على مرشح واحد، وقرر كل واحد منهم أنه الأصلح لحكم مصر، غلبتهم النرجسية
الشديدة، والغرور المتزايد، فلم يروا أبعد من أنوفهم، لم يروا الثورة التي ضاعت بانحيازهم
السافر إلى أنفسهم وأنفسهم فقط.
لا يمكن لأحد أن يلوم أم مينا، ولا أحدا من الأقباط إذا
منحوا أصواتهم لأحمد شفيق في مرحلة الإعادة، فقد وقفوا إلى جوار مرشحين الثورة في
المرحلة الإعادة، لكن مرشحين الثورة أنفسهم لم يقفوا إلى جوار أنفسهم.
لا يتوقع أحد من الأقباط أن يمنحوا أصواتهم لمحمد مرسي
مرشح الإخوان المسلمين، لأن الجماعة المعروفة ببراجماتيتها السياسية، لم تقدم
ضمانات لأي أحد من التيارات الإسلامية
نفسها، ولا تنازلات من أجل الثورة، ومن المؤسف أن تتحول الانتخابات إلى معركة
طائفية، يجمع الإخوان التيارات الإسلامية حولهم فيما يذكر ب"غزوة
الصناديق"، ويغازل أحمد شفيق الأقباط بورقة الدولة المدنية، مع أن لا هذا
يعبر عن الدولة الدينية، ولا ذلك يعبر عن الدولة المدنية.
المقاطعة ليست حلا، لكن كل الخيارات المطروحة
مريرة، سامحينا يا أم مينا، جميعنا يجب أن نقدم الاعتذار لوالدة الشهيد مينا
دانيال.. فلم يكن هذا هو حلمك ولا حلم مينا، ولا حلم الثورة