عرضت قاعات العرض السينمائي
قبل أشهر قليلة فيلماً سينمائياً يحمل اسم "رجال الآثار" أخرجه وقام ببطولته
النجم الأمريكي جورج كلوني، بالإضافة إلى مات ديمون وكيت بلانشيت وبيل موري وجون غودمان،
ويدور حول مهمة انتحارية ثقافية لفريق أمريكي خلف خطوط العدو، لإنقاذ تراث الإنسانية
من تحف ولوحات نادرة وتماثيل، كاد أن يدمرها هتلر إبان الحرب العالمية الثانية.
وبغض النظر عن تقييم الفيلم
فنياً، وهو ما يحتاج إلى مقال آخر، إلا أن قصة الفيلم التي قيل إنها تستند إلى وقائع
حقيقية، تذكر بمشهد على مدى بصرنا، وهو التراث العراقي والسوري الذي يتم تدميره يومياً
مرة على يد داعش، ومرة في اقتتال طائفي، ومرة باسم الحلال والحرام، ومرة بأيدي لصوص
الآثار.
اهتم الرئيس الأمريكي باراك
أوباما بالفيلم، ودعا أبطاله ومؤلفه وأحد الذين شاركوا في المهمة، ليقيم له عرضاً خاصاً
في البيت الأبيض، كما وجهت الأمم المتحدة الشكر إلى صناعه على الدور الذي قاموا به،
لكن لم يهتم أحد في المقابل بتراث الإنسانية الذي ينهب ويدمر كل يوم مع سبق الإصرار
والترصد في العراق والشام.
كما لا يمكنني أن أغض البصر
وأن أنسى وأنا أتخيل التكريم الأمريكي والأممي لصناع الفيلم والحدث، المشهد الذي بثته
القنوات والصحف عقب سقوط نظام صدام حسين في 2003، لدخول الجنود الأمريكيين إلى أحد
المساجد في العراق، وتحطيم محتوياته الأثرية، ناهيك عن تحطيم القصور التاريخية، وتدمير
المتاحف، على يد نفس الدولة التي كانت تحاول إنقاذ تراث الإنسانية في الحرب العالمية
الثانية كما يحكي الفيلم.
فعلى مدار إحدى عشرة سنة،
منذ الاحتلال الأمريكي في العام 2003 وحتى الآن، استمر النهب والتدمير المتواصل لكل
ما خلفته الحضارة الإسلامية في العراق، وقبلها الحضارة السومرية والبابلية وحضارة ما
بين النهرين، مرة باسم الاحتلال، ومرة في صراعات طائفية بين السنة والشيعة، ومرة أخيرة
باسم داعش.
وكان المشهد المفزع في
2003 عقب دخول القوات الأمريكية بغداد، هو عمليات السلب والنهب المنظمة التي تنقلها
الكاميرات على الهواء، لعصابات منظمة، تسرق ما تستطيع حمله، وتحطم ما يثفل عليها. كما
تم نهب المتحف الوطني العراقي على أيدي القوات الأمريكية، وتروي تقارير أن العديد من
الدبابات خرجت محملة بالعديد من الكنوز التراثية الثمينة، كما تم فتح أبواب المؤسسات
والمراكز والجامعات والوزارات العراقية، أمام الغوغاء وجماعات النهب والسلب.
لم يكن الأمر عشوائياً،
إذ تمت سرقة المستودعات والمخازن المقفلة التي وصل إليها اللصوص عبر طرق خلفية، مخترقين
بوابتين من الفولاذ وجداراً من الآجر المضغوط. من الواضح أنه كانت تتوفر لديهم خارطة
مفصلة للمبنى، كما عُثر في المخازن على قاطعات زجاج وأطقم مفاتيح.
الأمر لم يتوقف على ذلك،
فقد تكفل الصراع الطائفي طوال العشر سنوات التالية في تدمير مساجد وأضرحة وأبنية أثرية
عبر سيارات مفخخة وقنابل موقوتة، ولا ننسى التفجيرات التي دمرت شارع المتنبي الذي يعتبر
السوق الثقافي لأهالي بغداد في العام 2007، بهجوم بسيارة مفخخة أدى لمقتل ما لا يقل
عن 30 متسوقاً وتدمير العديد من المكتبات والمباني، إذ تم تدمير المكتبة العصرية بشكل
كامل، وهي أقدم مكتبة في الشارع تأسست عام 1908، كما دمر مقهى الشابندر الذي يعد من
معالم بغداد العريقة. إضافة إلى تدمير واحتراق العديد من المكتبات والمطابع والمباني
البغدادية الأثرية في الشارع. ثم اكتمل الأمر مع تنظيم داعش الذي كان أول ما فعله هو
تحطيم قبر النبي يونس في الموصل، وتمثال أبو تمام، ونبش قبر ابن الأثير، كما حطم تمثال
عثمان الموصلي، وهو موسيقي وملحن عراقي من القرن التاسع عشر، باعتباره "صنماً".
لا يختلف الأمر كثيراً
في سوريا، حيث دمرت الآثار الإسلامية في حلب التي تكاد أن تكون قد أبيدت عن بكرة أبيها،
فضلاً عن قيام جبهة النصر بتدمير الكنائس الأثرية السورية وتخريبها، كما دمرت مئذنة
الجامع الأموي الأثري في حلب، والتهمت النيران أجزاء من سوق حلب الأثري بدكاكينه القديمة
ذات الأبواب الخشبية التي يعود الذي يعود للقرن السادس عشر، حيث احترق فيه 1000 دكان
كما لحقت أضرار بقلعة حلب، أما قلعة الحصن التاريخية التي تعود للعصور الصليبية فقد
تعرضت لقصف من القوات السورية، وتم تحويل الكنيسة المعروفة باسم القديس سيمون إلى مركز
للتدريب.
دمر داعش وجبهة النصرة
في سوريا، الآثار القديمة مثل التماثيل اليونانية والرومانية لأنها "أصنام"
تعبد من دون الله برأيهم، كما قام داعش بتفجير فسيفساء بيزنطي يعود للقرن السادس الميلادي
قرب مدينة الرقة، وإذا كان السياسيون يعدون تنظيم داعش من أغنى التنظيمات الإرهابية
في العالم، فذلك ليس عائداً فقط إلى سيطرته على آبار النفط، بل لعمله أيضاً في تجارة
الآثار، رغم أنه يعتبرها أوثاناً وأصناماً.
يمكن أن يمتد هذا المشهد
المحبط إلى كل الدول العربية المشتعلة، من اليمن إلى ليبيا، إلى فلسطين التي لا تكف
فيها آلة الاحتلال الإسرائيلي عن تهويد كل ما تمر به، ومحو حقائق الزمن والتاريخ والجغرافيا.
نحن هنا في حل من ثنائية
البشر والحجر، فليس معنى دفاعنا عن التراث الذي يدمر يومياً في بغداد وسوريا، والذي
يضيع كل يوم أننا نتناسي الآلاف الذين يقتلون ويذبحون ويهجرون من بيوتهم، وليس معنى
أن نذكر بما يحدث هناك يومياً من قتل أن ننسى التاريخ والحضارة الذي يدمر، ولا حرب
الإبادة الثقافية التي تحدث، والتي قد توصلنا يوماً إلى أن نقول كان هنا حضارة.
تمت "المهمة الثقافية"
التي تحدث عنها فيلم كلوني في أتون الحرب، التي كانت لا ريب ستنتهي، كما ستنتهي الحرب
في العراق وسوريا، لكن بعد أمد لا يعرف أحد مداه، الفارق أن هناك من أنقذ تراث الإنسانية
قبل 7 عقود فبقيت الحضارة الأوروبية كما استعاد اليابانيون حضارتهم، لكننا الآن نقف
متفرجين، كأننا نريد أن يباد كل ما يربط هذه المنطقة بالإنسانية والحضارة.
قبل ثمانية عقود، بالتحديد
في يوم 16 فبراير (شباط) 1198، جمعت كل الكتب الموجودة في مكتبة ابن رشد والتي تضم
إلى جانب كتب هذا القاضي الفيلسوف كتباً أخرى لابن سينا والفارابي وابن الهيثم وغيرهم
في الساحة الكبرى بإشبيلية، ووسط حضور حاشد وأُرغِمَ بن رشد على مشاهدة مئات الكتب
لعشرات الفلاسفة والمفكّرين العرب وهي تُحرق وسط تكبير و صراخ الغوغاء بتحريض من بعض
شيوخ الدين. هذا الحادث الذي كان بداية نهاية الحضارة العربية في الأندلس لا يختلف
كثيراً عن المشهد الذي نراه يومياً الآن. وكأن الزمن يعيد نفسه بنفس الرتابة، لكن إذا
كانت دولة وحضارة الأندلس انتهت بعد حرق كتب ابن رشد، فهل سيكون هذا مصيرنا الآن؟
ستضع الحرب ذات يوم أوزارها،
فكل الحروب تنتهي بمآسيها، كما حدث في الحرب العالمية الثانية التي حصدت أرواح ستة
ملايين شخص، وأزالت مدينتي نغازاكي وهيروشيما من الوجود، لكنها في النهاية تركت التاريخ
والحضارة لأنها ملك للمستقبل وللأجيال القادمة وليست ملكاً لنظام أو فصيل. لكن ما يحدث
في المنطقة العربية يكشف عن أن ثمة من يريد أن يمحي ماضي وحاضر ومستقبل هذه المنطقة،
حتى لا يقول أحد فيما بعد إن حضارة عظيمة مرت من هنا، بل يقول فقط: المغول مروا من
هنا.