29‏/03‏/2019

"مكتبة الأسرة" التي أعدموها على مهلٍ


عندما تدخل أحد فروع هيئة الكتاب، لا بد أنك ستجد ما تبقى من كتب "مكتبة الأسرة" في ركن جانبي، لكني أشك في أنك ستجد فيها جديداً أو ما يشجعك على قراءته وشرائه.
يجب الاعتراف إذن، أن مشروع "مكتبة الأسرة" الذي بدأ في العام 1994 تحت شعار "القراءة للجميع"، وساعد في تشكيل وجدان وثقافة جيل عبر سنوات طوالٍ، قد انتهى. سواء كان قد مات إكلينيكياً، أو تم قتله عن عمد، أو على أقل تقدير ينتظر رصاصة الرحمة.
ربما كانت مشكلة المشروع أنه ارتبط منذ نشأته باسم سوزان مبارك، لكن عند إطلاقه لم تكن تلك مشكلة بالمرّة، بل كان دافعاً للوزارات والمؤسسات الرسمية والأهلية للمشاركة في دعمه والتبرع له وتسويقه وإنجاحه، وبالفعل نجح المشروع ودخلت الكتب تقريباً كل بيت، واستطاع الجميع أن يقرأ روائع الأدب العربي والفكر والفلسفة وتراث الإنسانية بأرخص الأسعار.
ولا بد من الاعتراف أيضاً أن المشروع في سنواته الأخيرة قبل 2011، شابته المجاملات والشللية، لكن ظل ـ رغم ذلك ـ محافظاً على تقديم وجبة دسمة من الكتب المهمة المؤسّسة، كما أن جزءاً من قوة دفعه بدأ عندما قرر المسؤولون أن يجعلوه طوال العام وليس خلال فصل الصيف، فافتقد جزءاً من زخمه، لكن المشكلة الحقيقية والكبرى بدأت عقب ثورة يناير 2011، حيث تعامل الجميع معه باعتباره ابن الخطيئة، فسحب المتبرعون تمويلاتهم وبدأ الداعمون في التبرؤ منه لارتباطه باسم سوزان مبارك، وكأنها هي التي كانت تؤلّف الكتب التي تنشرها "مكتبة الأسرة"، وجرت محاولة تغيير اسمه إلى "مكتبة الثورة المصرية" من وزير الثقافة في العام 2013، ولم ينظر أحد إلى المشروع باعتباره مشروعاً ثقافياً مهماً للأسرة المصرية ينشر الوعي والثقافة والتنوير ويساعد في التكوين الثقافي للأجيال الجديدة، ويعود بالنفع على القراء والمؤلفين وحتى على دور النشر الخاصة التي كانت تساهم بكتبها بمقابل مُرضٍ، يساعد في دفع حركة النشر للأمام.
بحسب أرقام التصريحات الرسمية، فإن تمويل المشروع من التبرعات تراجع من 22 مليون جنيه عام 2010 إلى مليونين فقط، ويبدو أن هيئة  الكتاب ليست مهتمة بالبحث عن تمويل أو زيادته، بل يبدو لي إنها تساهم في وأد المشروع على مهلٍ، عن طريق اختيارات سيئة للكتب من إصدارات الهيئات الحكومية القديمة ـ أحياناً تضع أغلفة مكتبة الأسرة على كتب قديمة من مخازنها ـ بالإضافة إلى أسوأ توزيع ممكن فمعظمها لا يصل المحافظاتـ بعد أن كنت تجد الكتب لدى كل بائع صحف في شوارع مصرـ إلى أغلفة تتبارى على لقب الأسوأ، إلى طبعات محدودة جداً، ومع ذلك لم يعد يشتريها أحد.
لعلّ من الواجب هنا التذكير، أن شهور الصيف كانت تتحول إلى مهرجان حقيقي للقراءة، وكنت أقابل العشرات يومياً لدى باعة الرصيف وفي مكتبات الهيئة ممن ينتظرون كتاباً معيناً  من مكتبة الأسرة أو يحجزون جزءاً من أحد الموسوعات الشهيرة التي أصدرتها مثل "قصة الحضارة"، أو "وصف مصر"، أو "مصر القديمة"، وغيرها الكثير.
ولعل من المهم أيضاً الإشارة إلى أن الدولة، أواخر التسعينيات، استخدمت مشروع "مكتبة الأسرة" في حربها ضد الإرهاب، عبر إصدار كتب تتبنى قضية التنوير والهوية المصرية، ولعل هذا المغزى تحديداً هو ما يغيب عن وزارة الثقافة الآن، فإذا كان المسؤولون طوال الوقت يتحدثون عن أهمية "القوة الناعمة"، وعن "الحرب على الإرهاب"، فلا بد أنهم يدركون أن القوة الناعمة لا تعني تقييد النشر وإعدام مشروع ثقافي كبير مهم كهذا، فضلاً عن "النشر بالقطّارة" في الهيئات الحكومية لمجرد التباهي بعدد العناوين، و"الحرب على الإرهاب"، لا تعني التعامل معه عسكرياً فقط، فالفكرة لا تنتهي برصاصة، بل بفكرة أخرى تبزها وتنتصر عليها.
القضية لم تعد في استمرار المشروع من عدمه، المشكلة في فشله، أو إفشاله. إفشاله عن عمد أو جهل. وكلاهما أسوأ من الآخر. ولا مشكلة لديّ في إيقاف "مكتبة الأسرة" إذا كان المسؤولون في هيئة الكتاب يرون أن الغرض منها قد انتهى، لكن يجب أولاً أن يقولوا ما هو البديل الذي يقدمونه؟ ألا يكفي أن سلاسل الكتب والمجلات التي تصدرها الهيئات الثقافية الحكومية ـ لم تعد تصدر إلا لماماً؟، ألا يكفي أنها تطبع مائتي نسخة فقط من الكتاب؟ ألا يكفي أن أسعارها لم تعد في متناول القارئ البسيط، وهو ما أفقدها جزءاً من دورها؟، ألا يكفي سعي مسؤوليها لـ"التوفير" بتقليل طباعة الكتب، لأن هذا هو الاتجاه السائد الآن؟
لا أدري حقاً، لماذا نتفاخر باحتفاظنا بالجثة، إذا كنا نتعامل مع ميت؟ أليس الدفن أكثر إنسانية ورحمة؟

..............
*نشر في "المصري اليوم"

24‏/03‏/2019

" ?Can You Ever Forgive Me".. الجريمة الفنية


تغرب أضواء الشهرة سريعاً عن كاتبة السير الذاتية "لي إسرائيل"، فيتخلى عنها الجميع بداية من وكيلتها الأدبية التي ترف أن تمنحها دفعة تحت الحساب لتعالج قطتها، إلى صاحب البيت الذي يطاردها من أجل الإيجار المتأخر ثلاثة أشهر، ولا يتبقى لها سوى قطتها، وذكريات نجاح لم يكتمل، ورسالة أدبية معلقة على الجدار من أحد المشاهير الذين عرفتهم يوماً.
وعندما تمرض قطتها ولا تستطيع دفع ثمن علاجها، لا تجد أمامها سوى أن تبيع الرسالة المعلقة على حائطها، ما يوحي لها بفكرة "تأليف" وتزوير وثائق أدبية ورسائل شخصية لكبار الكتاب والمشاهير الراحلين وبيعها.
هكذا تبدأ أحداث فيلم السيرة الذاتية الجميل Can You Ever Forgive Me?، والمأخوذ عن مذكرات لي إسرائيل التي تحمل الاسم نفسه، وقامت بدور البطولة فيه ميليسا مكارثي ، وأخرجته مارييل هيلر، ليأخذنا في جولة من المشاعر المضطربة والأفكار المتصارعة التي تعيشها لي، التي تطرح سؤالاً أخلاقياً حول ما تقوم به، إذ ترى أن ما تقوم به من تزوير لرسائل المشاهير ليس جريمة، بل هو فن قائم بذاته، وتعتبره إبداعاً خاصاً بها يعوضها عن فشلها في الاختباء وراء آخرين كانت تكتب سيرهم الذاتية. ويبدو من المهم تأمل هذا المفهوم عندما نبحث في السيرة الحقيقية لـ لي إسرائيل التي كان سبب فشلها في عملها الأساسي رفضها "رشوة" لتزوير حياة أحد المشاهير، فلجأ إلى محاربتها وإفشال كتابها ما جعل الأضواء تغيب عنها.
كان اختيار ميليسا مكارثي للقيام بأداء هذا الدور غريباً، لأنها معروفة بأدوارها الكوميدية والتي تحصرها معظم الوقت في كوميديا "السيدة السمينة"، وما ينجم عنها من مفارقات، لكنها تفاجئنا في هذا الفيلم بأداء درامي جميل، استطاعت أن تترشح عنه لأوسكار أحسن ممثلة، وثماني جوائز أخرى.
قصة حياة لي إسرائيل، التي تناولها الفيلم مثيرة للجدل، فقد عرفت في بداية السبعينات والثمانينات كواحدة من أفضل كُتاب السيّر الذاتية للمشاهير، لكنها تفقد شهرتها مع عدم قدرتها على مجاراة تطور الذوق العام، لدرجة أن دور النشر تعرض مؤلفاتها مصحوبة بتخفيض 75%، فتفقد عملها، ومع عدوانيتها تجاه من حولها تفقد عملاً عادياً كان يؤمن لها دخلاً ثابتاً، ما يدفعها لتزوير رسائل خاصة لمشاهير من أمثال كاثرين هيبورن، وتالولا بانكهيد، وإستي لاودر، ونويل كوارد، وإرنست همينجواي، ولويز بروكس والصحفية دوروثي كيل ، وحوالي 400 شخصية أخرى، مع إضافة لمسات فنية من تأليفها مثل مثلية أحدهم أو طول أنف آخر، بمعاونة صديقها جاك هوك، الذي قام بدوره ريتشارد إي جرانت، الذي تربطها به علاقة غريبة، وقد يبدو هو الصديق الوحيد لها، مع أسلوبها المعادي للجميع، وتفضيلها تربية القطط على مصادقة البشر.
في محادثة حادة بين لي وجاك، تقول إن رسائلها ليست مجرد تزوير بل قطع فنية من تأليفها، فيرد عليها بأنها لا تنتمي إليها لأنها لا تستطيع أن تضع اسمها عليها، لكنها تعود لتقول في مذكراتها "ما زالت أعتبر الرسائل أفضل إنجازاتي" وبعيداً عن جدلية التزوير، يضع الفيلم بطرح هذه النقطة عشرات علامات الاستفهام حول ماهية الفن، الذي جزء منه اقتباس وتقليد وابتكار، فـ لي إسرائيل لم تكن مجرد مزورة لتوقيع، بل كانت تبتكر موقفاً غريباً من حياة أحد المشاهير، وتعيد صياغة جزء كامل من حياته.
هل كان يجب أن نتعاطف مع لي إسرائيل، مع الأداء الرائع الذي قدمته ميليسا مكارثي، وحياتها المأساوية التي قدمها الفيلم، ومبرراتها التي روتها في مذكراتها؟ هل كان يجب أن نغفر لـ لي، كما طببت في عنوان مذكراتها وعنوان الفيلم بالتبعية، اضطرارها للتزوير كي تستطيع أن تطعم قطتها، وتدفع إيجار بيتها وتنظفه من الحشرات؟ هل كان يجب أن نصدقها في أن ما فعلته كان قطعاً فنية مستقلة تخصها، وليس مجرد أعمال مزورة؟ هل علينا أن نعيد التفكير في فنية ما كانت تفعله، وفي فنية "الكذب" ذاته ؟ الفيلم يريدنا أن نجيب بنعم. لكن الواقع يتطلب الإجابة على عشرات الأسئلة حول ماهية الفن أولاً.



صداقات تاريخية


محمد أبوزيد: لا نعبر وسط البلد إلا بعد استئذان عمدتها الطاهر الشرقاوى

حسن عبدالموجود

لو نظرت فى الصورة المصاحبة لهذا الموضوع فلن تحتاج إلى وقت طويل لتدرك ما تغيَّر فى سنوات قليلة. الشاعر محمد شكر، على يمين الصورة اختفى تقريباً، شارب محمد أبوزيد صار ذكرى قديمة، شَعْر الطاهر شرقاوى لا يرى النور أبداً، وبمجرد تفكيره فى اختراق جلد رأسه، يُجهَز عليه بموس حاد، أما هانى عبدالمريد فهو الاستثناء تقريباً، فلم يتغير فيه شىء، وأول ما تراه منه عيناه اللتان لا تعرف إن كانتا عسليتيْن أم خضراويْن. حينما ينظر إليك هانى، تشعر، بسبب "تلك التبريقة الدائمة" التى تميزه، أنه يُجمِّع الليزر فى عينيه، وأنه على وشك إطلاق شعاعين سيحرقانك فوراً، لكن لأنه طيب تستطيع أن تتخيل، كذلك، أنه سيبادرك قائلاً: "س 18 فى خدمتك يا سيدى".
محمد أبوزيد هو الركن الأساسى فى تلك الشلة، ولكنه لا يرى هذا، فـ"عمود الخيمة"، بالنسبة له، هو الطاهر شرقاوى. هذه مجموعة، يبدو أن الوسط الثقافى لم ينل منها، حتى هذه اللحظة، وعلى سبيل المثال ينسب كل منهم الفضل إلى الآخر فى كل شىء، ولن تجد أحداً منهم يخوض فى سيرة غريب، كما أنهم لا يعرفون النميمة، إنهم يبدون أقرب إلى شلة أنبياء. وفى الأغلب يجلسون صامتين، قليل من الكلمات تكفيهم، وقد فكرت فى مرة، وأنا معهم، أنهم يتخاطرون عقلياً حتى لا يضايقوننى بأصواتهم. كانوا يجلسون ذات يوم ومر بهم شاعر، وقال ضاحكاً: "أنا خايف أسلم عليكم فيحصلكم تلوث"!
هذه مجموعة لا تعرف الصداقة المزيفة، كما يقول جبران خليل جبران: "الصديق المزيف كالظل، يمشى ورائى عندما أكون فى الشمس، ويختفى عندما أكون فى الظلام"، إنهم يظهرون لدعم بعضهم فى الأوقات المناسبة.
لكن كيف تكونت تلك المجموعة؟ بذرة الصداقة بدأت بين اثنين، ثم تفرعت إلى شجرة. يقول أبوزيد: "1999 كان عامى الأول فى القاهرة، ذهبت لحضور ندوة الروائى محمد جبريل، فى مقر نقابة الصحافيين بشارع الجلاء وقتها، وألقيت قصة قصيرة، وعقب الندوة بادر الطاهر، بالتعرف علىَّ، عرفتُ أنه صعيدى ودرس التجارة فى جامعة الأزهر مثلى، وبدأت صداقتنا منذ ذلك اليوم".
تزامنت هذه العلاقة بالصدفة بصداقة كبيرة أخرى مع محمد صلاح العزب، الذى قابله أبوزيد فى ندوة أخرى كانت تُعقد فى أحد النوادى، على نيل الجيزة، وتعرف من خلاله على صديق تاريخى آخر هو هانى عبد المريد، قبل أن ينضم إليهم الشاعر الراحل مجدى عبد الرحيم.
كانوا جميعاً فى بداياتهم، يبحثون عن طرق للنشر، يسيرون فى شوارع "وسط البلد" يكتشفون شوارعها ويسخرون من كل شىء، ينتقلون من ندوة إلى أخرى، ومن مقهى إلى آخر، ومن سور كتب قديمة إلى باعة أرصفة، يتصلون ببعضهم من كابينات "ميناتل" ويتفقون على اللقاء يومياً تقريباً ليقرأوا لبعضهم ما كانوا يكتبونه، ويفرحون إذا نشر أحدهم قصة أو قصيدة فى صحيفة مجهولة.
يقول أبوزيد: "أعتبر نفسى شخصاً غير اجتماعى، أحظى بمحبة عشرات الزملاء فى كل مكان عملت به، لكن ظلت صداقاتى محدودة ومقصورة معظم الوقت. مع الوقت، كانت تنمو لدىَّ دوائر صداقات مختلفة جميعها مرتبطة بالأدب، محمود فهمى الذى أصدر ديوانه الأول (لوحدك)، محمد الفخرانى الذى أصدر مجموعته الأولى (بنت ليل)، نهى محمود التى تعرفت عليها من خلال مدونتها الشهيرة (كراكيب)، وإيمان السباعى التى كانت تكتب القصة وتعيش فى الإسكندرية قبل أن تنتقل للقاهرة. مع الوقت تحولت الدوائر المختلفة إلى دائرة واحدة، أصبح عمدتها هو الطاهر شرقاوى، بسبب عمله وسكنه فى وسط البلد، وبالتالى لا يستطيع أى شخص من سكان الحدود، هانى ومحمود يسكنان مدينة الشروق، المرور أو الاقتراب من وسط البلد إلا بعد استئذانه".
يملك كل أفراد المجموعة حكايات عن الطاهر، لكن حكاية أبوزيد الأثيرة هى أنه تخلى عن كونه نباتياً لأجله، يعلق: "رغم محاولات طارق هاشم المستمرة معه وإغراءه بجميع أنواع الحيوانات البرية والبحرية، ومطاعم وسط البلد بمختلف مستوياتها، إلا أنه لم يفلح، وفى شهر رمضان، 2003 تقريباً، وكنت أعمل وقتها فى مكتب صحيفة الشرق الأوسط بالمهندسين، كان يتصل بى معظم الشهر ليدعونى للإفطار فى بيته، وكنت أقطع شارع جامعة الدول العربية مشياً ثم شارع ناهيا لأصل إلى بيته فى بولاق الدكرور، وأجده قد طبخ لى خصيصاً ما يتناقض مع نباتيته المفرطة".
فى أى يوم تمر بعد الساعة الثالثة عصراً على "مقهى الحرية" ستجد طاهر يجلس هناك، وفى الغالب ستجد معه كماً كبيراً من الأفلام لدرجة أنك ستظنه قرصاناً، وهذه فرصة ليحكى أبوزيد أن طاهر كان بوابتهم الوحيدة لسنوات طويلة على السينما الأوروبية، وعبر طرقه السرية شاهدوا جميعأً السينما الإيرانية والأفغانية واليوغسلافية والتشيكية والإفريقية، والأوروبية بالطبع، ويمكن التأريخ لهذا الأمر بتطور الكمبيوتر ذاته، ففى البداية كانوا يذهبون إليه بالهاردات بعد انتزاعها من الأجهزة، ثم اتجه إلى نسخ الأفلام على الأسطوانات المدمجة ثم الفلاشات، ثم الهاردات الخارجية، كان يوزع الأفلام يمينا وشمالاً كملك متوّج على عرشه.
يحكى أبوزيد: "من الممكن أن أؤرخ لصداقة مجموعتنا بالمقاهى التى جلسنا عليها، بدءاً من التكعيبة، مروراً بمقهى عم صالح، والأخير حين اكتشفنا أن اسمه: كافيتريا حسن، كما أقول فى قصيدة لى من ديوان (طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء) قررنا أن نغادره إلى البورصة، ثم قادنا طاهر إلى سوق الحميدية التى ظلت لفترة طويلة مقرنا الرسمى، ثم  انتقلنا إلى (الحرية)، وأظن أن وليام، نادل المقهى، يعاملنا بشكل آدمى خوفاً من الطاهر".
قرأ أبوزيد ذلك التعريف للصداقة على "فيسبوك"، أنها "غيابك عن شخص ما فترة ثم عودتك لاستئناف ما كنت تتحدث عنه، كأنك لم تغب"، يعلق: "أعتقد أن هذا التعريف ينطبق على مجموعتنا تماماً، فهناك أصدقاء يأتون ويرحلون بسبب انشغالات الحياة، لكن بمجرد عودتهم يأخذون مقاعدهم وسطنا كأنهم لم يغادروا يوماً، مثل محمد شكر وزيان وزيرى. هذا التعريف ينطبق أيضاً على أعضاء المجموعة الدائمين، فقد ينشغل محمد الفخرانى فترة طويلة فى رواية ولا نراه، وقد ينغمس محمود فهمى فى العمل لشهرين، وقد يغيب هانى عبد المريد لظروف ما، لكن بمجرد اتصال واحد تنعقد الجلسة ونستأنف ما كان من قبل. أعتقد أن هذا الأمر ينطبق علىَّ بشكل كبير، فقد سافرت خارج مصر مرتين، فى المرة الأولى غبت ثلاثة أعوام تقريباً، وفى المرة الثانية غبت عامين، وعندما عدت فى المرتين سحبت مقعداً وجلست واستأنفت غالباً نفس الجملة التى كنت أتحدث فيها من قبل. لم أشعر أننى غبت يوماً، ولا أعتقد أنهم شعروا بذلك أيضاً".
خلال العامين الأخيرين، لم يتحدث أبوزيد مع الطاهر سوى مرتين، أو ثلاث، ومع ذلك لا يعتقد أن صداقتهما تأثرت: "لكن ما أعتقده أن تكوينى النفسى يشبه تكوين الطاهر الذى لا يعترف بالاتصالات الهاتفية أو المحادثة عبر مواقع التواصل الاجتماعى. أعتقد لأن مفهوم الصداقة لدى كلينا، ولدى المجموعة كلها، أعمق وأكبر من ذلك. إذ يتحول مع الوقت إلى مفهوم مقارب لمفهوم البيت، فأنت من الممكن أن تسافر أو تغيب لكنك عائد إليه حتماً، ولا تشعر بالألفة إلا فى هذا المكان ومع هؤلاء الأشخاص، حتى لو كررتم الكلام ذاته أكثر من مرة، وحتى لو ضحكتم على النكات نفسها، وحتى لو اختلفتم. أعتقد أن الصداقة هى ذلك البيت الذى ينتظرك فى النهاية".
.........
*نشر في أخبار الأدب

01‏/03‏/2019

لماذا يكره الناشرون الشَّعر؟


يمكنني أن أروي لك عشرات التجارب، لشاعرات وشعراء، من أجيال مختلفة، داخوا "السبع دوخات" بدواوينهم بحثاً عن ناشر يحترم "معنى الشعر" ويقبل بنشر نتاجهم، وفي النهاية، إما استسلموا لمقتضيات السوق، أو فضلوا عتمة الأدراج المغلقة على عتمة الكذب على أنفسهم باسم النشر.
هنا يمكنني أن أًقسّم لك  دور النشر في تعاملها مع الشعر إلى ثلاثة أقسام. الأول: وهي دور النشر التي أعلنت أنها لن تنشر الشعر أبداً، حتى لو عاد أحمد بك شوقي من الموت وكتب لهم خصيصاً. والثانية: هي التي تنشر الشعر على استحياء، وهذه يندرج تحتها أقسام أخرى، أولاها التي تعلن أن هذا العام لن يكون للشعر، وإنما سيكون لأي فرع آخر، رفعاً للحرج عن نفسها، وإغلاقاً للباب في وجه الشعراء المتطفلين. والثانية: هي التي توافق على نشر الشعر، وترحب بالشعراء المساكين وتحتفي بهم، لكنها تنقل الدواوين من عتمة أدراج الشعراء إلى عتمة أدراجها هي. وهكذا يذهب الديوان في رحلة لا يعلم الشعر متى يعود منها، وهل سيقابله قطاع طرق أم لا، وهل سيبصر النور في النهاية أم سيظل "رهين المحبسين/ الدرجين"، وهذه إجابة لا يملك أحد أبداً إجابتها.
والثالثة: هي التي تنشر لعدد محدود من الشعراء، وتختارهم بإحدي طريقتين. الأولى أن يكون أحد "شعراء الدار"، وهذا يتطلب في كل الأحوال أن يكون له رصيده الشخصي عند صاحب دار النشر، والرصيد الشخصي هنا لا علاقة له بجودة الشعر من عدمها، وإنما رصيد محبة ومال أيضاً. الطريقة الثانية: هي دور النشر التي تنشر نوعاً معيناً من الشعر الذي يعرفه قارئه، وهذا لا يعني أيضاً أنها تختار أجود الشعر، وإنما تختار أكثره مبيعاً، وصياحاً، وصخباً، وجلباً للطوابير في معارض الكتاب، وتصاحب مؤلفه هالة من القنوات الفضائية والمهرجانات الشعرية العربية، والألقاب الحلمنتيشية.
هل تهت مني؟ هل تعبت؟ انتظر، لم أحكِ لك بعد عن القسم الثالث من دور النشر، وهي التي تنشر الشعر فعلاً، كل الشعر إن شئت الدقة، وتتفاخر بذلك، لكنها تفعل ذلك بمقابل مادي كبير ـ وهذا لا ضير فيه ـ فالعقد شريعة المتعاقدين كما تعلم ـ لكن ما الذي يأخذه الشاعر في المقابل؟
هنا يمكن أن أروي لك حكايات أخرى عن شعراء يبحثون عن دواوينهم بنظارة شارلوك هولمز المكبرة في المكتبات ولا يجدونها، وحكايات عن شاعرات يخجلن من إظهار دواوينهن لأن دار النشر لم تكلف خاطرها وتراجع الأخطاء المطبعية، وحكايات عن آخرين اكتشفوا أن دار النشر لم تطبع سوى مائتي نسخة فقط من الكتاب، وحكايات عن ناشرين بعد أن اطمأنوا أنهم أخذوا ثمن طباعة الديوان وثمن أرباحهم لم يكلفوا أنفسهم بإخراج ما طبعوه من المخازن.
لم أحدثك طبعاً عن نشر الشعر في هيئات النشر الحكومية، لكن يمكن أن أفعل بعد ثلاث سنوات، ووقتها لن يكون ديوانك الذي ستقدمه لإحدى الهيئتين الآن، قد صدر بعد، فلا تتعجل هذه النقطة.
ربما تتشارك بعض أنواع الإبداع الأخرى من قصة ومسرح، مع الشعر هذه الهموم، لكن في النهاية يبدو لي الشعر ـ الذي نطنطن أنه ديوان العرب ـ هو المستهدف الأكبر، ولو سألت أي صاحب دار نشر، سيقول لك إن "الشعر لا يبيع". والناشر هنا يتحدث كصاحب مال ـ وهذا حقه بالمناسبة ـ لكن أليس من واجبه أيضاً أن يروّج لبضاعته، أن يسوّق الدواوين التي طبعها، وساعتها "سيبيع الشعر"، وسيجد قارئه.
لا أطالب الناشر أن يخسر أمواله كي ينشر الشعر، فهو يأخذ "ثمن الطباعة" من الشاعر قبل الطباعة تحت مسمى "المشاركة" على أية حال، لكن ما أود أن أقوله هو أن "تجارة النشر" تختلف عن أية تجارة أخرى، لأن عليها دوراً تنويرياً وتثقيفياً، وهذا يعني عبئاً إضافياً على الجميع أن يساهم في تحمله، إذا أردنا أن نتحدث عن "سوق نشر" جادة، ودور ثقافي نبحث عنه بلا جدوى.
.................