عندما تدخل أحد فروع هيئة الكتاب، لا بد أنك
ستجد ما تبقى من كتب "مكتبة الأسرة" في ركن جانبي، لكني أشك في أنك ستجد
فيها جديداً أو ما يشجعك على قراءته وشرائه.
يجب الاعتراف إذن، أن مشروع "مكتبة
الأسرة" الذي بدأ في العام 1994 تحت شعار "القراءة للجميع"، وساعد
في تشكيل وجدان وثقافة جيل عبر سنوات طوالٍ، قد انتهى. سواء كان قد مات
إكلينيكياً، أو تم قتله عن عمد، أو على أقل تقدير ينتظر رصاصة الرحمة.
ربما كانت مشكلة المشروع أنه ارتبط منذ نشأته
باسم سوزان مبارك، لكن عند إطلاقه لم تكن تلك مشكلة بالمرّة، بل كان دافعاً
للوزارات والمؤسسات الرسمية والأهلية للمشاركة في دعمه والتبرع له وتسويقه وإنجاحه،
وبالفعل نجح المشروع ودخلت الكتب تقريباً كل بيت، واستطاع الجميع أن يقرأ روائع
الأدب العربي والفكر والفلسفة وتراث الإنسانية بأرخص الأسعار.
ولا بد من الاعتراف أيضاً أن المشروع في
سنواته الأخيرة قبل 2011، شابته المجاملات والشللية، لكن ظل ـ رغم ذلك ـ محافظاً
على تقديم وجبة دسمة من الكتب المهمة المؤسّسة، كما أن جزءاً من قوة دفعه بدأ
عندما قرر المسؤولون أن يجعلوه طوال العام وليس خلال فصل الصيف، فافتقد جزءاً من
زخمه، لكن المشكلة الحقيقية والكبرى بدأت عقب ثورة يناير 2011، حيث تعامل الجميع
معه باعتباره ابن الخطيئة، فسحب المتبرعون تمويلاتهم وبدأ الداعمون في التبرؤ منه
لارتباطه باسم سوزان مبارك، وكأنها هي التي كانت تؤلّف الكتب التي تنشرها
"مكتبة الأسرة"، وجرت محاولة تغيير اسمه إلى "مكتبة الثورة
المصرية" من وزير الثقافة في العام 2013، ولم ينظر أحد إلى المشروع باعتباره
مشروعاً ثقافياً مهماً للأسرة المصرية ينشر الوعي والثقافة والتنوير ويساعد في
التكوين الثقافي للأجيال الجديدة، ويعود بالنفع على القراء والمؤلفين وحتى على دور
النشر الخاصة التي كانت تساهم بكتبها بمقابل مُرضٍ، يساعد في دفع حركة النشر
للأمام.
بحسب أرقام التصريحات الرسمية، فإن تمويل
المشروع من التبرعات تراجع من 22 مليون جنيه عام 2010 إلى مليونين فقط، ويبدو أن
هيئة الكتاب ليست مهتمة بالبحث عن تمويل
أو زيادته، بل يبدو لي إنها تساهم في وأد المشروع على مهلٍ، عن طريق اختيارات سيئة
للكتب من إصدارات الهيئات الحكومية القديمة ـ أحياناً تضع أغلفة مكتبة الأسرة على
كتب قديمة من مخازنها ـ بالإضافة إلى أسوأ توزيع ممكن فمعظمها لا يصل المحافظاتـ
بعد أن كنت تجد الكتب لدى كل بائع صحف في شوارع مصرـ إلى أغلفة تتبارى على لقب
الأسوأ، إلى طبعات محدودة جداً، ومع ذلك لم يعد يشتريها أحد.
لعلّ من الواجب هنا التذكير، أن شهور الصيف كانت
تتحول إلى مهرجان حقيقي للقراءة، وكنت أقابل العشرات يومياً لدى باعة الرصيف وفي
مكتبات الهيئة ممن ينتظرون كتاباً معيناً من مكتبة الأسرة أو يحجزون جزءاً من أحد
الموسوعات الشهيرة التي أصدرتها مثل "قصة الحضارة"، أو "وصف
مصر"، أو "مصر القديمة"، وغيرها الكثير.
ولعل من المهم أيضاً الإشارة إلى أن الدولة،
أواخر التسعينيات، استخدمت مشروع "مكتبة الأسرة" في حربها ضد الإرهاب،
عبر إصدار كتب تتبنى قضية التنوير والهوية المصرية، ولعل هذا المغزى تحديداً هو ما
يغيب عن وزارة الثقافة الآن، فإذا كان المسؤولون طوال الوقت يتحدثون عن أهمية "القوة
الناعمة"، وعن "الحرب على الإرهاب"، فلا بد أنهم يدركون أن القوة
الناعمة لا تعني تقييد النشر وإعدام مشروع ثقافي كبير مهم كهذا، فضلاً عن
"النشر بالقطّارة" في الهيئات الحكومية لمجرد التباهي بعدد العناوين، و"الحرب
على الإرهاب"، لا تعني التعامل معه عسكرياً فقط، فالفكرة لا تنتهي برصاصة، بل
بفكرة أخرى تبزها وتنتصر عليها.
القضية لم تعد في استمرار المشروع من عدمه،
المشكلة في فشله، أو إفشاله. إفشاله عن عمد أو جهل. وكلاهما أسوأ من الآخر. ولا
مشكلة لديّ في إيقاف "مكتبة الأسرة" إذا كان المسؤولون في هيئة الكتاب
يرون أن الغرض منها قد انتهى، لكن يجب أولاً أن يقولوا ما هو البديل الذي يقدمونه؟
ألا يكفي أن سلاسل الكتب والمجلات التي تصدرها الهيئات الثقافية الحكومية ـ لم تعد
تصدر إلا لماماً؟، ألا يكفي أنها تطبع مائتي نسخة فقط من الكتاب؟ ألا يكفي أن
أسعارها لم تعد في متناول القارئ البسيط، وهو ما أفقدها جزءاً من دورها؟، ألا يكفي
سعي مسؤوليها لـ"التوفير" بتقليل طباعة الكتب، لأن هذا هو الاتجاه
السائد الآن؟
لا أدري حقاً، لماذا نتفاخر باحتفاظنا بالجثة،
إذا كنا نتعامل مع ميت؟ أليس الدفن أكثر إنسانية ورحمة؟
*نشر في "المصري اليوم"