أمّاية... وانتي بترحي بالرحي.. علي مفارق ضحي.. وحدك وبتعددي علي كل حاجة حلوة مفقودة... ماتنسينيش يامّه في عدودة.. عدودة من أقدم خيوط سودا في توب الحزن... لا تولولي فيها ولا تهللي.. وحطي فيها اسم واحد مات، كان صاحبي يامّه.. واسمه ناجي العلي.
بهذه الأبيات يفتتح عبدالرحمن الأبنودي ديوانه الشهير «الموت علي الأسفلت» بها أيضا يرثي أشهر رسام كاريكارتير عربي ناجي العلي لم يكن «ناجي» مجرد رسام كاريكاتير يدبج كل يوم «نكتة» ليضحك القراء مثلما نري في غالبية مجلاتنا وجرائدنا من رسامينا، كان ناجي مناضلا بالأساس يتلقي التهديد تلو التهديد بالقتل ويوم هددوه بحرق أصابعه رد عليهم قائلا: «يا عمي لو قطعوا أصابع يدي سأرسم بأصابع قدمي» حتي تعريفه لفن الكاريكاتير لم يكن اعتياديا كان هكذا يجب علي الرسام أن يحك عقل القارئ، فن الكاريكارتير يجب أن يكون عدوانيا علي موضوعاته علي وجه الخصوص قد يكون صديقا حقيقيا مع الذين يتعاملون معه لكنه صديق مشاكس لا يؤمن جانبه.
وتحول ناجي العلي بعد اغتياله في صيف 1987 في لندن وهو في طريقه إلي عمله متأبطا ورقة إلي ما يشبه لعنة الفراعنة، وكأنه لم يكتف بأن ظل طوال حياته مطاردا متنقلا، لاجئا كبيرا يبحث عن الوطن في عيني طفله الصغير «حنظلة» الذي يطل من لوحاته. هذه اللعنة تمثلت في الهجوم الشرس الذي تعرض له عاطف الطيب والفنان نور الشريف عقب قيامهما بإخراج وتمثيل فيلم «ناجي العلي» واستبعادهما المتعمد. تمثلت اللعنة في وقف الكتاب الذي ألفه شاكر النابلسي بعنوان «أكله الذئب، السير الذاتية للرسام ناجي العلي» وتناول فيه قصة اغتياله الشهيرة ثم منع رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات إعادة طبع الكتاب مرة أخري عام 1999 وتوجيهه تحذيرا إلي المؤسسة المصدرة للكتاب «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» من إعادة طبع الكتاب وإلا سيدفع بالسلطة الفلسطينية إلي منع إصداراتها ومطبوعاتها من الدخول إلي المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية والتوقف عن دفع المستحقات التي بذمة السلطة لصالحها، هذه اللعنة تمثلت في غضب الأنظمة العربية بشتي مللها وأنواعها علي ناجي واعتباره مارقا، لكنه لم يكن مارقا في الحقيقة، لم يكن كذلك أبدا وإنما كان يقول «أنا أرسم ولا أكتب أحجبة ولا أحرق بخورا، وإذا قيل إن ريشتي مبضع جراح، أكون حققت ما حلمت به طويلا، كما أنني لست مهرجا ولست شاعر قبيلة، أي قبيلة أنا أرسم لفلسطين».
< عين الحلوة
ولد ناجي سليم حسين العلي في قرية «مباركة»، ولد حيث كانت ولادة المسيح بين طبريا والناصرة، في الشجرة بالجليل الفلسطيني الأعلي عام 1936 لكنه لم يمكث فيها كثيرا وخرج منها عام 1948 مع الاجتياح الإسرائيلي، ومع سقوط الجيوش العربية وعدم قدرتها علي الدفاع عن فلسطين، ومنذ ذلك الحين لم يعرف ناجي الاستقرار حيث عاش لجوءه الأول في مخيم عين الحلوة بلبنان الذي أقامه المهاجرون الفلسطينيون وفيه نشأ ناجي الذي لم ينل من تعليمه النظامي غير المرحلة الابتدائية فقط في مدرسة «اتحاد الكنائس المسيحية» وحاول أن ينتظم في عام 1959 في أكاديمية أليكس بطرس للفنون في بيروت لتعلم فن الرسم إلا أنه لم يفلح في ذلك حيث كان طالبا مسجلا لمدة عام ولكن لم يداوم ولم ينتظم فيها أكثر من شهرين بسبب اعتقاله ست مرات خلال هذه السنة لأسباب سياسية تعود إلي انتمائه لفكر «حركة القوميين العرب» وتوزيع منشوراتهم والاشتراك في مظاهراتهم ومهرجاناتهم والرسم ضد السلطة علي جدران المخيم، واتجه ناجي صغيرا نظرا للظروف المعيشية إلي العمل كعامل بسيط في بساتين الحمضيات والزيتون، ولكن وجده عملا مملا وآثر أن يرحل إلي طرابلس ليتعلم مهنة يكتسب منها قوت يومه فالتحق بمدرسة مهنية هناك وتعلم الميكانيكا ومنها سافر للسعودية ليعمل ميكانيكيا لمدة عامين.
لكن حب ناجي للرسم بدأ معه قبل ذلك بدأ مبكرا جدا وشهدت جدران مخيم عين الحلوة محاولاته الأولي حيث كان يقضي أوقات فراغه في الرسم العبثي علي قصاصات من أوراق الكراسات المدرسية وإذا لم تتوفر له هذه القصاصات يرسم علي الجدران بشظايا الفحم الخشبي وشيئا فشيئا بدأ وعيه السياسي يتشكل من خلال علاقته بمحيطه البائس فوجد نفسه مجبرا علي رسم هموم شعبه ومأساته وأول محاولة شبه جادة في عالم الكاريكاتير لناجي العلي في الرسم الساخر كانت في السجن وكان الرسم بمثابة لغته التنفيسية الوحيدة له بين القضبان وكان يرسم علي جدران الزنزانة وأحيانا علي ورق الأكياس التي تتوافر له من خلال إدخال بعض الحاجات الغذائية.
أستاذه الأول والذي أطلق جذوته الإبداعية إلي العالم هو الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي اكتشفه بالمصادفة حين كان كنفاني يقوم بجولة من جولاته الدورية في مخيم عين الحلوة وهناك شاهد لوحات ناجي العلي وأعجب بها وأخذ معه ثلاث لوحات منها بين أوراقه التقطها من علي الجدار الذي يعلق ناجي لوحاته عليه ومضي وبعد فترة وجيزة شاهد ناجي لوحاته منشورة في جريدة «الحرية» التي يترأس تحريرها كنفاني، ويقول ناجي العلي عن هذه الفترة: المرحوم غسان كنفاني هو الذي اكتشفني وهو الذي قدمني للإعلام ففي إحدي زياراته الدورية لمخيم عين الحلوة وقع علي ثلاثة رسوم وضعها تحت إبطه ومضي وبعد فترة فوجئت بها منشورة في مجلة «الحرية» ولم تصدق عيناي ما رأتا ولا كذلك قلبي الذي أخذ يتراقص فرحا بهذا الإنجاز الكبير، شعرت بعد ذلك أن غسان كنفاني هو أب من نوع استثنائي خاص، أب للإبداع يكتشفه ويقدمه ويشجعه علي المضي في المغامرة.
وواصل كنفاني تبنيه لناجي العلي فتوسط له عام 1963 للعمل في مجلة «الطليعة الكويتية» لسان حال القوميين العرب في الكويت آنذاك وقد استقبل ناجي هذا العمل بحفاوة وتحولت «الطليعة» إلي همه الأساسي التي من خلالها يمارس هوايته ويقول رأيه وأصبحت منبره ا لأسبوعي لمخاطبة قرائه ثم تنقل ناجي بعد ذلك إلي عدد من المراحل الفنية ارتبطت بجرائد عربية شهيرة بدأها بمرحلة جريدة «السفير» اللبنانية «1974 ـ1976» و«1978 ـ 1983» ومرحلة جريدة «القبس» الكويتية «1983 ـ 1985» وأخيرا مرحلة جريدة «القبس الدولية» «1985 ـ 1987» والتي قضاها بلندن بعد أن ضغطت منظمة التحرير ودولة خليجية أخري علي الحكومة الكويتية لإخراج العلي من أراضيها وهو الإبعاد الذي اعتبر فيما بعد مقدمة لتصفيته جسديا.
< خبزنا اليومي
أتذكر ناجي العلي فأتذكر علي الفور القصيدة الشهيرة لبيرم التونسي «ليه يا بنفسج بتنهج وانت زهر حزين» هو الرجل الضاحك، رغم آلامه، هو الذي يفجر كاريكارتيره الدموع في الأعين بدلا من الضحكات، أتذكره فأتذكر مقولة محمود درويش عنه: «أغبطه كل صباح، أو قل إنه هو الذي صار يحدد مناخ صباحي، كأنه فنجان القهوة الأول يلتقط جوهر الساعة الرابعة والعشرين وعصارتها فيدلني علي اتجاه بوصلة المأساة وحركة الألم الجديد الذي سيعيد طعن قلبي، خط، خطان، ثلاثة ويعطينا مفكرة الوجع البشري، مخيف ورائع هذا الصعلوك الذي يصطاد الحقيقة بمهارة نادرة كأنه يعيد انتصار الضحية في أوج ذبحها وصمتها، إنه الحدس العظيم والتجربة المأساوية، فلسطيني واسع القلب، ضيق المكان سريع الصراخ وطافح بالطعنات وفي صحته تحولات المخيم.
ويقول درويش: «احذروا ناجي فالكون عنده أصغر من فلسطين، وفلسطين عنده المخيم أنه لا يأخذ المخيم إلي العالم ولكنه يأسر العالم في مخيم الفلسطيني ليفيق الاثنان معا، فهل يتحرر الأسير بأسره، ناجي لا يقول ذلك ناجي يقطر يدمر، ويفجر ودائما ما يتصبب أعداء».
هذا هو ناجي العلي.. أم ترانا في حاجة إلي معرفة ناجي العلي أكثر، ربما تبدو شخوصه التي اختارها علامة واضحة للوحاته أفضلمن يتحدث عنه. ومن ينسي الصبي الصغير حنظلة؟! الصبي الذي يقف ويعطينا ظهره ويداه مشتبكتان ينظر إلي كل هذا الظلم كل هذا القبح الذي تعج به الدنيا، قميصه مرقع، وشعره كأنه الشوك، كأنه الصبار الذي مرر حياتنا ومنحه اسمه «حنظلة».
ولد حنظلة لأول مرة في الكويت عام 1969 في السياسة الكويتية، ولم يطلب به ناجي الشهرة أو التميز عن باقي الفنانين بقدر ما طلب أن يحكي به عن نفسه، عن همومه عن لجوئه فحنظلة مثله أيضا ينتمي إلي مخيم عين الحلوة رسمه صبيا في العاشرة من عمره واختار أن يكون طفلا ليعبر عن الأمل الذي قد يكون قادما يحمل الوطن معه، وأسماه حنظلة ربما ليعبر عن المرارة التي نعيشها ويعيشها الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال وفي بداياته قدمه ناجي صبيا فتيا مقاتلا متفاعلا فتارة يكون شاعرا وتارة يكون جنديا وفي مستوي آخر فإنه في الفترة الأخيرة من حياة ناجي قدمه بصورة مغايرة تماما وذلك بعد حرب 73 فقد أدار حنظلة ظهره للقراء وتشابكت يداه الصغيرتان معا خلف ظهره.
لكن الأكيد أن حنظلة كان يعبر عن ناجي نفسه فقد خرج ناجي من مدينة الناصرة وهو في سن حنظلة وعاش تجربة المخيم وبدأ وعيه السياسي والحياتي يتفتح علي التوق إلي الحرية وحين قدمه للقراء قدمه علي أنه هويته ويعرفه بقوله «اسمي حنظلة» واسم أبي «مش ضروري»، أمي اسمها النكبة.. جنسيتي أنا مش فلسطيني، مش أردني، مش كويتي، مش مصري، مش حدا... إلخ.. باختصار معيش هوية ولا ناوي.. محسوبك إنسان عربي لهجته مصرية وفلسطينية وسودانية.. وما سبق ربما يبدو تعبيرا عن أفكار ناجي نفسه وليس أفكار حنظلة وحده.
من الشخصيات التي قدمها ناجي في لوحاته شخصية فاطمة الفلسطينية المكافحة والتي رسمها مستلقية علي ظهرها قرب قبة الصخرة وهي حبلي إلي حد الانفجار ومقيدة القدمين بأنبوب نفط.
< اغتيال
تذكروا جيدا يوم 29 أغسطس 1987 ففيه مات ناجي العلي فيه خرجت جميع المجلات العربية والأجنبية تنعيه وتبكي عليه ما عدا مجلة «الكرمل» التي كان من مؤسسيها فلم تذكر رحيله بكلمة.
لكن البداية لم تكن هكذا كانت حوالي الساعة الخامسة وثلاث عشرة دقيقة ظهر أربعاء يوم 22 يوليو 1987 حينما كان ناجي يتأبط رسومه متجها إلي مكان عمله في لندن حيث جريدة «القبس الدولية» كان ناجي يسير في شارع أكزويرت بليس، أ.س.دبليو 3، ثم مشي في شارع درايكوت أفتيو، ثم انطلق في شارع إيفز في وسط لندن حيث تقع مكاتب القبس، وروي أحد زملائه في الجريدة أنه رأي ناجي وهو يسير باتجاه المبني من نافذة غرفته المطلة علي الشارع حيث كان يتبع خطاه شاب شعره أسود وكثيف يرتدي سترة من نوع «الجينز».
لونها أزرق فاتح من طراز «دينيم» وبعد ذلك بثوان عدة سمع دوي نار نظر علي إثره من النافذة فوجد ناجي ملقي علي الأرض، في حين شاهد الشاب الذي كان يتعقبه يلوذ بالفرار إلي جهة مجهولة من شارع «إيفز» الضيق.
اخترقت الرصاصة صدغ ناجي الأيمن وخرجت من الأيسر، وسقط ناجي علي الأرض، ظلت دماؤه تنزف قبل نقله إلي المستشفي التي مكث بها 38 يوما يصارع الموت.. لكنه لم يستسلم للموت إلا بعد أن عرف صعوبة نقله إلي قبر والديه في مخيم الحلوة.. عندها استسلم للموت ورقد في القبر رقم 0230190 في لندن.
يموت ناجي العلي.. لكنه يترك خلفه 40 ألف كاريكاتير يسخر فيها من أنظمة الحكم العربية، ومن الوعود التي تمنحها أمريكا، ويترك حنظلة واقفا حافي القدمين يعطينا ظهره ويتطلع إلي الأفق لعله يري فجرا قارب علي الوصول ولعله يقرأ الأبنودي مرة أخري وهو يرثي صاحبه «أهلي ولا أهلك.. ولا أهلك ساعات أهلك، ماتحكيليش ع اللي قتلك مش حاخدلك تارك ، ما أملكش غير أحسدك خالص علي قتلك، قتيل في غربة بيفرق عن قتيل الدار، يا ماشي للنور ومش ماشي علي مهلك.. وإحنا خطاوينا يم الموت تجيب العار»