04‏/02‏/2010

محمد أبو زيد شاعرا ساخرا بمرارة



يسري عبد الله

تمثل قصيدة النثر أفقاً واعداً للشعرية العربية، فهي تتكئ على مواضعات رؤيوية وجمالية مائزة، لا تتسم بالثبات أو الركون، بل ثمة حال من التجدد المفضي إلى فعل «التخطي» المبتغى، ولذا فإن ثمة موجات جمالية متعددة تتخلق في داخلها، تعبر عن ثراء مشهدها حيناً، وعن تنوعها وخصوبتها واتسامها بما أسميه «حيوية الاختلاف» حيناً آخر. ولعل ديوان «طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر الى السماء» للشاعر المصري محمد أبو زيد، الصادر أخيراً عن دار «شرقيات» في القاهرة، يمثل استجابة جمالية لحيوية قصيدة النثر وأفقها الخصيب، ويعد تعبيراً دالاً على إمكان طرحها الهامش والمعيش عبر معالجة تقنية مغايرة. يحيلنا العنوان إلى تقنية مركزية داخل الديوان، وأعني بها التوظيف الدال للفنون البصرية، إذ يضعنا أمام إمكان واعد لتخيل صورة ضافية ذات ملامح بصرية تتجسد فيها الأشياء، حين يصير الطاعون، ذلك المرض الجرثومي الشهير، مضطجعاً واضعاً ساقاً فوق أخرى، ناظراً إلى السماء. غير أن هذه الصورة الكاريكاتورية الساخرة للطاعون، تبدو متواشجة مع نزوع تأويلي آخر، يكشف أننا لسنا أمام «طاعون» وحيد يهمّ بافتراسنا ضاحكاً، بل نحن أمام «طواعين» مختلفة تمتد لتحاصر كل حيواتنا: «في النوم/ أهرب من طاعون/ يحبو على الأرض/ طاعون في طرقات المستشفى/ طاعون في العناية المركزة/ في السوق/ في الحافلة/ في استراحات المسافرين /في حقائب الديناصورات الصغيرة» (ص 78). غير أن الطاعون هنا ليس كابوساً من الحصار الخانق فحسب، لكنه يصبح أحياناً وجهاً آخر لشاعر مأزوم أضحى «وحيداً وحيداً كملك الموت» (ص 82).

يتشكل الديوان من أربعة أقسام: كوبري ستانلي، عشيقة جيدة لدراكولا، كلمني شكراً، قاتل تسلسلي، وهي تتواشج في ما بينها، لتشكل بنية شعرية متجانسة تتكئ في جوهرها على اعتماد آلية السخرية لا بصفتها تقنية مركزية في الديوان فحسب، ولكن بصفتها أيضاً أداة ناجعة لرؤية العالم. وتنفتح أيضاً نصوص الديوان على الأفق الواعد للثـقافة البصـرية في نسـختها الراهنة، وهذا ما ستكشف عنه النصوص المختلفة في الديوان.

في قصيدة «لا أريد أن استيقظ ولو للحظة واحدة» ينفتح العنوان على أفق الحلم، الذي تتبنى فيه الذات الشاعرة خطاباً مسكوناً بالأمنيات، وبالاعتقاد الواهم في القدرة على تحقيقها: «بصرخة واحدة أُنزل المطر/ بإشارة من إصبعي الصغير / أوقف الحرب / بنظرة أبعد الموت عن أمي، وبابتسامة واحدة، واحدة فقط، سأزوّج العاشقات المنتظرات في المترو». (ص 11). ثم تنتهي القصيدة بما يفترض أنها تبدأ به في الخطاب العادي: «فقط لو تصدقونني». ولعل تأخير جملة الشرط هنا صنع الحد الفاصل بين ما يعرف بالخطاب العادي والخطاب الشعري، إذ صنع الشاعر محمد أبو زيد ما يعرف بالانحراف عن المسار المألوف في الخطاب، ما منح النص جماليته الخاصة.

تتكئ نصوص الديوان على حرية الانتقال بين المقاطع الشعرية، إذ ثمة ديناميكية حاضرة في متن القصائد، بدا التداعي الذي يغلب عليها متواشجاً معها، ويبدو هذا التداعي قرين العفوية حيناً، إذ لا روابط سببية بين الجمل الشعرية. في قصيدة «عبدالله البري يكره عبدالله البحري والجوي حائر بينهما»، لسنا أمام استيحاء لقص «ألف ليلة وليلة»، والعيش في إساره، بل نحن أمام نفس شعري راهن يعابث الأشياء القديمة، ويعيد تشكيلها جمالياً، وفق ذات شعرية لا ترى العالم وفق رؤية حدية له، فتحكي لنا مثلاً عن «دراكولا» الطيب، الذي لا يستعمل معجون الأسنان، وكأنه إيماء إلى إنسان واقعي يثير التعاطف والشفقة: «دراكولا الذي لا يستعمل معجون الأسنان / ويثير الشفقة / أكثر من طفل مصاب بالسكري / دراكولا الذي قبض على يدي في عنف وبكى / فيما تخترق صدره عصا الكمنجة / «أنت اللي هتغني يا منعم».

نرى في هذه القصيدة أيضاً توظيفاً دالاً لآلية السخرية، بدءاً من العنوان ذاته «والجوي حائر بينهما»، ونلمح الانتقال بين مستويات لغوية ودلالية مختلفة، فمن «الكنال» إلى «أنت اللي هتغني يا منعم»، إلى «شهريار الهارب» إلى «مريم» لنصبح أمام تجاور لدوال شعرية متنوعة تصبح مؤشرات على مستويات لغوية وثقافية متعددة داخل القصيدة. في قصيدة «أنا القبطان… لا، أنا السفينة…»، نلمس تماساً مع عوالم، تعد في جوهرها علامة على سياق ثقافي راهن، تحاول الذات الشاعرة صوغه جمالياً، ونلحظ في هذه القصيدة أننا أمام استهلال نصي بديع، يدخل فيه الشاعر متلقيه إلى أجواء نصه منذ السطر الأول: «كيف لا تعرفون الموت / كيف لا تحبون لون عينيه»، وكأنها قصيدة عن «الموت المشتهى». ويستخدم الشاعر الأسلوب الإنشائي في موضعين داخل القصيدة: «أيها البحارة الكسالى / أيتها المرأة الجميلة»، وينوع في الجمل الشعرية التالية لهما. ففي المرة الأولى يصبح «الأمر» آلية بلاغية للنفاذ إلى ما يريده بعد توظيف النداء: «أيها البحارة الكسالى / أحصوا عدد القتلى / امسحوا دمهم المتجلط فوق وجهي شدوا بقايا لحمهم من بين أسناني / ارموا عظامهم بعيداً عن مائدة إفطاري…». (ص 25). وتتواءم مع الاستخدام الأسلوبي السابق حالة التدفق الكامنة في المقطع. وفي المرة الثانية يعقب الأسلوب الإنشائي صيغة خبرية تتواءم مع توظيف آلية القص في هذا المقطع: «أيتها المرأة الجميلة / لقد قتلت حبيبك / ساومت على جثته المرتزقة / حطمت ألواحه أمام عينيه». (ص 25).

وكلا المقطعين – على رغم اختلافهما تقنياً ورؤيوياً – تملأه الذات الشاعرة بصخبها وعنفها وقلقها الدائم، وتوجسها المستمر، لنصبح أمام ذات شاعرة، متسائلة، لا تطرح خطاباً يدعي امتلاك العالم، واهماً بقدرته على خندقته في صور جاهزة، بل نصبح أمام شعرية تحاول القبض على لحظة إدهاش مبتغاة، تبدو متوهجة في نهاية القصيدة، عبر هذه الجملة المدهشة «حلوة هي الحياة / من غيركم». في «ثورة الشك» نصبح أمام عالم مسكون بالتساؤل لا التقرير والتنبؤ، إذ تصير «النجوم» كاميرات مراقبة، و «القمر» رجل أعمال قاسياً، فلا شيء حقيقياً، ولذا لم تعد الذات الشاعرة معنية إلا بتصديق ما تنفعل به، بل هي لم تعد تحب الحكماء.

تتجاور في قصيدة «حتى لا يعتقد الأولاد في روض الفرج أنني سأغتاب تنورة من شبرا» دوال متعددة منتمية إلى عوالم مختلفة: «الهناجر» جنكيز خان،/ ميرفت المقهورة/ شبرا»، واللافت أنها لا تحيا صراعاً في داخل النص، بل تحيا جدلاً خلاقاً في ما بينها. ثم يعرج الشاعر باحثاً عن «بردة البوصيري»، ويصوغ بعد ذلك عوالمه المسكونة بالتفصيلات الهامشية، إلى أن يستعيد جمله المتذرعة بمد حكمي شفيف، يفارق حكمة الأقدمين، ويختلف عنها: «الأفيال تحرس البحر/ والمدن الساحلية التي تتفرج / شوارعها ألسنة ثرثارة/ تفضح الخجلى والمريبين / ومدمني تناول الألغام كل صباح». (ص 40). ترتكز قصيدة «محاولة للتآمر على الملونين» على آلية البناء على المفردة، إذ تعتمد على مفردة «الأطفال» التي تصير بمثابة المبتدأ الذي يظل في احتياج دلالي وجمالي إلى خبر يتمم معناه. غير أن الحضور المتأخر للخبر، لم يكن سوى حيلة تقنية تتجه عبرها القصيدة، إلى أن تشكل علائقها الخاصة: «الأطفال الذين بلا ملامح / الذين يوجعون قلوبنا من شدة التأثر، ستناديهم أمهاتهم بأرقامهم»، وصولاً إلى نهاية هي أشبه بتمام المعنى: «لن تتخلى ملامحهم عن الكذب / حتى لو نفدت بطارياتهم».

لا يكسر الشاعر محمد أبو زيد في ديوانه «طاعون يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر الى السماء» أفق التوقع لدى المتلقي عبر نزع القداسة المدعاة عن اللغة فحسب، بل يتماسّ مع عوالم وسياقات ثقافية راهنة (الانترنت)، متماساً أيضاً مع الفنون البصرية المختلفة، وتحديداً السينما، واعياً آليات بناء قصيدته، هازئاً بالعالم من حوله، غير أنها السخرية المسكونة بمرارة القول وشعريته في آن واحد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة الحياة اللندنية


يكتب الشعر ليطعم به البحر


زيان وزيري

بداخله ولا ينفضه إلا شعره الجميل اذكر أني سمعت له قصيده عن الحزن ومدي الارتباط بين ذلك المخلوق والعشب الأخضر وأصبت بدهشة الموقف التي حددت لدي انطباع عن هذا الشخص إنه وحسب يعيش شاعر كتابة وسلوكا كان يلقي الشعر وأنا أنظر إليه وكأنه طائر لا يطلب منك إلا أن تسمعه كي تعينه علي نفض ذاك القفص المتناهي في احتوائنا وعندما تسمعه لن يراك وأنت تصفق له لأنه موكل بملاك لا يعلم إلا كتابة الشعر وإلقائه بمنتهي العذوبة بإخراج الكلمات من مناطقها الأصلية بارتباط وثيق مع لغته الجسدية الواعية بكل ما يقول لا يوجد انفصال بين شعره وجسده فبشعره الجميل يستطيع أن يحرك جسدك أيضا كما يقوم بتحريك أعضاءه الكامنة في جسده لا بد وأن تسمعه وهو يلقي (يا أيها المزمل) وعندما تسمعها لن تقول رأيك فيها لأنك وبمنتهي البساطة ستذهب في عالم جميل يقودك فيه ذاك الأمير صاحب الحروف الموكلة بتطبيب القلوب .

هل رأيته وهو يصارع ذاك الطاعون الذي اضمر عقولنا حتى انه ركب حصانه وامسك بقلمه ونظارته المصغرة والتي بها فقط يستطيع أن يقوم بافتراس الطاعون الذي يضع ساقا فوق الاخري وينظر للسماء وتركناه وحيدا علي جزيرته يصارعه حتى خرج إلينا بكتاب جميل يحمل رأس الطاعون وهو ينبض بالحياة ويقدمه إلينا بسلسلة تتكون من أربع جولات ليصل إلينا بالقاتل التسلسلي ويوهمنا انه اتخذ مقعده السلبي بفضيلة النوم يقول _ في النوم، أهرب من الطاعون، يحبوعلي الأرض، طاعون في طرقات المستشفي، طاعون في العناية المركزة، في السوق، في الحافلة، في استراحة المسافرين، في حقائب الديناصورات الصغيرة. سألته عن ماهية المراجع التي ذيل بها هذا الطاعون المقتول رد مقتضباً: بها تكونت ثقافتي، إذًا نحن أمام شاعر تكونت ثقافته بالقرآن الكريم، صحيح البخاري، النسبية لأينشتاين، الأعمال الكاملة لمارسيل خليفة وعمر خيرت، ماذا تنتظر إذًا من تلك التركيبية التي تؤلف ملاكا ليسحرك بكلماته التي غلف بها كتابه _ نحن أحباب الله، ودعنا كراريسنا في غفوة الظهر، وركبنا النهر دون أن يدري، دون أن يهتم آباؤنا بمقاعدنا الفارغة، أمام شباك بنت الجيران……. عندما صدر له (ثقب في الهواء بطول قامتي)، (قوم جلوس وحولهم ماء) وكتابه (مديح الغابة) كان لا بد أن يطل علينا بالديوان الجميل (طاعون يضع ساقا فوق الأخري وينظر للسماء) ليحملنا إلي عالمه الذي قام بتكوينه لنا ليقوض تلك الحياة التي نعاني من نموها علي تلك الحال ويرسم طريقا لقارئه يقوده من خلاله الي جزيرة الطاعون المقتول. شاعرنا الذي يحاول أن يتبرأ من كونه أميرا يقود حقبة المدعوين علي طاولته اللامتناهية يذكرنا بدور الساحر الطيب الذي يمسك عصا بيضاء يحركها نحواليمين فينبت عشبا اخضر ويحركها ناحية الشمال ليبعدنا عن مبارزة الطاعون ويمسك بعصاه ليطعم بها البحر المالح ليسقي بعذوبة شعره وتشرب كل الكائنات نعم إنه يكتب الشعر ليطعم به البحر وطينا فرصة الارتواء بعد معاناة مع النفس.

صديقي القارئ عندما تبدأ في قراءة هذا الشاعر فلا بد من فتح جميع نوافذك كي تتمكن من استقبال مفاجئات الكتابة وحينها فقط ستدرك أنك أمام حالم بدنيا لا تستمر بقوانيننا الوضعية يقول ..

ابتسموا في وجوه الأقزام

حتى يحلقوا في السماء

في اطراف طائراتهم الورقية

لوحوا لهم تضامنا معي

لونوا الفضاء حولهم بالتنهدات والأدعية

قولوا لهم أن الأرض لا تستحق

سنوات قربهم منها

ولا القرابين التي قدمت للمسلات الطويلة

عندما قرأت هذا النص الجميل علي مدونته (مزيكا حزايني شوية) وجدت نفسي أكتب له في تعليق علي تأثري بحلمه الجميل.

الشاعر الجميل محمد أبوزيد:- من اليوم سنرفع القبعات للأقزام وسنروي يوما ما قصة الديناصورات التي تشارك العصافير حبوب القمح - من أجلك فقط.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في ديوان العرب

"طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء" لمحمد أبو زيد الإنصات إلى روح الشعر وحرمته

محمد العشري

بعنوان لافت، وإهداء سردي من "الخلود" لميلان كونديرا، يفتتح محمد أبو زيد تجربته الشعرية الجديدة "طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء" الصادر حديثاً في القاهرة، لدى دار "شرقيات" للنشر. محاولة للدخول إلى رأس القارئ من خلال تفاصيل يومية بسيطة، تجعل الشعرية مطروحة ببساطة وتلقائية، وتمكّن هذا القارئ من التوحد معها، والتغني بها، لأنها تمسه من الداخل، وتدفعه إلى الدهشة، والرغبة في رؤية نفسه في مرآة الشعر، يقدمها الشاعر هنا، في: "كوبري ستانلي"، "عشيقة جيدة لدراكولا"، "كلمني شكراً"، و"قاتل تسلسلي".

تأتي قصائد المحتوى الأول: "كوبري ستانلي" محملة حساً عالياً، وولعاً لرصد الذات في علاقتها بالآخر، وتفاعلها مع ما حولها بكامل كيانها، من دون أن تتخلى تلك الذات عن بحثها الدؤوب ورغبتها في عبور الحد الفاصل بين الخيال والواقع، بتشكيل أسطوري يستفيد من "ألف ليلة وليلة"، بتكوينها التراثي، ودمجه في الصورة العصرية، التي يعيشها الشاعر، وينغمس فيها عن وعي: "بصرخة واحدة أنزل المطر/ بإشارة من إصبعي الصغيرة / أوقف الحرب / بنظرة أبعد الموت عن أمي/ وبابتسامة واحدة،/ واحدة فقط/ سأزوج العاشقات/ المنتظرات في المترو".

التأرجح بين الكوني والذاتي يمنح الشاعر مساحة أوسع للبوح بتلقائية، والإمساك بمفردات يومية من مرحلة الطفولة، تُشكل ثراءً ومخزوناً حكائياً فريداً: "الحياة تبدأ حيث تذهب الطائرات الورقية/ حيث يضيء اللؤلؤ أسنان سارة/ ويبتسم النرجس/ في كُمّ سعاد".

تلك الروح التي تحلق في فضاء القصائد كملاك ينثر الورد على أرواح متعبة، تظل على ثباتها في مواجهة الواقع بكل سطوته، وجبروته، ودحضه للأحلام، وللحياة: "ابتسامات كثيرة على يسار فمي/ أخبئها عن عيونكم/ لكنني في الخريف القادم... سأسقي الزهور على قبري/ مياها غازية". وقبل أن ينهي أبو زيد قصائد الجزء الأول من المجموعة، يأتي بقصيدة ميلودرامية، تعبر عن حال الشتات المسيطرة على الذات، ورغبتها في تجاوز ذاتيتها، من أجل قيمة ما، تدفعها الى مواصلة الحياة، حتى لو كانت تلك القيمة هي القتال: "القتلى يذهبون للحرب/ حتى يلوحوا لكاميرات التلفزيون/ وهم يرقصون هربا من دوار البحر / ففي الحرب فقط/ يشعرون بآدميتهم".

يمكن القارئ أن يلاحظ سيطرة الحالة الوجدانية على المحتوي الثاني من قصائد المجموعة، بعدما مرت الذات الشاعرة بمرحلة إختبار لمدى صلابتها، في تحمل ضربات متتالية من دون أن تتخلى عن لحظات تقتات فيها الفرح، وتسعى الى العشق: "عيناك /تشبهان حقل جدي/ لكنه منذ سبع عجاف/ توقف عن الإخضرار/ وصدرك المزاحم للهواء /نسيته على طاولة المقهى المرتفعة وانصرفت، / ويدي في يدك". تمرّتلك اللحظات الإنسانية المرهفة، تفاصيل حياتية تؤدي إلى التشبع، من دون اللجوء إلى فلسفة ما، لتفسير تلك الحالة: "اليقين: خيانة الشك /الشك خيانة اليقين/ لذا/ لم أعد أحب الحكماء".

وحين تتخطى الذات تلك الحالة الوجدانية، وتبتعد المسافات بين العاشقين، تظهر الهوة السحيقة في عدم التواصل، أولى علامات الالتفاف على الداخل، والتقوقع في عزلة تامة، وذلك ما يظهر جلياً في قصائد المحتوى الثالث من المجموعة: "كل شيء يضيع يا محمد/ ينسل نقطة نقطة". ولا ينسى محمد أبو زيد وهو في ألقه الشعري، وقبضه على روح قصيدة النثر، أن يتمسك بشعريته، واختياره الفني في الشكل الملائم لها، وإصراره على المضي فيها، في الوقت الذي تجد فيه تلك القصيدة النثرية معارضة صارخة من أجيال شعرية تخلت عن شعريتها، وصلبتها على المقاعد الوثيرة، وأعمدة الصحافة الإستهلاكية، وباتت بلا خلق، وعلى رغم ذلك تصرّ على محاربة كل الأجيال الجديدة من أجل الحصول على إمارة زائفة: "فقط أريد أن أنبه/ إلى أن هذه القصيدة لها حرمتها/ فلا ترصوا الورد بجانب الجثث/ في غرفة المعيشة".

وهو بذلك يؤكد أن الحداثة الشعرية ترفض القوالب الشعرية الجاهزة، وتنتهج نهجاً خاصاً في بناء هيكلها، وسلّمها الموسيقي، بعيداً عن مبررات النقاد، مما يجعله يصادق روح الشعر، ويدعوها إلى بيته، ويترك لها حرية أن تنطلق من دون أن يقيد أجنحتها بدبابيس التحنيط: "مساء الخير يا أمي، أنا محمد، ابنك، الذي يظل ينكش فوق الورق كدجاجة، ينتهى القلم، فأكتب بأصابعي، بذراعي، بأطرافي، بجسدي، أنتهي ولا تنتهي الكتابة، أنا محمد يا أمي، يا أمهات المؤمنين". ذلك ملمح مهم، يسعى إلى تأكيده محمد أبو زيد في قصائد الجزء الرابع من المجموعة.هذه بعض ملامح شعرية ناعمة، تهدر بصخب إذا ما أحسنّا الإنصات إلى موسيقاها، في المجموعة الشعرية المبتكرة "طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء" لمحمد أبو زيد بداية من العنوان، ومروراً بالمتن، وانتهاء بإضافة أسماء المراجع التي ساهمت في بناء ذلك المشروع الشعري، مثل: "القرآن الكريم"، "صحيح البخاري"، "ألف ليلة وليلة"، وغيرها. وهو بذلك يضيف لمحة شعرية مضيئة إلى تجربته الشعرية، ومجموعاته الأربع السابقة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في النهار اللبنانية

'طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء' لمحمد أبو زيد: قصيدة النثر محتفية بالرموز الروحية الخاصة



محمود قرني

كثيرا ما شغلتني فكرة 'إنسانية النص الإبداعي' ويبدو أن هذه الخصوصية أكثر إلحاحا في الشعر دون غيره من الفنون، ربما لأن إرثه التاريخي ـ كأول الفنون ـ يتصل اتصالا وثيقا بالأنشطة الروحية للأماكن بما يحمله ذلك من خصوصية وفرادة، وربما أيضا باعتباره حالة رمزية من حالات إعادة انتاج الماضي، فهو يتغذى على فكرة اللا زمنية بكوابيسها المبهجة أحيانا والمقبضة في معظم الأحايين.

ففي بداية التسعينيات، مع موجة الصعود الواسع لقصيدة النثر، كان ثمة مواصفات محددة، على الشاعر أن يسير بمحاذاتها، لا يسبقها، ربما كانت تسبقه دائما.

لذلك ورثنا ـ بسرعة البرق ـ أطنانا من الدواوين التي كتبتها إرادات فردية انتهت إلى صوت واحد، يغرد أو يتخبط داخل النمط نفسه، أقصد القفص الجميل الذي أخذناه عن سوزان برنار ومدرسة 'شعر'، ولم يؤثر في إرادة هذا الصوت، الذي تحول الى صوت جماعي، قيام كل شاعر بكتابة قصائده في خلوته المعتادة، مع كائناته الخاصة وحكاياته المنفردة، فالاندفاع الى الانتظام في الصفوف كان يمثل رغبة محمومة، رغم أنه فعل من أفعال التكيف التي يقاتل الشعر من أجل الخروج على طوقها.

كان استثمار المرجعية الأوروبية، واستحلاب النصوص المؤثرة فيها، ثمنا لا بد لكثيرين أن يدفعوه، وكانت نداءات حارقة ـ هنا وهناك ـ حول حتمية التخلص من الخصوصية المحلية، باعتبارها جزءا من ميراث الدولة القومية التي شارفت على الرحيل، او رحلت بالفعل، باختصار هي ميراث الثوار الذين مضى عهدهم، هؤلاء الملاعين الذين لا يكفون عن استبطان الغناء لأوطانهم.

ويبدو اننا نكتشف الآن حجم الجريمة التي ارتكبناها ـ نحن الشعراء ـ في حق أهلنا، ديوان محمد أبو زيد يقول ذلك، ربما لم تكن جريمة كاملة ومدبرة تمتلك أركانها، إنها أحيانا جريمة جهل بسيط وأحيانا جريمة جهل مركب، وفي معظم الأحايين كانت تمثل الطريق الخطأ الى الشعر، فقد قرأنا شعراء يكتبون عن المطبخ الأمريكي والطائرات الورقية على شواطئ الراينو وهم يسخرون من عطن حاراتهم وأوجاع أمهاتهم، ويشترون وردات حمراء بلاستيكية من أجل حبيبات سيأتين حتما من وراء الأطلسي.

وعندما قرأت ديوان 'قوم جلوس حولهم ماء' للشاعر محمد أبو زيد، وهو الديوان الوحيد الذي قرأته له قبل ديوانه الجديد، أدركت انني لم اكن وحيدا، ثمة انسيابات شعرية جارفة، عبر لغة شديدة الطزاجة، تتشكل في مناخات سحرية، تكتظ بروائع الأم والإخوة والفقر والأصدقاء والتسكع في الشوارع والنضال من أجل القيم الرفيعة، التي كانت موضع سخرية ما بعد الحداثة.

كان الديوان شارة مخلصة تقول للأنبياء الكذبة: كفوا عن هرائكم، لقد أخطأتم الطريق إلى الشعر.

منذ ذلك الحين شعرت أنني أنتمي لهذا الشاعر، وأنه ينتمي إليّ، فربما كانت أمه هي أمي، وربما كانت القرى الدارسة التي ينعيها هي قراي، باختصار احتضنت شعرية محمد ابو زيد بفرح غامر، وأسعدني بقدر ما أمضني ألمه الإنساني النبيل، الذي يفيض عن حاجة الديوان، واستشعرت قيمة جديدة تتشكل في ظلال ما ناضل كثيرون من أجله.

وها هو الشاعر يفاجئنا بديوانه الجديد 'طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء 'ليستكمل حلقة جديدة من تجربته، حيث تتشكل عناصر أساسية، وتتجسد بشكل أكثر جلاء، فثمة رغبة في التهكم والسخرية، رغبة في امتهان الخوف، إنه يضع كل الطواطم التي تخيفه على المنضدة، يحولها الى أجساد من لحم ودم، ليقتلها، ربما لذلك يتبدى الموت والعنف كأعلى مفردتين في الديوان، يتجلى ذلك منذ الإهداء المأخوذ عن 'الخلود' لـ'كونديرا' انتهاء بآخر قصائد الديوان 'مشنقة متحفزة كمن يمارس عمله لأول مرة'.

لنتأمل عنفه المتواتر عندما يقول: 'افرحوا بالفيضان، ارقصوا للعواصف ابعدوا البكاء عن النار'، من قصيدة 'سأقابل الله، وأشكوكم له'، وقوله 'أمي زرعت فوق قبري صبارة قبل أن تموت ثم حكت لي حكاية للنوم من تسعة أجزاء، عن دراكولا الطيب، دراكولا الذي لايستعمل معجون الأسنان' 'من قصيدة عبدالله البري يكره عبدالله البحري، والجوى حائر بينهما'، ثم يتحدث عن الموت بإنسانية مفرطة كأنه رفيق ويقول: كيف لا تعرفون الموت، كيف لا تحبون لون عينيه، ولا تتركون اولادكم يلعبون معه في الظهيرة، أنا الذي أراه كل يوم، أستند على يده في صعود السلم' من قصيدة 'أنا القبطان' لا، أنا السفينة'، ثم يصل القارئ مع شاعره الى اقصى حالات تَشَيُّئه في قصيدة قصيرة ودالة هي 'محاولة للتآمر على الملونين'، يقول محمد أبو زيد: 'الأطفال الذين بلا ملامح الذين يوجعون قلوبنا من شدة التأثر ـ ستناديهم أمهاتهم بأرقامهم ـ تعالى يا ولد يا ثلاثة عشر ـ اذهب يا ولد يا أربعة عشر'.

إذن بقي لدينا عالم مفرط في موته وعنفه الطقوسي، العالم الذي تبكي يده اليسرى ليلا على ما فعلته يده اليمنى نهارا، يذكر إدوارد سعيد أنه قبل عقود قليلة كانت تعتبر النشاطات القومية والإنسانية في مجتمعات أصيلة وعريضة مناهضة لنشاط المستعمر، وكانت الامبراطورية البريطانية تعتبر ان المقاومين في مصر والهند حفنة من الضباط الطامحين الصاعدين المدعومين ببعض المثقفين الذي ولعوا بقراءة أعمال لامارتين، فما الذي يفعله الشاعر إذن في مواجهة مثل هذه التفكيكات العنصرية سوى السخرية من الموت ومواجهة العنف بالكثير من الامتهان؟

إن الشاعر هنا يستعيد لامارتين نفسه، لا يستعيد موته حتى لو تكللت صورته بالكثير من الرومانسية، يتجلى ذلك في تلك السخرية الأعظم والأشد عمقا والموجهة للشاعر نفسه، والشعر معه، هذا الهيكل المقدس الذي تعامل مع نفسه دائما باعتباره الشكل الأعلى للكلام، يقول الشاعر: 'هذا ميعاد مناسب لتحطيم الشعراء وتعليق الفأس على كتف كبيرهم ـ كبيرهم الذي سيبص من بين الغبار ويدمع كآنسة في آخر عربات العمر ـ يتمخط في ذيل جلبابه' هذه صورة الشاعر في قصيدة 'إنهم يأكلون البنجر فوق السلالم' لقد تحول الشعر هنا الى وسيلة للمعرفة، وسيلة لإعادة صياغة مصير الإنسان الذي مل من بلاغة القرن العشرين ومن إحاطته رموزه بامتلاك المصير الإنساني، ومن ثم امتلاك الشكل الأعلى للطوطمية، أو عبادة البلاغة بمعناها اللغوي والإنساني معا، إن فعل السخرية من الشاعر يبدو للوهلة الأولى مسرفا في الإضحاك، لكنه يبدو كذلك تحولا مفاهيميا وإنسانيا يدفع الشاعر لركل كل قداسة حتى لو كانت تصب في حجرة، حاملة تناقضات الماضي، وهو في الإجمال فعل تحرير كامل، وهي رسالة الشعر الأولى كما يراها السرياليون، والشاعر هنا لا يصدر عن إرادة فردية، فجميعنا يحتاج الى السخرية من الشاعر، ذلك الملعون الآبق الذي غرر بنا وبالتاريخ واحتكر الكهانة، لذلك كان يقول لوتريامون 'إن الشعر يجب أن يصدر عن الناس جميعا لأنه بالأساس يدافع عن صفائه كما يدافع الإنسان عن حريته'، إن الرغبة هنا تكمن في حتمية نزع القداسة عن هذه الطواطم ـ وثمة فرصة لأن يستعيد الإنسان صوته عبر صوت الشاعر، ذلك الذي بات 'يتمخط في ذيل جلبابه'.

إن الشعر هنا يلخص موقفه في أنه مطالب بأكثر من أي وقت مضى، بأن يدافع عن الإنسان كما دافع لامارتين، والمتنبي، والغزالي، وابن حزم، وبودلير، وسان جون بيرس، وأبي حيان، وابن خلدون'، والكلمة وحدها يمكن فهم إمكاناتها وغفران تطاولاتها وتحولاتها في الروح.

الكلمة لدى الشاعر هنا غصن شائك يثور على فصاحة القرن وكثرة أحاجيه والتباساته، حيث تحولت الحياة الإنسانية الى نشاز تدعمه أصوات المدافع ويكلله العار.

إن مناخات الإدانة التي تكلل قصائد الديوان تتجاوز ـ عبر وعي الشاعر ـ كونها موقفا أيديولوجيا، بل هي تنأى بعيدا عن قراءة من هذا النوع، لذلك حققت شرطها الإنساني الأوسع، أقصد تأكيد المعنى الذي أشرت إليه في المقدمة، الذي يخلص إلى ضرورة إمعان النزر في مقولة ما بعد الحداثة، التي تنتهي الى كيفية ومعنى 'تدويل الرمز المحلي' بالمعنى السياسي، و'الخفض من شأن الخطاب الأيديولوجي' في تجليه الثقافي. كيف يمكن تحقيق هذه المزاوجة إذن؟

أي كيف يكون النص مفتوحا على الجرح الإنساني بعامة، دون أن يقمع أو يستهين بالرموز الروحية التي ينتمي إليها، أظن أن عددا من القصائد القصيرة والفاتنة التي يضمها الديوان تجيبنا على هذا السؤال.

'كلمني شكرا' هو الجزء الذي تتخلق بداخله هذه القصائد، حيث تتبدى استجابة الشاعر ما بعد الحداثي لرمزه الثقافي الجديد 'الإنترنت' الذي يتحول من كونه رمزا لثورة العقل الى كونه تجليا رمزيا لإنسانية الفعل المعرفي، ولنتأمل تلك العلاقة العميقة التي تنشأ عبر كابلات الألياف الضوئية بين الشاعر وبين 'رايان' في قصيدة 'أنا رايان من أمريكا' حيث يقول: 'أبي ميت ـ أمي مصابة بالشلل ـ أختي ماتت منتحرة ـ جدتي تخيفني بحكايات قبل النوم' ثم تنتهي القصيدة بين 'رايان' والشاعر على هذا النحو 'عيد ميلاد سعيد يا رايان ـ قلبي مصفاة للفرح يا محمد ـ أنا لا أفهم الفرنسية يا رايان ـ وأنا قعيدة يا محمد ـ كيف أنهي القصيدة إذن؟'، ثم يتبعها الشاعر بقصيدة أكثر إيلاما هي 'رايان مصابة بالـ'CANCER' يقول الشاعر: 'كيف يغني مرضى السرطان في أعياد الميلاد؟ كيف يرقص ذوو الأقدام المقطوعة ـ وهم لا يحفظون اللحن؟' ثم نكتشف في بقية القصيدة تهاوي جسد رايان أمام السرطان، ويتوالى بتر أعضائها ومع ذلك لا زالت تملك قوة الفرح وقوة الأمل عندما تقول 'غدا سأعود آدمية ـ لي ساق وأصدقاء ـ وبيت لا يشبه المستشفى'.

ثم تأتي قصيدة 'رايان تقابل نيكولاس كيدج في غرفة الإنعاش' وتتوالد عبرها ذكريات طفلية حميمة تبدو تحت تأثير المخـــدر، وتنتهي القصيدة بالشاعر الذي يدافع وحيدا عن رايان وهو يقول 'العالم سيئ جدا في الخارج يا رايان ـ وأنا لم أعد أحتمل ـ أحاصر اعداءك ـ أقتلهم في القصائد فحسب ـ أغسلهم بالسل والدرن والكوليرا ـ ثم ألقي بجثثهم من القطار ـ القطار الذي يشق الظلام بي وحيدا ـ ولا يعرف وجهته'.

إن تلك العلاقة التي تتفتق بهذه الروحية قادرة على صنع مشتركات إنسانية مفرطة رغم تباعد المسافات واختلاف اللغات والثقافات والمرجعيات، في وقت ظل الشاعر فيه حفيا بخصوصيته الروحية، بقيت ملامح الرمز الثقافي والمكاني شاخصة وبقيت اللغة الشعرية الرهيفة والهشة، وبقيت كذلك قوة الشاعر المهزوم المتألم، الذي يملك خياله فحسب، فقد جرده عنف العالم من مدركاته الطبيعية، لذلك فإن عداءه مع هذا العالم هو نوع من الاستبصار لإعادة صياغة في إطار الحلم الإنساني القديم بتحقيق العدل والحرية بعيدا عن الأيديولوجيا، وخطابات السياسة وشراكها وتلفيقاتها، وهكذا تتحقق أعلى قيمة الإنسانية في النص الشعري بحيث تصبح ماسة بكل الألوان والأجناس دون أدنى فروق.

بقي لدي ملاحظة حول الديوان الخامس للشاعر محمد أبو زيد، إنه حقا الديوان الخامس الذي بين أيدينا، أي أن شاعرنا ـ كما تنبئ بطاقة تعريفه ـ يمضي لا زال في عامه الثامن والعشرين وقد أصدر خمسة دواوين، ولست أعرف ما إذا كان هذا العدد من الدواوين يكفي للتوقف وإعادة التأمل من جديد، لقد صنعت مثل هذه الأعداد من الدواوين شعراء كباراً، فلماذا يتعجل الشاعر أمره، فلو أن الشاعر توقف من دواوينه الأولى أمام الكثير من إنشائيته وتقريريته لاستبعد كثيرا من قصائده.

فثمة قصائد تحتاج فعلا الى جرأة، تلك القصائد التي يتغلب فيها ضمير المخاطب، وتحضر الذات بثقل كبير، يعزز النزوع الفردي، وتتكاثر الغنائية حتى تقع بقصيدتها في الرطانة، مما يدفع الى الاعتقاد بضرورة الاقصاء والاستبعاد، يبدو ذلك في العديد من قصائد الديوان.

وفي ديوان 'قوم جلوس'، هذا فضلا عن الإسراف أحيانا في مجاوزة الصورة الشعرية حد الاحتمال وأحيانا حد الاستهلاك مثل: صراخ منزوع الدسم، التراب فقط يلعب دور الشبكة في كرة اليد، السلم نايلو ف نايلو، درجاته متساوية كشواهد القبور، صوت محمد عبدالمطلب الذي يغني للهوتميل، أكاد أشك في أم كلثوم لأني أكاد أشك فيك وأنت مني، أنت جميلة كمقبرة رجل مؤمن'، ومع ذلك تظل شعرية محمد أبو زيد واحدة من الشعريات الفريدة وسط شعراء جيله، بل وسط شعراء قصيدة النثر بحيث يمكننا أن نعول على مشروع شعري قادم لا محالة.

وبالقطع سوف يكون الطريق لإنضاج ما هو نيئ في هذه التجربة واضحا وملموسا لدى الشاعر الموهوب، حتى لو التبست بعض المضامين أو الأشكال، ومن منا لا يلتبس عليه الشعر، ولعلي أذكر نفسي في الختام بقول أندريه جيد 'يحدث ذلك دائما، فالدافع الخفي لأفعالنا يفلت منا' فمن يعيدنا الى الصواب؟!.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر في جريدة القدس العربي