
إلى صديقي القاص محمد حسين بكر
الذي يرقد في المستشفى مريضا .. حزينا
الكتابة الآن أصبحت هي الشقيقة للكبرى للرخ والعنقاء والخل الوفي ،أصبحت رابع المستحيلات ,أصبح الكاتب كالساحر المسكين الذي فقد كل قدراته ، ولا يعرف كيف يرضي متفرجيه ، حتى الساذجين منهم ، أصبح على الكاتب الشاب أن يصنه معجزة مع كل نص جديد يكتبه ,أصبحت فكرة الكتابة في حد ذاتها أمرا مستغربا ، ودائما يقفز سؤال في عيون من تخبرهم بأنك تكتب " لماذا " ، وفي ظل طغيان سطوة المادة ، وانعدام القارئ ، الذي يكاد أن يتوقف عن قراءة الجرائد ، وليس الأدب ، وغياب الصفحات الثقافية في الجرائد ، وغياب المتابعة النقدية ، وغياب النشر ، وتسلط إعلام الفيديو كليب ، وغياب المشروع الوطني ، وتدني الثقافة العامة ، والبحث عن لقمة العيش ، والتسلط الذي تمارسه أجهزة الدولة الثقافية والأمنية ، يصبح وجود الكاتب ممارسا محفوفا بالمخاطر ، فكيف يوجد في مجتمع يرفضه ، ولا يقبل إنتاجه .
لا بد أنك تذكر أن وزير دفاع هتلر هو الذي قال عندما أسمع كلمة مثقف أتحسس مسدسي ، هذا يا صديقي يحدث الآن ، أصبحت وزارة الثقافة ، والمجتمع من بعدها يردد هذا , أصبح الكاتب الشاب مطاردا ، منزو في مكان لا يسمعه فيه أحد ولا يراه أحد ، الكتابة الآن أصبحت كالمعجزة ، وليس بعيدا أن تبحث عمن كان يكتبوا منذ سنوات معك فتجدهم قد هجروا مهنة الكتابة ، التي أصبحت بالنسبة لهم رفاهية ، لا تحتملها قلوبهم المجهدة ، ولا ظروفهم البائسة ، وتجدهم انخرطوا في مهن مختلفة بعيدة عن عملهم.
مشكلة الجيل الحالي أنه ورث أيديولوجيات فكرية سابقة ، أصبح عليه أن يتعامل معها ، مع أن هذه الأيديولوجيات السابقة ، تدعي التمرد على شقيقات كبريات لها سبقنها ، وبالتالي أصبح من يكتب عليه أن يتمرد على ماذا ، ليس هذا مهما ، المهم أن يتمرد .
أقول لك يا صديقي ، لو كان الأخ دون كيشوت حيا فلا بد أنه كان سينضم طوعا إلى جيل الشباب ، يحارب معهم طواحين الهواء ، خاصة بعد أن نجحت أجيال سابقة ، بجدارة ، في تفريغ الأدب من مضمونه ، واختصرته في تهاويم ، وبعد أن نجحت وزارة الثقافة في إدخال بقية المثقفين في " حظيرتها " طمعا في سفر للخارج أو منحة تفرغ ، أو جائزة صغيرة .
الأجيال التي سبقتنا حين ولدت وجدت منابر ثقافية مختلفة لها ، كانت هناك مجلات ثقافية مختلفة ، وسلاسل إبداعية مختلفة ،كان هنا كنظام في الدولة يهتم بالإبداع ، وكانت هناك حركة ثقافية مستقلة تهتم بالمثقفين والكتاب الشباب ، أما عندما ظهرنا نحن فلا توجد على الساحة إلا مجلتين لا يقرأهما أحد ، تخيل مجلتين شهريتين ، لآلاف المبدعين في مصر بأقاليمها ، أما السلاسل الإبداعية فتحولت إلى عزب أو شقق مفروشة بالتعبير العامي ، في هيئة الكتاب سلسلة تشرف عليها سيدة ، لا ينشر فيها إلا المعارف والأصدقاء ، أما سلسلة هيئة قصور الثقافة ، فقد نجحت الحكومة الفاشية في القضاء عليها ، وأصبح على جيلنا أن يبحث عن مكان للنشر آخر ، ويكون الحل هو أن ينشر على حسابه ، فكيف يفعل هذا وهو لا يجد عمله ، إذن إما أن يفعل كالمراهقات ويخبئ ما كتبه في درجه ، او أن يتوقف عن الكتابة حتى يريح وزارة الثقافة ويستريح .
جيلنا الذي يبحث عن اسم له ، مثل التسعينيات ، والثمانينات ، يخوض حربين أولاهما من أجل لقمة العيش ، الثانية من اجل نشر قصة أو قصيدة لن يقرأها أحد في مجلة لن تبيع ، جيلنا ما زال يكتب حتى يجدوا له اسما كالأجيال التي سبقته أو حتى إشعار آخر .
لكني مع ذلك لست يائسا ، أرى أن جيلنا مع شدة لطمات الحياة له أصبح أكثر وعيا ، استفاد من التجارب السابقة له مع وزارة الثقافة ، فقرر أن يصدر كتبه على حسابه ، حتى لو كان سيدفع فيها ثمن كوب شايه وسيجارته الوحيدة ، ألا ترى معي أن نشر الشباب على حسابهم أصبح ظاهرة لافتة ، استطاع جيلنا التخلص من كل الأيديولوجيات السابقة ، وبدأ يكتب ذاته ، مشاكله ، حكايات بلاده الحقيقية ، تجاوز كل التهاويم الكبرى التي صدعونا بها كثيرا ، تخلص من نظريات النقد الكبرى وبدأ بكتب كتابة حقيقية دون خوف من نقاد أصبحوا مع الزمن مثل خيال المآتة ليس أكثر ، تسألني ماذا سيفعل جيلنا ، أجيبك لا أعرف ، لكن عليك أن تنتظره .