حوار: أسامة فاروق
يكتب محمد أبوزيد فى «أثر النبي» روايته الأولى التى أعاد طباعتها مؤخرا عن بطل مشغول بالطيران، بالتحرر والانعتاق، لكنه عوضا عن ذلك لا يحلم إلا بكوابيس السقوط وبأن قدميه مقيدتان بالأرض، بطل لا تغادره الوحدة فى أكثر الأماكن ازدحاما بالبشر، يخاف ألا يجد حضنا فى المنزل، أو مدرجا فى الجامعة، أو مكتبا للعمل، أو مقعدا يريح عليه ظهره بين أصدقائه فى المقهى، يخاف حتى ألا يجد قبرا يستقر فيه.
يهرب من وحدته فى قريته إلى حجرة ضيقة فى ناهيا، ومنها إلى دار السلام، بحثاً عمن يشاركونه همومه ويحلمون أحلامه، فلم يجد إلا بيتا للمغتربين بالغورية يضم غرباء أمثاله، نماذج للجيل الذى «تغرب آباؤه فى مدارس ومزارع ومستشفيات المغرب العربى والخليج، وعادوا ليشتروا شققا ويبنوا بيوتا فى قراهم، سقطت فى الزلزال أو غرقت فى السيول، أو نصبت عليهم شركات التوظيف وسرقت تحويشة العمر»، الجيل الذى نشأ مع سقوط الشعارات الكبرى وانتهاء حلم الوحدة العربية، ثم تنامى سيطرة الجماعات المتطرفة. الجيل الذى شاهد الدبابات الأمريكية فى قلب بغداد، وتغير العالم من حوله، فاستوطن اليأس قلبه وتجمدت أحلامه فى ركود مقبض.
يجلس بطل الرواية التى كُتبت مطلع الألفية فى ميدان التحرير متخيلا الناس الذين مروا على الميدان منذ 50 عاما، متسائلا عما تبقى من أفراحهم وأحزانهم وأحلامهم وما حاربوا من أجله، ثم يصبح هو نفسه بوابه زمنية على فترة أخرى نراقب من خلالها الآن أثر هذا الجيل ومسار أحلامه.
بعض الكتاب لا يحبون تذكر تجارب البدايات. الواضح أنك لست من هؤلاء بدليل إعادتك لنشر «أثر النبي» روايتك الأولى.. ما دوافع إعادة نشر الرواية الآن؟ صحيح ليس للحكايات تاريخ صلاحية لكن الحكاية تبدو الآن بعد كل التغييرات التى جرت وكأنها من زمن آخر، زمن قديم. تحمل مخاوف وحيرة وأسئلة شاب قديم أيضا.
الحكم الحقيقى على الفن لا يأتى من القراء ولا النقاد، بل من الزمن، والكاتب لا يقدم نصه الأدبى لأنه يصلح لزمانه فقط، أو يتوجه إلى شريحة عمرية معينة فى وقت محدد، ولو فعل هذا فإن ما يقدمه لن يرقى حتى للأدب الخفيف، فقيمة الأدب الحقيقية فى قدرته على تقديم إضافة فى كل زمن يُقرأ فيه، ولهذا السبب ما زلنا نقرأ شكسبير وديكنز وأورويل وحتى هيرودوت، ما زلنا نندهش ونحن نقرأ امرؤ القيس وعنترة والمتنبي، أعمالهم تعبر عن واقعهم بالطبع لكنها عابرة أيضاً للزمن، وهذا هو سمت الأدب الحقيقي، لا أقصد أنى أقارن نفسى بهؤلاء، لكنى أقصد أن الأدب ليس له تاريخ انتهاء صلاحية، وأن على الكاتب أن يحدد لحظة كتابة نصه، من هو الجمهور الذى يستهدفه، هل هم أصدقاؤه وحواريوه، أم جمهور الندوات والجامعات، أم جمهور لم يولد بعد.
بالنسبة لرواية «أثر النبي»، فهناك عدة أسباب لإعادة طبعها، أولها أن دار شرقيات التى صدرت عنها الطبعة الأولى من الرواية لم تعد موجودة للأسف، وبالتالى فالرواية نفسها غير متاحة للقارئ، وقد سعدت بترحيب دار الشروق بإعادة طبعها مجدداً، ثانى الأسباب أن الرواية لاقت صدى نقدياً جيداً وقت صدورها، ووصلت للقائمة القصيرة فى إحدى الجوائز المهمة، السبب الثالث أن الرواية رغم مرور 14 عاماً على طبعتها الأولى ما زالت صالحة للقراءة، خاصة أنها تبدو لى شهادة على زمن لم يعد موجوداً، وأصبحت فى حكم التاريخ بالنسبة للجيل القارئ الآن الذى ربما يكون فى أوائل عشرنياته، كما أنها تؤرخ للحظة مفصلية فى تاريخ الأمة العربية، وهى الاحتلال الأمريكى للعراق 2003 والتى لم يعد ما بعدها يشبه ما كان قبلها، السبب الرابع والأهم بالنسبة لي، أنها جزء مهم من تجربتي، فهى روايتى الأولى واللبنة الأساسية فى بناء عالمى السردى إذا جاز لى أن أقول ذلك، وهى لا تنفصل عنه من هذا المنطلق، وإن كانت تختلف فى تقنية الكتابة عن الروايتين التاليتين، وأرى أنه من المهم أن يطلع القارئ على هذا التحول، والذى له أسبابه النقدية لا ريب.
الرواية تبدو فى قراءة أخرى حكاية كملايين الحكايات التى ضغطت وكانت سببا فى كل ما جرى فى 2011 أو مقدمه له على أقل تقدير.. كيف ترى المسألة؟
لا أعتقد أن النظر للرواية على أنها حكاية من ملايين الحكايات التى ضغطت من أجل 2011 صحيحاً، لأننى لم أكتبها بهذا الغرض، أكثر من 70 % من الرواية انتهيت منه عام 2003، وفى 2010، أكملتها ودفعت بها للنشر، كما أن النظر لها باعتبارها كذلك ظلم للأدب بشكل عام، لأنك بهذا الشكل ستعتبر كل ما كتب قبل حرب أكتوبر 1973، وكل ما كتب قبل ثورة يوليو 1952 مجرد حكايات ضاغطة، ما أظنه أن لكل عمل أدبى طريقته فى التعبير وشخصيته المستقلة، التى لا يمكن جمعها مع عمل آخر، إلا لو كنت تقدم قراءة سوسيولوجية للأدب فى مرحلة زمنية معينة.
وفى ظنى أن رواياتنا القديمة تشبه هر شرودنغر، حية وميته فى الآن نفسه، موجودة وغير موجودة فى الوقت ذاته، وعدم وجودها فى المكتبات لا يعنى أنها لم تخلق، بل إنها حجزت مساحتها فى حيز المكان والزمان وتحتاج أن تتحرر.
أريد أن أتحدث عما سبق هذه الرواية بالتحديد. الهواجس والمخاوف والقراءات وربما الحيرة بينها وبين الشعر خصوصا وأنها جاءت بعد 5 دواوين تقريبا.. ما الذى تتذكره من تلك الفترة؟
أعتبر نفسى شاعراً، وقدمت نفسى كشاعر، لكنى أكتب السرد منذ زمن طويل، وهناك قصص قصيرة منشورة لى فى صحف ومجلات مختلفة منذ عام 1999، أى قبل أن أصدر ديوانى الأول بأربع سنوات، ومن الطريف أن ديوانى الأول هو ديوانى الرابع، كان من المفترض أن يكون ديوانى الأول تفعيلياً، وقد قدمته بالفعل لهيئة الكتاب فى سلسلة «إشراقات أدبية» وقتها بمقدمة للناقدة الكبيرة الأستاذة فريدة النقاش، ثم سحبت الديوان ولم أنشره بعد أن بدأت أكتب قصيدة النثر، وبالمناسبة ديوانى «أمطار مرت من هنا» الذى فاز بجائزة سعاد الصباح فى تلك السنوات، كان من الشعر التفعيلى أيضاً، ولم أنشره.
ثم قدمت ديواناً بالعامية المصرية إلى سلسلة «إبداعات» عام 2000، وقبل صدور الديوان بعدة أشهر طلبت من إدارة النشر تغيير الديوان بديوانى الأول «ثقب فى الهواء بطول قامتي»، ولم أنشر ديوان العامية أبداً، كما أن «أثر النبي» نفسها كنت قد كتبت جزءا كبيرا منها قبل صدور ديوانى الأول، وفزت بجائزة يحيى حقى فى الرواية من المجلس الأعلى للثقافة فى فترة سابقة وكنت ما زلت طالباً فى الجامعة.
ما أقصده أنه كان يمكن النظر لى الآن باعتبارى شاعر تفعيلة، أو شاعر عامية، أو روائياً، لكنى اخترت أن يكون كتابى الأول «قصيدة نثر»، وأن يعرفنى القارئ بهذه الصفة، وهذا لا يعنى أننى لا أكتب سواه.
ما أعنيه من هذا كله أن الرواية لم تأت بعد 5 دواوين، بل جاءت قبل هذه الدواوين، والفترة التى كتبت فيها الرواية كانت فترة قاتمة سياسياً، كانت مصر خارجة من حربها مع الجماعات الراديكالية التى تركت أثراً بشكل كبير فى الصعيد والدلتا، وبدأ الحديث عن «مراجعات الجماعات الإسلامية» ومبادرة وقف العنف، كما شهدت تلك الفترة تراجعاً فى الحراك السياسى للتيارات اليسارية لا سيما مع انهيار الاتحاد السوفيتى قبل سنوات، كما أن فكرة القومية العربية التى نشأنا عليها وتربينا عليها كانت تتلاشى، وقد بدأ ذلك مع الاحتلال العراقى للكويت فى العام 1990، ثم جاء الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003، لتسقط معه كل السرديات التى تعلمناها التى تعلى من شأن العروبة، وكما قلت فى الرواية على لسان أحد الأبطال أن تلك اللحظة بدت بالنسبة لنا وقتها هى السقوط الأخير للعرب، كل الأفكار الكبرى التى قرأنا عنها فى الكتب كانت تتهاوى أمامنا.
وفى تلك اللحظة بدأت هزيمتنا كجيل. كنا فى أوائل العشرينيات، لكننا ولدنا كجيل مهزوم. ومن هنا جاء الربط فى نهاية الرواية بنكسة 1967، فإذا كانوا هم عاشوا هزيمة عسكرية، فإن هزيمتنا كانت هزيمة فكرية، مع تهاوى كل ما تعلمناه وفكرنا فيه وآمنا به، يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام.
ومع ذلك فالرواية ليست منشورا سياسياً، إنما تقدم أفكار وأحلام وهزائم شريحة من الشباب فى تلك الفترة، من مناطق جغرافية مختلفة، كل واحد منهم لديه هزائمه الشخصية، التى لا تنفصل بطبيعة الحال عن هزيمة المجتمع ككل.
يمكن من الرواية ملاحظة تغير أسلوبك وتطوره ودخول الفنتازيا بشكل كبير فى أعمالك التالية. كيف تختار موضوعاتك وكيف تحدد طريقة تناولها أو شكلها الفني؟
لم أقدم سوى ثلاث روايات، لكنى دائماً أفكر أننى لا أريد أن أقدم مجرد «حكاية»، وأهتم بـ «اللعبة» التى سيحتويها الكتاب، كما أهتم بمضمونه، فهما لا ينفصلان. وأعتقد أن هذا موجود حتى فى دواوينى الشعرية، وهو واضح أيضاً فى «أثر النبي»، التى حتى وإن جاءت واقعية تماماً، إلا أن هناك محاولات للتجريب فى طريقة كتابة بعض الفصول.
وهذا التطور ودخول الفانتازيا الذى تتحدث عنه أعتقد أنه شيء جيد، فهذا دليل على أن الكاتب لا يقف محلك سر، بل يسعى لتطوير نفسه وأدواته. وهو وإن كنت أعترف أنه جنوح بالكامل للتجريب وانحياز للعبة الكتابة، إلا أنه أيضاً نتاج لتطور تجربتي، ورؤيتى للعالم والكتابة، وقد يراه البعض يأساً من كل القضايا التى طرحتها الرواية الأولى، لكنى أظن أن محاولات التغيير لا تكون فقط بكتابة نصوص تصف الواقع، بل بحمل القارئ على جناح الخيال، وإطلاق عنان أفكاره، عندما نحلم بعالم أفضل نضعه على الورق، ووقتها سيكون بإمكاننا صناعته على أرض الواقع.
أردت أن أسألك إن كنت قد فكرت فى استكمالها بجزء آخر جديد يرصد اللحظة الحالية، لكن الحقيقة أنه يمكن اعتبار الروايتين التاليتين استكمالا لها بشكل ما! فالهواجس والمخاوف تكاد تتطابق وبالتحديد هاجس الوحدة رغم تبدل الشخصيات. أنت نفسك عززت هذه الفكرة فى رواية «عنكبوت» وقلت إنهما وجهان لعملة واحدة.. إلى أى حد تصح هذه القراءة ولماذا تظهر الوحدة بهذا الشكل الملح فى أعمالك؟
أعتقد أن الكاتب يكمل نصاً واحداً بدأه فى لحظة ما وينتهى منه عند آخر حياته، ويعيد كتابته بطرق مختلفة. بالنسبة لى أحب ممارسة هذه اللعبة فى الشعر، فى ديوان «سوداء وجميلة» (دار شرقيات ـ 2015) مثلاً، قمت بإعادة كتابة قصيدة نشرتها قبل عشر سنوات فى ديوان «مديح الغابة»، ووضعت القصيدتين متجاورتين، أفعل هذا أيضاً من خلال وجود شخصيات بعينها تتكرر فى كل عمل، مثل شخصية «ميرفت عبد العزيز» الموجودة فى 5 دواوين، وهى بطلة رواية «عنكبوت فى القلب».
أعتقد أن الأمر ذاته ينطبق على رواياتى الثلاث، يمكنك اعتبار بطل «أثر النبي» هو نفسه بطل رواية «عنكبوت فى القلب»، وهو ذاته بطل «ملحمة رأس الكلب»، لكن ربما فى عالم مواز، وكأن بطل الروايات الثلاث يحاول أن يجرب حياة جديدة فى رواية أخرى فى ميتافيرس لا متناهٍ، الروايات الثلاث تدور أحداثها فى منطقة «وسط البلد»، لكن إذا كانت الشوارع فى «أثر النبي» كما نألفها ونعرفها، فإنها فى «عنكبوت» تأخذ طابعا سحرياً، وفى «ملحمة رأس الكلب»، يتحرك البطل فى ممرات سرية وسحرية تحت وسط البلد، بل يجد شوارع لم ولن يدخلها أحد سواه.
ربما يدل هذا على أن أزمة البطل لم تُحل بعد، هو فى الروايات الثلاث، كمن يفتح أبواباً ليبحث عن ذاته، للإجابة عن أسئلته الوجودية والملحة، وبالمناسبة لم أعد مهتماً بإصلاح العالم كما كنت فى «أثر النبي»، لكن رغم ذلك لم يغب الواقع تماماً وقضاياه فى الروايتين الأخيرتين، ففى ملحمة رأس الكلب، ستجد حديثا عن الاحترار المناخي، عن مواقع التواصل الاجتماعي، أما الفصل الأخير من «عنكبوت فى القلب» فكان وصفاً لبعض أحداث ثورة يناير 2011. لم أقل هذا بشكل مباشر طبعا، لكن يمكن لبعض القراءات أن تصل لهذا.
بالنسبة للوحدة، أعتقد أنها ثيمة أساسية فى نصوصى عموما، الشعرية والسردية على حد سواء، ربما يعود هذا بسبب أننى عشت فترة طويلة من عمرى مغترباً، وربما تكون الوحدة والعزلة من السمات الأساسية لأى كاتب، فضلا عن أن هذه هى طبيعة المرحلة التى نعيشها، انظر إلى الناس فى الشارع، فى الحافلة، فى المقهى. كل شخص يكتفى بهاتفه عن العالم، سيوصلنا هذا إلى أن نسير بعد سنوات داخل صناديق زجاجية مغلقة لا يصلها شيء مما يحدث فى الخارج، حتى لو كان سقوط نيزك سيدمر الأرض.
بمناسبة الحديث عن «وسط البلد»، الحركة فى المدينة عنصر أساسى فى نصوصك. على أى أساس تختار الفضاء المكانى لأعمالك؟
كل رواياتى تدور فى منطقة وسط البلد، شوارعها، مقاهيها، ناسها. يمكن أن أقول إن كل الأماكن التى ذكرتها فى هذه الروايات اختبرتها بنفسي، بل حتى الأماكن السحرية غير الواقعية، تخيلتها هكذا، ويصل بى التوحد معها أحياناً لدرجة أن أظن أنها كانت هكذا.
واخترت «وسط البلد» تحديداً لأنى أعتبرها مكاناً آمناً فى هذه المدينة العملاقة التى يهرول الناس فى شوارعها ليلا ونهاراً، ولا تتوقف عن الضجيج، وتبدو كقدم ديناصور عملاق تدهس من يفكر للحظة فى التوقف. لكن الألفة التى تخلقها وسط البلد، تجعل جميع الغرباء ينتمون إليها.
يعني لاحظ أن جميع أبطال الروايات الثلاث، لا ينتمون لوسط البلد، بعضهم يسكن على أطرافها للاحتماء بها، جميعهم يلجأون إليها ليجدوا حلولاً للإشكاليات التى تعرقل حيواتهم، ليكسروا وحدتهم، ليشعروا بالدفء الإنساني.
وهنا تبدو وسط البلد كبيتهم الذى يرتاحون فيه. كما أنهم جميعاً لا يتوقفون عن المشي، يمشون مسافات طويلة، ربما هربا من شيء ما أو رغبة فى الوصول إلى شيء ما، وربما لأن حركة المشى تبقيهم أيضا على قيد الحياة، وتحررهم من وحدتهم التى تبقيهم فى أماكنهم ساكنين، فضلا عن أن هذا المشى هو الذى ينقل الأبطال إلى فضاءات مكانية مختلفة، ويغير مصائرهم.
فقدان الأم وحلم الطيران ثيمات تتكرر كثيرا فى كل أعمالك تقريبا. لماذا؟
أعتقد أنهما تنويعات مختلفة على ثيمة الوحدة، الطيران مثلا يشير للانعتاق والتحرر، حتى لو بدا فكرة رومانسية، لكنها محاولة للنظر من أعلى بعين الطائر، فى محاولة لفهم المشهد بأكمله، مع الوضع فى الاعتبار أن هذا المشهد الكامل قد يكون أكثر إرعاباً إذا ما رأيت كل هذا الخراب متجاوراً فى لوحة واحدة مفزعة.
الأفلام أيضا عنصر لا يكاد يغيب. لماذا تكثر من الإحالة للأفلام الأجنبية على وجه الخصوص وهل تتخوف من تأثير عدم معرفة المتلقى بما تشير إليه على استقباله للعمل وفهمه؟
أعتقد أن معرفات الثقافة اختلفت مع الزمن، الجيل الجديد يحصل على معلوماته الآن من البودكاست والتيك توك ويوتيوب. «دائرة المعارف البريطانية» التى تعد أدق وأشهر الموسوعات المعرفية استعاض الناس عنها بويكيبديا، ليست بالدقة نفسها بطبيعة الحال لكنى أحدثك عن الواقع، حتى الكتاب نفسه، أصبح مسموعاً وإلكترونياً، الصحافة الورقية تحتضر، فن المسرح يتراجع وتكتسح منصات الأفلام المدفوعة مثل نتفليكس وديزنى وأبل وغيرها، علمتنا أيام كورونا أنك تستطيع أن تقرأ وتشاهد وتزور المتاحف من هاتفك.
وما أعنيه أن المكونات الثقافية للفرد تغيرت، ولم يعد الكتاب مصدرها الوحيد، فهناك السينما والموسيقى والمسرح والغناء، كل هذه مكونات، تدخل فى بناء العمل الأدبي. وأعتقد أننى فعلت هذا حتى فى الشعر، ففى نهاية ديوان «طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء» الصادر عام 2009، ستجد قائمة بالمصادر، بينها أفلام وأغان وكتب وغيرها، وفى «ملحمة رأس الكلب» هناك استعارة لفن المانجا، وفن السيناريو.
وليس بالضرورة أن يعرف القارئ كل ما أشير إليه من إحالات، قد يكون ما أكتبه حافزاً له لقراءتها أو مشاهدتها أو الاستماع إليها، المهم ألا تكون عائقاً ـ فى حال جهله بها ـ أمام تلقيه للنص.
يقودنا هذا لمسألة الفهم أو التأويل أو ما وراء الحكايات، هناك من الكتاب من يزعجه عدم التقاط القارئ للمعانى التى يطرحها فى نصه.. ما هى رؤيتك لمسألة الفهم والتأويل؟
من يريد إيصال معنى واضح أو رسالة معينة فليكتب مقالاً، على النص الأدبى أن يرتدى قناعاً، وأن يحتمل التأويل، وليس بالضرورة أن يكون التأويل صحيحاً، فكل قارئ يأول النص بحسب تلقيه وثقافته، وقد يصل إلى شيء لم يرده الكاتب، وكلما زادت التأويلات أثبت النص الأدبى أنه يقوم بدوره، لأن هذا الـتأويل هو الذى يجعلنا نعيد قراءة النص أكثر من مرة، وفى كل مرة نشعر بفهم أكثر.
وهذا بالطبع لا يعنى أن يخلو النص من الإمتاع ومن تقديم حكاية، لأن جميع مستويات التلقى على مستوى الأهمية نفسه، وإذا فشل مستوى الإمتاع ستفسد غالبا بقية المستويات، ولا يعنى أيضاً أننى ملزم بتقديم كتالوج للقارئ يشرح له ما أردت قوله، ولا أن أقول له ابتسم هنا، أو اندهش هنا. أنا ضد علامات التعجب عموما، دع القارئ يضعها بنفسه.
بالمناسبة متى تفكر فى القارئ. وهل تسعى لتطوير علاقتك معه أم تفضل الاحتفاظ بمسافة خصوصا بعد توغل السوشيال ميديا فى هذا الأمر؟ بشكل عام هل تتابع ردود الفعل حول أعمالك؟
لا يوجد كاتب لا يفكر فى القارئ، وإلا لماذا ينشر نصوصه؟ لكن السؤال: هل يفكر فى القارئ أثناء كتابة النص أم بعده؟ لو فكر فيه أثناء كتابة النص سيكون القارئ قيداً، قد يمنعه من تجريب فكرة جديدة، أو اجتراح معنى جديد، لأن «القارئ المضمون» فى ذهن الكاتب «هو القارئ الذى يدفع الكاتب لتكرار التجارب السابقة بمقياس نجاحها المحدود.
وأعتقد أن هذا ضد الفن وضد التجريب، أما إذا فكر فى القارئ بعد نشر النص، فهذا كى يقيس ردود الفعل على ما قدمه، وليس بالضرورة أن تكون ردود الفعل إيجابية، وهذا يتوقف على تعريف كل كاتب للقارئ. هل هو القارئ على تطبيقات القراءة مثل «جود ريدز» الذى يمكن أن يعطى نجيب محفوظ نجمة واحدة بضمير مرتاح، أم القارئ على جروبات الفيس بوك الذى تتحدد ثقافته حسب خلفيته الثقافية التى غالبا لا تتجاوز مواقع التواصل الاجتماعي، أم القارئ الصديق الذى يهنئ على صفحات فيس بوك ويبارك ويُعظم دون أن يقرأ كلمة، فى ظنى أن القارئ الحقيقى هو القارئ الذى لا تربطه علاقة بالكاتب، ولا يتواصل معه.
لأنه فى هذه الحالة يقرأ ما يراه جيداً فعلاً، وليس مجاملة أو مناكفة. كما أعتقد أن الكاتب الجيد هو قارئ وناقد جيد بالضرورة، وإلا ما أصدر كتاباً جيداً وأعاد كتابته مرة واثنتين حتى وصل للنسخة الأفضل منه.
يكتب بطل روايتك الأولى لينسى وأنت؟ لماذا تكتب؟
أكتب لأتذكر، لأعرف ذاتي، لأفهم سبب وجودي، لأترك أثراً حتى ولو كان تحريك جناح فراشة. وهذا ما كان يسعى إليه بطل رواية «أثر النبي»، كان يرى أن كل إنسان نبى نفسه، ومن هنا لا بد أن يترك أثراً. فى بداياتنا نفكر أن كتابتنا قادرة على تغيير العالم، لكن بعد سنوات نسعى أن تكون كتابتنا قادة على تغيير ذواتنا على الأقل، وإذا تغيرنا سيتغير كل شيء، حتى الكتابة ذاتها، ستملك قدرة أكبر على الفعل.
هل ستسعى لإعادة نشر مجموعاتك الشعرية القديمة كما فعلت مع الرواية؟ ما الجديد لديك على أى حال ومتى يصدر؟
أصدرت ستة أعمال عن دار شرقيات، خلال الفترة من 2005 وحتى 2015، وللأسف لم تعد الدار موجودة مع أنها كانت واحدة من أهم وأقيم دور النشر المصرية، ومع غيابها اختفت جميع هذه الأعمال وبعضها نفد، لذا قمت مؤخراً بإعادة نشر ثلاثة دواوين هى «سوداء وجميلة»، و«مدهامتان» و«مديح الغابة» عن دار رواشن، وأعتقد أن هدف أى كاتب أن تكون أعماله متاحة فى المكتبات. وأعمل على ديوان جديد أتوقع صدوره فى معرض القاهرة الدولى للكتاب المقبل بإذن الله.
.....
*نشر في جريدة أخبار الأدب 6 أكتوبر 2024