22‏/10‏/2024

محمد أبو زيد: لم أعد مهتماً بإصلاح العالم


 حوار: أسامة فاروق

يكتب محمد أبوزيد فى «أثر النبي» روايته الأولى التى أعاد طباعتها مؤخرا عن بطل مشغول بالطيران، بالتحرر والانعتاق، لكنه عوضا عن ذلك لا يحلم إلا بكوابيس السقوط وبأن قدميه مقيدتان بالأرض، بطل لا تغادره الوحدة فى أكثر الأماكن ازدحاما بالبشر، يخاف ألا يجد حضنا فى المنزل، أو مدرجا فى الجامعة، أو مكتبا للعمل، أو مقعدا يريح عليه ظهره بين أصدقائه فى المقهى، يخاف حتى ألا يجد قبرا يستقر فيه. 

يهرب من وحدته فى قريته إلى حجرة ضيقة فى ناهيا، ومنها إلى دار السلام، بحثاً عمن يشاركونه همومه ويحلمون أحلامه، فلم يجد إلا بيتا للمغتربين بالغورية يضم غرباء أمثاله، نماذج للجيل الذى «تغرب آباؤه فى مدارس ومزارع ومستشفيات المغرب العربى والخليج، وعادوا ليشتروا شققا ويبنوا بيوتا فى قراهم، سقطت فى الزلزال أو غرقت فى السيول، أو نصبت عليهم شركات التوظيف وسرقت تحويشة العمر»، الجيل الذى نشأ مع سقوط الشعارات الكبرى وانتهاء حلم الوحدة العربية، ثم تنامى سيطرة الجماعات المتطرفة. الجيل الذى شاهد الدبابات الأمريكية فى قلب بغداد، وتغير العالم من حوله، فاستوطن اليأس قلبه وتجمدت أحلامه فى ركود مقبض.

يجلس بطل الرواية التى كُتبت مطلع الألفية فى ميدان التحرير متخيلا الناس الذين مروا على الميدان منذ 50 عاما، متسائلا عما تبقى من أفراحهم وأحزانهم وأحلامهم وما حاربوا من أجله، ثم يصبح هو نفسه بوابه زمنية على فترة أخرى نراقب من خلالها الآن أثر هذا الجيل ومسار أحلامه.

بعض الكتاب لا يحبون تذكر تجارب البدايات. الواضح أنك لست من هؤلاء بدليل إعادتك لنشر «أثر النبي» روايتك الأولى.. ما دوافع إعادة نشر الرواية الآن؟ صحيح ليس للحكايات تاريخ صلاحية لكن الحكاية تبدو الآن بعد كل التغييرات التى جرت وكأنها من زمن آخر، زمن قديم. تحمل مخاوف وحيرة وأسئلة شاب قديم أيضا.

الحكم الحقيقى على الفن لا يأتى من القراء ولا النقاد، بل من الزمن، والكاتب لا يقدم نصه الأدبى لأنه يصلح لزمانه فقط، أو يتوجه إلى شريحة عمرية معينة فى وقت محدد، ولو فعل هذا فإن ما يقدمه لن يرقى حتى للأدب الخفيف، فقيمة الأدب الحقيقية فى قدرته على تقديم إضافة فى كل زمن يُقرأ فيه، ولهذا السبب ما زلنا نقرأ شكسبير وديكنز وأورويل وحتى هيرودوت، ما زلنا نندهش ونحن نقرأ امرؤ القيس وعنترة والمتنبي، أعمالهم تعبر عن واقعهم بالطبع لكنها عابرة أيضاً للزمن، وهذا هو سمت الأدب الحقيقي، لا أقصد أنى أقارن نفسى بهؤلاء، لكنى أقصد أن الأدب ليس له تاريخ انتهاء صلاحية، وأن على الكاتب أن يحدد لحظة كتابة نصه، من هو الجمهور الذى يستهدفه، هل هم أصدقاؤه وحواريوه، أم جمهور الندوات والجامعات، أم جمهور لم يولد بعد.

بالنسبة لرواية «أثر النبي»، فهناك عدة أسباب لإعادة طبعها، أولها أن دار شرقيات التى صدرت عنها الطبعة الأولى من الرواية لم تعد موجودة للأسف، وبالتالى فالرواية نفسها غير متاحة للقارئ، وقد سعدت بترحيب دار الشروق بإعادة طبعها مجدداً، ثانى الأسباب أن الرواية لاقت صدى نقدياً جيداً وقت صدورها، ووصلت للقائمة القصيرة فى إحدى الجوائز المهمة، السبب الثالث أن الرواية رغم مرور 14 عاماً على طبعتها الأولى ما زالت صالحة للقراءة، خاصة أنها تبدو لى شهادة على زمن لم يعد موجوداً، وأصبحت فى حكم التاريخ بالنسبة للجيل القارئ الآن الذى ربما يكون فى أوائل عشرنياته، كما أنها تؤرخ للحظة مفصلية فى تاريخ الأمة العربية، وهى الاحتلال الأمريكى للعراق 2003 والتى لم يعد ما بعدها يشبه ما كان قبلها، السبب الرابع والأهم بالنسبة لي، أنها جزء مهم من تجربتي، فهى روايتى الأولى واللبنة الأساسية فى بناء عالمى السردى إذا جاز لى أن أقول ذلك، وهى لا تنفصل عنه من هذا المنطلق، وإن كانت تختلف فى تقنية الكتابة عن الروايتين التاليتين، وأرى أنه من المهم أن يطلع القارئ على هذا التحول، والذى له أسبابه النقدية لا ريب.

الرواية تبدو فى قراءة أخرى حكاية كملايين الحكايات التى ضغطت وكانت سببا فى كل ما جرى فى 2011 أو مقدمه له على أقل تقدير.. كيف ترى المسألة؟

لا أعتقد أن النظر للرواية على أنها حكاية من ملايين الحكايات التى ضغطت من أجل 2011 صحيحاً، لأننى لم أكتبها بهذا الغرض، أكثر من 70 % من الرواية انتهيت منه عام 2003، وفى 2010، أكملتها ودفعت بها للنشر، كما أن النظر لها باعتبارها كذلك ظلم للأدب بشكل عام، لأنك بهذا الشكل ستعتبر كل ما كتب قبل حرب أكتوبر 1973، وكل ما كتب قبل ثورة يوليو 1952 مجرد حكايات ضاغطة، ما أظنه أن لكل عمل أدبى طريقته فى التعبير وشخصيته المستقلة، التى لا يمكن جمعها مع عمل آخر، إلا لو كنت تقدم قراءة سوسيولوجية للأدب فى مرحلة زمنية معينة.

وفى ظنى أن رواياتنا القديمة تشبه هر شرودنغر، حية وميته فى الآن نفسه، موجودة وغير موجودة فى الوقت ذاته، وعدم وجودها فى المكتبات لا يعنى أنها لم تخلق، بل إنها حجزت مساحتها فى حيز المكان والزمان وتحتاج أن تتحرر.

أريد أن أتحدث عما سبق هذه الرواية بالتحديد. الهواجس والمخاوف والقراءات وربما الحيرة بينها وبين الشعر خصوصا وأنها جاءت بعد 5 دواوين تقريبا.. ما الذى تتذكره من تلك الفترة؟

أعتبر نفسى شاعراً، وقدمت نفسى كشاعر، لكنى أكتب السرد منذ زمن طويل، وهناك قصص قصيرة منشورة لى فى صحف ومجلات مختلفة منذ عام 1999، أى قبل أن أصدر ديوانى الأول بأربع سنوات، ومن الطريف أن ديوانى الأول هو ديوانى الرابع، كان من المفترض أن يكون ديوانى الأول تفعيلياً، وقد قدمته بالفعل لهيئة الكتاب فى سلسلة «إشراقات أدبية» وقتها بمقدمة للناقدة الكبيرة الأستاذة فريدة النقاش، ثم سحبت الديوان ولم أنشره بعد أن بدأت أكتب قصيدة النثر، وبالمناسبة ديوانى «أمطار مرت من هنا» الذى فاز بجائزة سعاد الصباح فى تلك السنوات، كان من الشعر التفعيلى أيضاً، ولم أنشره.

ثم قدمت ديواناً بالعامية المصرية إلى سلسلة «إبداعات» عام 2000، وقبل صدور الديوان بعدة أشهر طلبت من إدارة النشر تغيير الديوان بديوانى الأول «ثقب فى الهواء بطول قامتي»، ولم أنشر ديوان العامية أبداً، كما أن «أثر النبي» نفسها كنت قد كتبت جزءا كبيرا منها قبل صدور ديوانى الأول، وفزت بجائزة يحيى حقى فى الرواية من المجلس الأعلى للثقافة فى فترة سابقة وكنت ما زلت طالباً فى الجامعة.

ما أقصده أنه كان يمكن النظر لى الآن باعتبارى شاعر تفعيلة، أو شاعر عامية، أو روائياً، لكنى اخترت أن يكون كتابى الأول «قصيدة نثر»، وأن يعرفنى القارئ بهذه الصفة، وهذا لا يعنى أننى لا أكتب سواه. 

ما أعنيه من هذا كله أن الرواية لم تأت بعد 5 دواوين، بل جاءت قبل هذه الدواوين، والفترة التى كتبت فيها الرواية كانت فترة قاتمة سياسياً، كانت مصر خارجة من حربها مع الجماعات الراديكالية التى تركت أثراً بشكل كبير فى الصعيد والدلتا، وبدأ الحديث عن «مراجعات الجماعات الإسلامية» ومبادرة وقف العنف، كما شهدت تلك الفترة تراجعاً فى الحراك السياسى للتيارات اليسارية لا سيما مع انهيار الاتحاد السوفيتى قبل سنوات، كما أن فكرة القومية العربية التى نشأنا عليها وتربينا عليها كانت تتلاشى، وقد بدأ ذلك مع الاحتلال العراقى للكويت فى العام 1990، ثم جاء الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003، لتسقط معه كل السرديات التى تعلمناها التى تعلى من شأن العروبة، وكما قلت فى الرواية على لسان أحد الأبطال أن تلك اللحظة بدت بالنسبة لنا وقتها هى السقوط الأخير للعرب، كل الأفكار الكبرى التى قرأنا عنها فى الكتب كانت تتهاوى أمامنا.

وفى تلك اللحظة بدأت هزيمتنا كجيل. كنا فى أوائل العشرينيات، لكننا ولدنا كجيل مهزوم. ومن هنا جاء الربط فى نهاية الرواية بنكسة 1967، فإذا كانوا هم عاشوا هزيمة عسكرية، فإن هزيمتنا كانت هزيمة فكرية، مع تهاوى كل ما تعلمناه وفكرنا فيه وآمنا به، يوماً بعد يوم، وعاماً بعد عام.

ومع ذلك فالرواية ليست منشورا سياسياً، إنما تقدم أفكار وأحلام وهزائم شريحة من الشباب فى تلك الفترة، من مناطق جغرافية مختلفة، كل واحد منهم لديه هزائمه الشخصية، التى لا تنفصل بطبيعة الحال عن هزيمة المجتمع ككل.

يمكن من الرواية ملاحظة تغير أسلوبك وتطوره ودخول الفنتازيا بشكل كبير فى أعمالك التالية. كيف تختار موضوعاتك وكيف تحدد طريقة تناولها أو شكلها الفني؟

لم أقدم سوى ثلاث روايات، لكنى دائماً أفكر أننى لا أريد أن أقدم مجرد «حكاية»، وأهتم بـ «اللعبة» التى سيحتويها الكتاب، كما أهتم بمضمونه، فهما لا ينفصلان. وأعتقد أن هذا موجود حتى فى دواوينى الشعرية، وهو واضح أيضاً فى «أثر النبي»، التى حتى وإن جاءت واقعية تماماً، إلا أن هناك محاولات للتجريب فى طريقة كتابة بعض الفصول.

وهذا التطور ودخول الفانتازيا الذى تتحدث عنه أعتقد أنه شيء جيد، فهذا دليل على أن الكاتب لا يقف محلك سر، بل يسعى لتطوير نفسه وأدواته.  وهو وإن كنت أعترف أنه جنوح بالكامل للتجريب وانحياز للعبة الكتابة، إلا أنه أيضاً نتاج لتطور تجربتي، ورؤيتى للعالم والكتابة، وقد يراه البعض يأساً من كل القضايا التى طرحتها الرواية الأولى، لكنى أظن أن محاولات التغيير لا تكون فقط بكتابة نصوص تصف الواقع، بل بحمل القارئ على جناح الخيال، وإطلاق عنان أفكاره، عندما نحلم بعالم أفضل نضعه على الورق، ووقتها سيكون بإمكاننا صناعته على أرض الواقع.

أردت أن أسألك إن كنت قد فكرت فى استكمالها بجزء آخر جديد يرصد اللحظة الحالية، لكن الحقيقة أنه يمكن اعتبار الروايتين التاليتين استكمالا لها بشكل ما! فالهواجس والمخاوف تكاد تتطابق وبالتحديد هاجس الوحدة رغم تبدل الشخصيات. أنت نفسك عززت هذه الفكرة فى رواية «عنكبوت» وقلت إنهما وجهان لعملة واحدة.. إلى أى حد تصح هذه القراءة ولماذا تظهر الوحدة بهذا الشكل الملح فى أعمالك؟

أعتقد أن الكاتب يكمل نصاً واحداً بدأه فى لحظة ما وينتهى منه عند آخر حياته، ويعيد كتابته بطرق مختلفة. بالنسبة لى أحب ممارسة هذه اللعبة فى الشعر، فى ديوان «سوداء وجميلة» (دار شرقيات ـ 2015) مثلاً، قمت بإعادة كتابة قصيدة نشرتها قبل عشر سنوات فى ديوان «مديح الغابة»، ووضعت القصيدتين متجاورتين، أفعل هذا أيضاً من خلال وجود شخصيات بعينها تتكرر فى كل عمل، مثل شخصية «ميرفت عبد العزيز» الموجودة فى 5 دواوين، وهى بطلة رواية «عنكبوت فى القلب». 

أعتقد أن الأمر ذاته ينطبق على رواياتى الثلاث، يمكنك اعتبار بطل «أثر النبي» هو نفسه بطل رواية «عنكبوت فى القلب»، وهو ذاته بطل «ملحمة رأس الكلب»، لكن ربما فى عالم مواز، وكأن بطل الروايات الثلاث يحاول أن يجرب حياة جديدة  فى رواية أخرى فى ميتافيرس لا متناهٍ، الروايات الثلاث تدور أحداثها فى منطقة «وسط البلد»، لكن إذا كانت الشوارع فى «أثر النبي» كما نألفها ونعرفها، فإنها فى «عنكبوت» تأخذ طابعا سحرياً، وفى «ملحمة رأس الكلب»، يتحرك البطل فى ممرات سرية وسحرية تحت وسط البلد، بل يجد شوارع لم ولن يدخلها أحد سواه.

ربما يدل هذا على أن أزمة البطل لم تُحل بعد، هو فى الروايات الثلاث، كمن يفتح أبواباً ليبحث عن ذاته، للإجابة عن أسئلته الوجودية والملحة، وبالمناسبة لم أعد مهتماً بإصلاح العالم كما كنت فى «أثر النبي»، لكن رغم ذلك لم يغب الواقع تماماً وقضاياه فى الروايتين الأخيرتين، ففى ملحمة رأس الكلب، ستجد حديثا عن الاحترار المناخي، عن مواقع التواصل الاجتماعي، أما الفصل الأخير من «عنكبوت فى القلب» فكان وصفاً لبعض أحداث ثورة يناير 2011. لم أقل هذا بشكل مباشر طبعا، لكن يمكن لبعض القراءات أن تصل لهذا.

بالنسبة للوحدة، أعتقد أنها ثيمة أساسية فى نصوصى عموما، الشعرية والسردية على حد سواء، ربما يعود هذا بسبب أننى عشت فترة طويلة من عمرى مغترباً، وربما تكون الوحدة والعزلة من السمات الأساسية لأى كاتب، فضلا عن أن هذه هى طبيعة المرحلة التى نعيشها، انظر إلى الناس فى الشارع، فى الحافلة، فى المقهى. كل شخص يكتفى بهاتفه عن العالم، سيوصلنا هذا إلى أن نسير بعد سنوات داخل صناديق زجاجية مغلقة لا يصلها شيء مما يحدث فى الخارج، حتى لو كان سقوط نيزك سيدمر الأرض.    

بمناسبة الحديث عن «وسط البلد»، الحركة فى المدينة عنصر أساسى فى نصوصك. على أى أساس تختار الفضاء المكانى لأعمالك؟

كل رواياتى تدور فى منطقة وسط البلد، شوارعها، مقاهيها، ناسها. يمكن أن أقول إن كل الأماكن التى ذكرتها فى هذه الروايات اختبرتها بنفسي، بل حتى الأماكن السحرية غير الواقعية، تخيلتها هكذا، ويصل بى التوحد معها أحياناً لدرجة أن أظن أنها كانت هكذا. 

واخترت «وسط البلد» تحديداً لأنى أعتبرها مكاناً آمناً فى هذه المدينة العملاقة التى يهرول الناس فى شوارعها ليلا ونهاراً، ولا تتوقف عن الضجيج، وتبدو كقدم ديناصور عملاق تدهس من يفكر للحظة فى التوقف. لكن الألفة التى تخلقها وسط البلد، تجعل جميع الغرباء ينتمون إليها.



يعني لاحظ أن جميع أبطال الروايات الثلاث، لا ينتمون لوسط البلد، بعضهم يسكن على أطرافها للاحتماء بها، جميعهم يلجأون إليها ليجدوا حلولاً للإشكاليات التى تعرقل حيواتهم، ليكسروا وحدتهم، ليشعروا بالدفء الإنساني.

وهنا تبدو وسط البلد كبيتهم الذى يرتاحون فيه. كما أنهم جميعاً لا يتوقفون عن المشي، يمشون مسافات طويلة، ربما هربا من شيء ما أو رغبة فى الوصول إلى شيء ما، وربما لأن حركة المشى تبقيهم أيضا على قيد الحياة، وتحررهم من وحدتهم التى تبقيهم فى أماكنهم ساكنين، فضلا عن أن هذا المشى هو الذى ينقل الأبطال إلى فضاءات مكانية مختلفة، ويغير مصائرهم.

فقدان الأم وحلم الطيران ثيمات تتكرر كثيرا فى كل أعمالك تقريبا. لماذا؟

أعتقد أنهما تنويعات مختلفة على ثيمة الوحدة، الطيران مثلا يشير للانعتاق والتحرر، حتى لو بدا فكرة رومانسية، لكنها محاولة للنظر من أعلى بعين الطائر، فى محاولة لفهم المشهد بأكمله، مع الوضع فى الاعتبار أن هذا المشهد الكامل قد يكون أكثر إرعاباً إذا ما رأيت كل هذا الخراب متجاوراً فى لوحة واحدة مفزعة.

الأفلام أيضا عنصر لا يكاد يغيب. لماذا تكثر من الإحالة للأفلام الأجنبية على وجه الخصوص وهل تتخوف من تأثير عدم معرفة المتلقى بما تشير إليه على استقباله للعمل وفهمه؟

أعتقد أن معرفات الثقافة اختلفت مع الزمن، الجيل الجديد يحصل على معلوماته الآن من البودكاست والتيك توك ويوتيوب. «دائرة المعارف البريطانية» التى تعد أدق وأشهر الموسوعات المعرفية استعاض الناس عنها بويكيبديا، ليست بالدقة نفسها بطبيعة الحال لكنى أحدثك عن الواقع، حتى الكتاب نفسه، أصبح مسموعاً وإلكترونياً، الصحافة الورقية تحتضر، فن المسرح يتراجع وتكتسح منصات الأفلام المدفوعة مثل نتفليكس وديزنى وأبل وغيرها، علمتنا أيام كورونا أنك تستطيع أن تقرأ وتشاهد وتزور المتاحف من هاتفك.

وما أعنيه أن المكونات الثقافية للفرد تغيرت، ولم يعد الكتاب مصدرها الوحيد، فهناك السينما والموسيقى والمسرح والغناء، كل هذه مكونات، تدخل فى بناء العمل الأدبي. وأعتقد أننى فعلت هذا حتى فى الشعر، ففى نهاية ديوان «طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء» الصادر عام 2009، ستجد قائمة بالمصادر، بينها أفلام وأغان وكتب وغيرها، وفى «ملحمة رأس الكلب» هناك استعارة لفن المانجا، وفن السيناريو.

وليس بالضرورة أن يعرف القارئ كل ما أشير إليه من إحالات، قد يكون ما أكتبه حافزاً له لقراءتها أو مشاهدتها أو الاستماع إليها، المهم ألا تكون عائقاً ـ فى حال جهله بها ـ أمام تلقيه للنص. 

يقودنا هذا لمسألة الفهم أو التأويل أو ما وراء الحكايات، هناك من الكتاب من يزعجه عدم التقاط القارئ للمعانى التى يطرحها فى نصه.. ما هى رؤيتك لمسألة الفهم والتأويل؟

من يريد إيصال معنى واضح أو رسالة معينة فليكتب مقالاً، على النص الأدبى أن يرتدى قناعاً، وأن يحتمل التأويل، وليس بالضرورة أن يكون التأويل صحيحاً، فكل قارئ يأول النص بحسب تلقيه وثقافته، وقد يصل إلى شيء لم يرده الكاتب، وكلما زادت التأويلات أثبت النص الأدبى أنه يقوم بدوره، لأن هذا الـتأويل هو الذى يجعلنا نعيد قراءة النص أكثر من مرة، وفى كل مرة نشعر بفهم أكثر.

وهذا بالطبع لا يعنى أن يخلو النص من الإمتاع ومن تقديم حكاية، لأن جميع مستويات التلقى على مستوى الأهمية نفسه، وإذا فشل مستوى الإمتاع ستفسد غالبا بقية المستويات، ولا يعنى أيضاً أننى ملزم بتقديم كتالوج للقارئ يشرح له ما أردت قوله، ولا أن أقول له ابتسم هنا، أو اندهش هنا. أنا ضد علامات التعجب عموما، دع القارئ يضعها بنفسه.

بالمناسبة متى تفكر فى القارئ. وهل تسعى لتطوير علاقتك معه أم تفضل الاحتفاظ بمسافة خصوصا بعد توغل السوشيال ميديا فى هذا الأمر؟ بشكل عام هل تتابع ردود الفعل حول أعمالك؟ 

لا يوجد كاتب لا يفكر فى القارئ، وإلا لماذا ينشر نصوصه؟ لكن السؤال: هل يفكر فى القارئ أثناء كتابة النص أم بعده؟ لو فكر فيه أثناء كتابة النص سيكون القارئ قيداً، قد يمنعه من تجريب فكرة جديدة، أو اجتراح معنى جديد، لأن «القارئ المضمون» فى ذهن الكاتب «هو القارئ الذى يدفع الكاتب لتكرار التجارب السابقة بمقياس نجاحها المحدود.

وأعتقد أن هذا ضد الفن وضد التجريب، أما إذا فكر فى القارئ بعد نشر النص، فهذا كى يقيس ردود الفعل على ما قدمه، وليس بالضرورة أن تكون ردود الفعل إيجابية، وهذا يتوقف على تعريف كل كاتب للقارئ. هل هو القارئ على تطبيقات القراءة مثل «جود ريدز» الذى يمكن أن يعطى نجيب محفوظ نجمة واحدة بضمير مرتاح، أم القارئ على جروبات الفيس بوك الذى تتحدد ثقافته حسب خلفيته الثقافية التى غالبا لا تتجاوز مواقع التواصل الاجتماعي، أم القارئ الصديق الذى يهنئ على صفحات فيس بوك ويبارك ويُعظم دون أن يقرأ كلمة، فى ظنى أن القارئ الحقيقى هو القارئ الذى لا تربطه علاقة بالكاتب، ولا يتواصل معه.

لأنه فى هذه الحالة يقرأ ما يراه جيداً فعلاً، وليس مجاملة أو مناكفة. كما أعتقد أن الكاتب الجيد هو قارئ وناقد جيد بالضرورة، وإلا ما أصدر كتاباً جيداً وأعاد كتابته مرة واثنتين حتى وصل للنسخة الأفضل منه.

يكتب بطل روايتك الأولى لينسى وأنت؟ لماذا تكتب؟ 

أكتب لأتذكر، لأعرف ذاتي، لأفهم سبب وجودي، لأترك أثراً حتى ولو كان تحريك جناح فراشة. وهذا ما كان يسعى إليه بطل رواية «أثر النبي»، كان يرى أن كل إنسان نبى نفسه، ومن هنا لا بد أن يترك أثراً. فى بداياتنا نفكر أن كتابتنا قادرة على تغيير العالم، لكن بعد سنوات نسعى أن تكون كتابتنا قادة على تغيير ذواتنا على الأقل، وإذا تغيرنا سيتغير كل شيء، حتى الكتابة ذاتها، ستملك قدرة أكبر على الفعل.

هل ستسعى لإعادة نشر مجموعاتك الشعرية القديمة كما فعلت مع الرواية؟ ما الجديد لديك على أى حال ومتى يصدر؟

أصدرت ستة أعمال عن دار شرقيات، خلال الفترة من 2005 وحتى 2015، وللأسف لم تعد الدار موجودة مع أنها كانت واحدة من أهم وأقيم دور النشر المصرية، ومع غيابها اختفت جميع هذه الأعمال وبعضها نفد، لذا قمت مؤخراً بإعادة نشر ثلاثة دواوين هى «سوداء وجميلة»، و«مدهامتان» و«مديح الغابة» عن دار رواشن، وأعتقد أن هدف أى كاتب أن تكون أعماله متاحة فى المكتبات. وأعمل على ديوان جديد أتوقع صدوره فى معرض القاهرة الدولى للكتاب المقبل بإذن الله.

.....

*نشر في جريدة أخبار الأدب 6 أكتوبر 2024

15‏/09‏/2024

فى مديح الاختلاف


محمود عبد الشكور

أجمل ما تهديه هذه الرواية الممتعة إلى قارئها أنها تقدم مديحًا ذكيًا لفكرة الاختلاف، بطريقةٍ مختلفة وخلاّقة، تمزج بسلاسة بين الواقع والخيال، وتنقل حصاد الحياة كلها، بتفاهاتها، وبأسئلتها الوجودية الصعبة، وتستفيد من تفاصيل اليومى والعادى، فى عوالم جيل الألفية الثالثة، لتأخذنا إلى عالم آخر، أكثر سحرا وخيالا، وأكثر إثارة للدهشة والتأمل.

أتحدث عن رواية «ملحمة رأس الكلب»، لمؤلفها الشاعر والروائى محمد أبو زيد، والصادرة عن دار الشروق، بأجوائها التى تبدو بسيطة، فى استعادتها لأجواء السحر، والغرائبية، والعالم الموازى، الذى يذكرك على نحو ما بمغامرة «أليس فى بلاد العجائب»، ولكن هذا المزيج سرعان ما ينصهر فى سبيكة واحدة متماسكة، تعيدك من جديد إلى واقعنا الغريب، الذى لا يعترف بالاختلاف، والذى يهمش بل ويعاقب كل من يمتلك شكلًا أو جوهرا مختلفا، والذى يحتفى بالبشر كأرقام بلا هوية ولا بصمة.

لعبة السرد التى أجادها أبو زيد تبدأ من حدثٍ تافه بين صديقتين من جيل الإنترنت والسوشيال ميديا، هما «دو» و«لبنى»، أقل ما يقال عنهما إن كل واحدة فيهما حياتها محدودة، وهما وحيدتان رغم وجودهما فى قلب المدينة، ورغم اهتمامهما بتفاصيل زمنهما، وبينما تحب دو القرفة، فإن لبنى تحلم باقتناء سنجاب فى بيتها، وعندما تذهب مع صديقتها دو إلى محل لاقتناء السنجاب فى وسط البلد، يجدان صاحب المحل برأس كلب، حقيقة لا مجازًا، وستغيّر علاقتهما برأس الكلب، المختلف عن الجميع، حياتهما إلى الأبد!

توظّف الرواية فكرة «التحول» أو المسخ فى اتجاه آخر، بالطبع يتضايق الشاب رأس الكلب من مظهره، ومن تنمّر الناس عليه، ويضطر إلى أن يخفى وجهه، ولكن دو تعشقه وترى فيه فارس أحلامها، وتريد أن تحقق ما هو أبعد، بأن تعيد إليه وجهه القديم وأن تنقذه من الشيخوخة والتقدم فى العمر، ذلك أن الكلاب أقصر عمرًا من البشر، ولن تجد أمامها إلا لبنى صديقتها الوحيدة المهتمة بالسحر، لكى تساعدها فى إنقاذ رأس الكلب.

تبدو مهارة السرد فى الانتقال من الواقع إلى السحر، وبالعكس، وفى استعادة شكل وروح الحدوتة، وفى التأسيس الجيد لعلاقة دو ولبنى بالسحر، وبحب المغامرة وفى ابتكار عوالم موازية، تنتقل إليها الشخصيات فعليًّا، والحقيقة أنهم فى عوالم موازية واقعية أيضًا، بمعنى أن كلًّا من دو ولبنى ورأس الكلب، لهم عوالمهم الخاصة، حتى قبل أن تجمعهم المغامرة الساحرة.

وبينما يتم تقديم تفاصيل الواقع المعاصر، زمانًا ومكانًا وغناء ومأكلًا وملبسًا، وتحضر شوارع وسط البلد، وممراتها، فإن أبواب الخيال تنفتح أيضًا على جزيرة التائهين والمنبوذين لاختلافهم عن الآخرين، وتأخذ رأس الكلب إلى اكتشاف معنى الرضا، والتكيف مع الاختبار، ومثل الحكايات الشهيرة فإن بين الخيال والواقع بابا صغيرا، يحتاج فقط أن تدفعه لكى ترى العالم الموازى، ثم تعود من جديد.

استلهام حكاية الطفل، وخيال الحواديت، وقصص تحولات الجسد، وربما أيضًا عوالم السحر، يتم هنا بمستوياتٍ فائقة الوعى والذكاء، ويأخذنا بصنعة فن إلى أسئلة محيرة، فما معنى أن يقوم شاب بتركيب لمبة حجرته فيتحول وجهه إلى كلب؟ ما معنى هذا القدر الغريب؟ ولماذا هو بالذات؟ ولماذا يكون كلبا وليس شيئا آخر؟ كيف يتحمل الإنسان قدره بينما لا يطيقه الآخرون؟

تقودنا الحكاية إلى علاقة الإنسان بنفسه وبالآخر، ليس فقط فيما يتعلق برأس الكلب، ولكن مع شخصيتين تائهتين مثل دو ولبنى، تعيشان بدون نجاح فى الحب، وفى وحدة رغم الحضور الصاخب، وبقدرات داخلية دفينة، تريد أن تعبر عن نفسها، ولا تعرفان الطريق، طاقة هائلة تخرج فى الأمور البسيطة والتافهة، ولكنهما لا تعرفان الآخر، ولا تتغيران إلا بمغامرة كبرى مع رأس الكلب.

لا يريد أبو زيد أن يقدم فانتازيا كاملة، ولذلك يحرص على أن يؤسس العالم السحرى فى الرواية على عناصر واقعية، يتم ذلك من خلال جدّة لبنى، وجد رأس الكلب، الاثنان ارتبطا بالسحر، والاثنان شخصيتان تكتنفهما الغرابة والغموض، ومن المحتمل أن تكون أعمالهما السحرية قد انتقلت إلى حياة الأحفاد، بل إن روح جدة لبنى، تعود فى شكل قطة.

هدف هذا التأسيس ألا ينفصل القارئ عن الواقع تمامًا، لأن الحكاية عن تهميش المختلفين فى واقعنا المعاصر، هنا والآن، عبر مغامرة سحرية، تخرج عن المألوف، لتعيدنا مرة أخرى إلى الواقع، ولعل هذا هو سبب العودة فى آخر الرواية إلى الواقع، ومحو حارة السماء، ولكن بعد تقبّل لبنى ودو لفكرة الاختلاف، حول القرفة، وحول السناجب.

هذه هى اللعبة ببساطة: مغامرة لكى نرى أنفسنا والعالم بشكل أوضح، وسحر فى الشخصيات وخيالها، قبل أن يكون فى الواقع، وتعميق للحواديت، لاكتشاف ما وراءها، ورحلة لاكتشاف السحر فى الإنسان المختلف، قبل اكتشاف السحر فى الحكايات.

يبدو لى فى النهاية أنها أيضًا أمثولة، أو رحلة رمزية، تعيد الإنسان إلى طفولته البسيطة، لكى يكتشف الحياة بلا أقنعة، فاليوتوبيا فى الرواية ليست هى الحياة المثالية، ولكنها الحياة بلا أقنعة، وبدون تزييف، الخير والشر واضحان، والكل يتقبّل الكلّ، والاختلاف هو شرط الإنسانية، وليس هو الاستثناء، والطبيعة والحيوانات امتداد للحياة الإنسانية، ومرايا تنعكس عليها النفوس والقلوب والعقول.

يمكن أن تقرأ المغامرة أيضًا بأنها رحلة من السطح إلى العمق، من العادى والمألوف إلى المدهش، من الوقوف على شاطئ الحياة، إلى اختبارها فى العمق، ومن المرور العابر، إلى التوقف والتأمل، وهى كذلك دعوة لاكتشاف السحر فى الحياة، فى التجربة، وفى الإنسانية، قبل استدعائها بالتعاويذ، وبعبارات الهابراكادربا، والهاكونا ماتاتا، وافتح يا سمسم.

الحب وقبول الآخر هما المفتاح، لا نجاة إلا بهما، ومثلما تتكرر أغنية «الكل يعرف» على مدار فصول الرواية، فإننا سنعرف بوضوح أن السحر الحقيقى فى قدرة الإنسان على تقبّل غيره، وعلى مواجهة التجارب، وعلى أن يكون نفسه، لا أن يكون فردا فى القطيع.

...................

نقلاً عن صحيفة الشروق


20‏/12‏/2019

محمد أبو زيد: نعيش أزمة قراء


حاوره: السيد حسين
أكد الشاعر والروائى محمد أبو زيد، أن  قصيدة النثر أصبحت جزءا فى  تاريخ الشعر في العالم، والعالم كله تجاوز مشكلة قصيدة النثر والموزونة ما عدا نحن.
 ويعد أبو زيد أحد أهم الأصوات الشعرية المتفردة، حيث صدرت له سبعة دواوين أبرزها:«ثقب فى الهواء بطول قامتي»، و«مديح الغابة»، و«قوم جلوس حولهم ماء»، و«طاعون ا يضع ساقاً فوق الأخرى وينظر للسماء» و«مدهامتان»، و«مقدمة فى الغياب» كما صدر له ديوان للأطفال بعنوان «نعناعة مريم»، وكتاب نقدى بعنوان «الأرنب خارج القبعة». وفى السرد رواية «أثر النبي»، وسبقتها رواية «ممر طويل يصلح لثلاث جنازات متجاورة» التى حاز عنها جائزة «يحيى حقي» بالمجلس الأعلى للثقافة في مصرفى العام 2003 وحصل أبو زيد على جائزة سعاد الصباح فى الشعر عن ديوانه «أمطار مرت من هنا» في العام 2005..
وكان ل هذا الحوار للأهرام العربي حول ديوانه الأخير «جحيم» وروايته الثالثة «عنكبوت فى القلب» التى وصلت إلى القائمة الطويلة فى جائزة الشيخ زايد الإماراتية، فإلى نص الحوار
-جاء ديوانك الأخير "جحيم" بعد توقف عن نشر الشعر على غير عادتك لماذا؟
ـ ربما تكون هذه هي المرة الأولى التي أتوقف فيها عن نشر الشعر لمدة أربع سنوات، فآخر ديوان لي هو "سوداء وجميلة" صدر عام 2015، وربما لو راجعت ما نشرت ستجد ديواناً لي كل عامين على الأكثر، لكن أعتقد أنني بعد الديوان الأخير كنت  في حاجة للتوقف قبل الخطوة القادمة، وفي ظني أن هذه الوقفة مطلوبة من كل كاتب بعد كل عمل له، ورغم أن هذه وقفة متكررة بعد كل كتاب لمحاولة تجاوز التجربة السابقة والدخول في تجربة جديدة، إلا أن الأمر طال هذه المرة، ليس لأن الأمر متعلقاً بما أكتب فقط، بل لأن المشهد الشعري بالكامل يتغير، وأظن أن الحراك في المشهد الشعري الآن أصبح مختلفاً لا سيما بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي واستفادته منها؟

ـ ما التجربة الإبداعية التي يطرحها الديوان؟
كان ديوانيّ الأخيرين "مقدمة في الغياب" و"سوداء وجميلة"، نتاج تجربة السفر للعمل في الخارج، ومن الممكن أن تلمح فيهما ذلك بوضوح، وبرغم أن الديوان الجديد "جحيم"، مكتوب بالكامل أيضاً خارج مصر، إلا أن التعامل مع الغربة فيه اتخذت شكلاً مختلفاً، بل يمكن أن تقول إنها اختفت، ما عدا ظلال بسيطة وبعض القصائد في النهاية، ربما يمكن للنقاد أن يقولوا ما الذي تطور في هذا الديوان، لكن أعتقد أن القصائد صارت أكثر تكثيفاً وبساطة، وربما هذا هو درس الشعر الذي نتعلمه مع الوقت، أنك تكتشف أن البساطة هي سر الشعر، وأن التعقيد والانغلاق عدوه الأبدي؟

ـ "جحيم".. لماذا هذا العنوان، ماذا تقصد به؟
ـ يمكنك أن تقول إن هذا العنوان هو إغلاق لقوس فتحته قبل تسع سنوات مع عنوان ديوان "مدهامتان"، والذي هو وصف للجنة كما ورد في القرآن الكريم، ما بين "الجنة" و"الجحيم"، تغيرت رؤيتي لما أكتب، ولمحيطي ولجدوى الكتابة ذاتها، الجحيم ليس بالضررة أن يحمل معنى دينياً أو ذاتياً، يمكن أن يكون إنسانياً مع التغيرات التي حدثت للفرد الذي دهسته ماكينة العالم العملاقة.

-بعد ثمانية دواوين شعرية صدرت لك ما بين عامى 2003 و2015، إضافة لعمل شعري للأطفال بعنوان "نعناعة مريم"، هل يقلقك تراجع الشعر عن حضوره في المشهد؟
ـ لا أعتقد أن الشعر تراجع، بل يمكنني القول إن هناك ثورة شعرية تبدو في الأفق مع عشرات الأصوات الشعرية التي نراها يومياً، واستفادتها من وسائل النشر المختلفة التي أصبحت متاحة الآن، بل إن الشعر ـ على سبيل المثال ـ هو الأكثر استفادة من الفنون الأخرى من النشر عبر فيس بوك وتويتر، ففي حين يصعب نشر قصة ويستحيل نشر رواية أو مسرحية كاملة، وجد الشعر ضالته في الانتشار والوصول إلى قارئه بعد أن عانى كثيراً.

 -أنت من كتاب قصيد النثر فما رأيك بها؟ وهناك من يعتبرها مجرد خواطر شخصية ولا ترتقي لمستوي القصيدة العمودية؟
ـ لن يتقدم النقد العربي، والكتابة العربية خطوة للأمام، ما لم نتجاوز هذه المقولات. قصيدة النثر أصبحت جزءاً من تاريخ الشعر في العالم، والعالم كله تجاوز مشكلة قصيدة النثر والموزونة ما عدا نحن. ربما يكون هذا عائداً لرفضنا أي جديد. وعائد أيضاً لأننا نريد أن نعيش في الماضي ونكرر ما كتب، والدليل على هذا هو أن معظم القصائد العمودية التي تكتب الآن هي إعادة كتابة لقصائد قديمة. ليست لدي مشكلة مع القصيدة العمودية، ولا قصيدة التفعيلة. مشكلتي فقط في أننا نقف في حين يتقدم الآخرون، أننا نتعلق بالشكل ونتغاضى عن المضمون، الشعر كائن حي، لا بد أن يتطور.ونثرية القصيدة جزء من هذا التطور، تماماً كما تطور الإنسان وتطورت أفكاره منذ كان رجل الكهف إلى رجل العصور الوسطى وحتى الآن، وهناك تطور قادم سواء في الإنسان أو في القصيدة  فكلاهما انعكاس للآخر.


- هل نعيش أزمة شعر أم أزمة شعراء؟ وفي رأيك لماذا الشعر يفتقد القراء؟
ـ نعيش أزمة قراء. هناك شعر وهناك شعراء، لكن لا يوجد قراء. وأنا هنا أعلق الجرس في رقبة الجميع، بداية من المجتمع الذي لم يعد يهتم بتعليم اللغة العربية من الأصل، مروراً بالمناهج التي تًحقّر من أي نوع شعري بخلاف القصيدة العمودية، إلى الناشرين الذين يبحثون عن المكسب السريع بنشر كتب رديئة وليس انتهاء بالمؤسسة الثقافية بكل آلياتها، من الشعراء إلى الهيئات الحكومية، إلى قصور الثقافة إلى المكتبات الغائبة. الأزمة ليست في غياب الشعر فقط، الأزمة في غياب كل ذي قيمة لصالح تلميع الخواء والفجاجة.

-هل يختفي ألق الشعر أمام ألق الرواية؟ وهل يمكن أن نقول إن الزمن زمن رواية بامتياز، وإن الأجناس الأدبية الأخرى آن لها أن تتنحى؟
ـ لا أعتقد أن هناك حرباً حرباً بين الشعر والرواية، أو مباراة سيكسبها أحدهما في النهاية، هما نوعان من الفن قد يلتقيان أحياناً في نص مشترك وقد يفترقان، ولكل نوع قراؤه ومحبوه، وهناك مستفيدون من مقولة "زمن الرواية" سعوا للترويج لها، بداية من الناشرين إلى المؤسسات المانحة للجوائز، في حين يغيب الشعر عن كل هذا. عموماً الشعر في غنى عن كل هذا، الشعر فخور بكونه غريباً، فقد ولد غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للشعراء والغرباء.

*الشاعر الفرنسي دوني روش، قال مرة بأن الشعر عاجز عن إحداث أي تغيير في الإنسان والعالم واعتزل الشعر، كيف تقرأ قوله هذا، ولماذا يكتب الشعراء إذن إذا كان ما يذهب له صحيح؟
ـ لم يعد الأدب قادراً على تغيير شيء في المجتمع، لم نعد في الزمن الذي يكتب فيه شخص رواية فيتغير قانون أو تقوم ثورة. مهمة الشعر أو الفن هي تغيير الفرد، بداية من كاتبه، وهذا تغيير على المدى الطويل، فإذا كنت قادراً على نشر الشعر، فأنت قادر على نشر الجمال، فأنت على المدى الطويل قادر على خلق الجمال في مجتمع بالكامل. لكن ما أقوله دائماً، أنني في البداية كنت أكتب الشعر ظاناً أني أستطيع به تغيير العالم، لكن ما أطمح إليه الآن أن يساعدني الشعر على تغيير نفسي.

-صدر لك روايتك "في روايتك "عنكبوت في القلب"، اشتغلت على تيمات مختلفة، جعلتنا أمام عوالم يتداخل فيها الواقعي بالسحري والخرافي والأسطوري.. فكيف تقدم للقراء هذا النص؟ وكيف ولدت فكرة العمل لديك؟ وفي أي أجواء كتبته؟
ـ أعتقد أن الكتابة الجديدة تطورت لدرجة أنه لا يمكن الفصل فيها بين الفنون المختلفة، وهذا ما سعت الرواية إلى تحقيقه، وأتمنى أن تكون نجحت فيه، فكما حاولت في النص أن أستفيد من الثيمات الحديثة في الكتابة، حاولت أيضاً أن أستفيد من التراثي الكتابي، سواء العربي أو الأجنبي. وفكرة الرواية شديدة البساطة وهي قصة حب بين شاب وفتاة،  لكنها تطرح عشرات الأسئلة حول حقيقتها وحول استمرارها، وحول وجودها من الأساس، وقد استمعت إلى قراءات كثيرة للرواية، وكل قراءة ترى النص من زاوية مختلفة. لا أعني بهذا أن النص مغلق أو أكثر تطوراً، لكن أعني أن النص سعى بالفعل إلى هذا لحظة كتابته.

-برأيك ما الحد الفاصل ما بين الواقع والمتخيل في "عنكبوت في القلب" شخوصاً وأحداثاً؟ ومن ثم إلى أي مدى يستطيع الكاتب أن يكون حيادياً في تسيير شخصيات روايته؟
ـ الفن ينبع بالأساس من المتخيل، لأن الخيال يعلو الواقع بدرجات، وأعتقد أن هذه هي الإشكالية التي تطرحها الرواية أو تناقشها، وهي كيف نجعل واقعنا أفضل بالمتخيل، تماماً كما تمنحنا أحلامنا وطموحاتنا طاقة لإكمال حياتنا بمبررات أقوى. الخيال يفعل هذا. والرواية لم تمزج الواقع بالمتخيل، بل حولت الواقع إلى خيال لتجعله أكثر احتمالاً وأكثر جمالاً، وهذا ما كانت تفعله بطلة الرواية "ميرفت عبد العزيز"، التي تعاني من رتابة حياتها، وكانت تبحث عن معجزة صغيرة تعطي طعماً لأيامها العادية، حولت حياتها إلى خيال، وهو ما تحقق في النهاية. حتى ظهور المؤلف في الرواية، لم يكن تماساً مع الواقع، فبداية لم أذكر أنني المؤلف، حتى لو كان يحمل اسمي، فالفصل الذي أتحدث فيه عن الكاتب اسمه "مؤلف" أي من الممكن أن يكون أي مؤلف آخر غيري، كما أن المؤلف حياته غير تقليدية، فهو يقابل الكائنات الفضائية على الطريق الدائري، وعامل السوبر ماركت يصعد إليه طيراناً. هذه الرواية إذن بعيدة عن الواقع بشكل الطبيعي، لكن قدمت ما يمكن أن نسميه تخييل الواقع، أو خلق واقع مناسب لشخوص الرواية.

- تقول "أعتبر هذه الرواية تكملة لمشروعي الشعري"، كيف ذلك؟
ـ لم أكتب الرواية بصفتي روائياً، لكن بصفتي شاعراً، يمكنك أن تقول إنني فردت بعض خيوط القصيدة لديّ على امتدادها فجاءت الرواية، بمعنى أن بعض شخصياتي الشعرية، التي ظهرت في العديد من دواويني، منحتها حياة إضافية، وسردت الكثير من تفاصيلها، أن بعض الصور الشعرية التي قد تقرأها في سطر في قصيدة، تعاملت معها باعتبارها واقعاً وأكملت بقية الحكاية. أعتقد أن من قرأ دواويني السابقة سيفهم الرواية بشكل مختلف عمن سيقرأها بشكل منعزل، وأعتقد أيضاً أن المهتم بعوالم السينما ستصله إشارات مختلفة تماماً عن المهتم بالتراث العربي القديم والحكائي بشكل عام. كان طموحي أن أستفيد من منابع الثقافة المختلفة، لاسيما العصرية من عوالم السوشيال ميديا إلى الفيديو جيمز، وأعتقد أن الرواية بها طبقات من الكتابة المختلفة، لأنها حاولت أن تستفيد من كل ذلك ومن مجالات الفن المختلفة من الشعر إلى السينما إلى المسرح، وأتمنى أن تكون وفقت في هذا.

-شخصيات الرواية ميرفت عبدالعزيز، بيبو، سامى، وأنت محمد أبوزيد وغيرها كم اقتربت من الواقع؟ وهل تسرب جزءاً من سيرتك الذاتية إلى الرواية؟
ـ لا شيء من سيرتي الذاتية في الرواية، كما يمكن أن يكون "محمد أبو زيد"، بطل الرواية شخصاً آخر غيري، لكن صادف أنه يحمل اسمي، ومع ذلك يمكنني أن أعترف لك أنه لا يوجد مشهد في الرواية لم أره أو أصادفه أو أمر به أو أحلم به، كتبت الرواية في سبع سنوات حدث الكثير خلالها في حياتي وفي العالم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، يمكن أن ترى ذلك في الرواية، ويمكن ألا تراه، وأعتقد أن هذه هي خدعة الفن التي نحبها.

- كل عمل أدبي لا يخلو من هدف، إلى ماذا كنت تهدف؟ وهل يمكن النظر إلى الرواية بصفتها تحمل إسقاطاً على الحاضر؟
ـ لا أحبذ فكرة الإسقاط، ربما كان هذا يصلح لزمن آخر، لكن أعتقد أن الكتابة الحديثة تجاوزت هذا من زمن، كما لا أحبذ أن يتحدث الكاتب عن الهدف من وراء كتابته، لكن أقول إن الهدف الأول والأخير بالنسبة لي وللقارئ، هو المتعة وحدها، وإذا صادف القارئ هدفاً آخر فهذا شيء جيد.

-ما هي أهم المحاور التي تحب الخوض في غمارها أثناء كتابتك؟ من ثم وأنت تكتب هل تفكر في القارئ؟
ـ لا أفكر في القارئ بالطبع، وإن كنت أسعد بالطبع إن أعجب ما أكتب قارئاً. والحقيقة أن فكرة التعويل على القارئ في عالمنا العربي شديدة البؤس، فلا قارئاً في الأفق ولا يحزنون، جميعنا يعلم أن الأدب ـ سواء كان شعراً أم رواية ـ لا يطبع ولا يُقرأ ولا يوزع، وأقصى طموحنا أن تنتهي الطبعة التي لا تتجاوز في أفضل الحالات 3 آلاف نسخة، وبعض دور النشر الخاصة تطبع 200 نسخة، ومعظمنا يعرف قراءه بالاسم، فأي قارئ تتحدث عنه. الحقيقة هي أننا نكتب لأنفسنا أو دائرتنا الضيقة المحدودة، هذه الدائرة أحياناً تدفع البعض لتكرار ما يكتبه هو أو يكتبه من حوله حتى يحوذ على الاستحسان المحدود، لذا فالأفضل بالنسبة لي أن أكتب لنفسي، أنا قارئي الأول والأخير، وفي كثير من النصوص أكون قارئي الوحيد.

-ما الذي ينقص الرواية العربية لتصبح منافسًا عالميًا؟
ـ الترجمة، وأقصد بها هنا شيئين، الأول أن نقرأ روايات مجايلينا أو من سبقونا من الدول الأخرى بشتى اللغات، وأعتقد أن هذا سيسهم في تطوير الرواية العربية بشكل كبير، والشيء الآخر هو أن تترجم الأعمال العربية. لم يكن نجيب محفوظ سيحصل على جائزة نوبل لو لم تترجم رواياته منذ فترة طويلة وتُقرأ عالمياً، كيف سيعرف العالم أن هناك كاتباً يكتب بالعربية بشكل جيد، الإشكالية الحقيقية هنا هي أن معظم الأعمال العربية المترجمة إلى اللغات الأجنبية رديئة، لأنها تعتمد على العلاقات العامة، وعلى مدى علاقتك بالمترجم أو دار النشر، على كونك تعيش في الخارج ولديك علاقات، أو تعرفت بالصدفة على مترجم يزور بلدك العربي واتفقت معه على ترجمة روايتك، ومعظم هذه الترجمات بسيطة ومحدودة ولا تصل إلى القارئ الأجنبي، ولن تؤدي إلى شيء في النهاية ولن تفيد الأدب العربي في شيء، وسيظل الأدب العربي بعيداً عن العالمية ما دامت العلاقات العامة هي التي تحرك الترجمة.

-بالنظر إلى تجربتك في تأسيس ورئاسة تحرير موقع الكتروني "موقع الكتابة الثقافي". أسألك هل انخرط الروائيون والكتاب العرب في المد الرقمي كما ينبغي؟ وهل يمكن لهذا أن يؤسس برأيك لتراكم إبداعي عربي في مجال الأدب الرقمي؟
ـ أكمل موقع الكتابة الثقافي ثلاثة عشر عاماً، وأظن أنه خلال هذه السنوات استطاع أن يكون أرشيفاً لجيل كامل من الكتاب المصريين، لكن سؤالك يفتح جرحاً، وهو مدى علاقتنا نحن العرب بالمد الرقمي، يمكن القول إن الأجيال الجديدة من الكتاب تهتم بهذا، لكن الأجيال السابقة لا زالت ترى النشر الورقي هو الأهم، لذا فهناك غياب كبير للأجيال القديمة عن النشر الرقمي، لكن ليست هذه هي الإشكالية الوحيدة، إذ أن المشكلة الكبرى هي غياب الدعم عن معظم المواقع الإلكترونية الثقافية فمعظمها يعتمد على التمويل الذاتي، ولهذا فمعظم هذه المواقع يغلق أبوابه في النهاية، وهو ما حدث مع موقع مهم مثل "جهة الشعر" الذي بذل فيه الشاعر الكبير قاسم حداد جهداً كبيراً على مدار سنوات، والبعض يغلق المواقع لإنه مل أو تعب أو وجد أنه لا توجد فائدة ترجى من وراء هذا الجهد أو لم يجد التقدير الكافي. ومع إغلاق هذه المواقع تغلق نوافذ لحفظ الإبداع العربي رقمياً، وتضيع آلاف المواد المؤرشفة رقمياً، لدرجة أن بعض الأسماء من الممكن ألا تجد لها وجوداً على الإنترنت، ولو مددنا الخيط على استقامته سنجد أنه مع إغلاق صحف عربية مهمة مثل الحياة والسفير والمستقبل ضاع تراث ثقافي مهم أيضاً كان محفوظاً إلكترونياً. وأنا هنا لا ألوم المثقفين الذين تبرعوا وأطلقوا هذه المنصات الثقافية، فقد تبرعوا بهذا، بل أعيب على المؤسسات الثقافية التي لا تسعى لأرشفة الأدب العربي إلكترونيا بما يساعد القارئ والكاتب والباحث. لذا لا أظن أن المواقع الثقافية العربية الموجودة حالياً ستؤسس لأي تراكم أدبي عربي، لأنها معرضة طوال الوقت للإغلاق أو الإفلاس.

- كيف تقرأ المشهد الإبداعي والثقافي في مصر اليوم؟
ـ أعتقد أن هناك حالة حراك ثقافي كبيرة تحدث الآن، هناك نصوص كثيرة تكتب، تجاوز الكثير من الكتاب أزمة النشر الورقي وأصبحوا ينشرون إلكترونياً أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي سهلت التواصل مع نظرائهم في الدول العربية، فساهم هذا في الاطلاع على تجارب عربية أخرى. وأعتقد أن الانفتاح الرقمي سيلغي فكرة التجييل التي تعودنا عليها، لأن الكتابة ستصبح جزءاً من حركة آلة العولمة وهذا له فوائده وأضراره الجمة لكن ليس هذا هو حديثنا، طبعاً هناك مشكلات كثيرة مثل أن من يريد أن ينشر أي شيء سينشره، وسيجد من سيصفق له، لكني أؤمن بأن الزمن مصفاة، كما أن أزمة غياب النقد لا زالت مستمرة، فضلاً عن غياب المؤسسة الثقافية الرسمية، لكني مع ذلك أظن أن المشهد الثقافي سيخلق آلياته البديلة في النهاية بما يتيح له الاستمرار والتطور، وهو ما يوجب الإشارة إلى ضرورة عدم الحكم على المشهد الثقافي اليومي بآليات المشهد في العقود السابقة.


-كيف تنظر إلى الجوائز الأدبية العربية، وهل يمكن اعتبارها معياراً حقيقياً وصادقاً يؤشر للأعمال الجيدة؟
ـ أول ملحوظة على الجوائز هي غياب جوائز الشعر، وإن وجدت فهي للقصيدة العمودية أو التفعيلية، وهذا يشرح لك إلى أي مدى تتجاهل المؤسسات الثقافية العربية قصيدة النثر، الملحوظة الثانية هي أن الجوائز العربية تخضع في النهاية لذوق اللجنة، ولسياساتها، فليست بالضرورة النصوص الفائزة هي الأفضل بقدر ما هي تعبر عن اللجنة وذوقها وتربيطاتها وحساباتها أحياناً، لكن في النهاية فوجود الجوائز هو أمر جيد ودافع للكثيرين للكتابة، وهو ما نحتاجه، بغض النظر عن اسم الفائز.

- كيف حال النقد معك؟ هل أنت مرتاح من جهة النقاد؟ وهل نالت أعمالك نصيباً من اهتمامهم؟
ـ أي كاتب يسعد بتناول النقاد أعماله، وسعدت بتناول نقاد كبار أعمالي بالنقد، لكن هناك مشكلة في غياب النقد من الأساس. عدد النقاد الأكاديميين يمكن عدهم على أصابع اليدين، ولكل واحد منهم اهتماماته وصداقاته وعداواته وشلته، ومعظم من يكتب النقد هم شعراء أو روائيون يكتبون لمؤازرة زملائهم لأنهم يعانون مثلهم. للأسف فالمشهد النقدي الراهن لا يعبر بأي  حال من الأحوال عن المشهد الإبداعي الثري.  

-ماذا تكتب الآن؟
ـ أعمل على كتاب أدبي، ليس شعراً ولا رواية، هو نص مفتوح عن مدينة القاهرة، أعمل عليه منذ سنوات طويلة وأتمنى أن ينتهي قريباً.
...........
*نشر في مجلة الأهرام العربي


06‏/12‏/2019

The Art of Self-Defense .. أو "فن الوحدة" للدفاع عن النفس


The Art of Self-Defense .. أو "فن الوحدة" للدفاع عن النفس

كان يمكن لفيلم "The Art of Self-Defense" أن يصبح فيلماً عادياً من أفلام رحلة الانتقام، والتي تبدأ بتعرض البطل لاعتداء يغير حياته، فيقرر أن يتدرب على ممارسة الرياضة كي ينتقم ممن اعتدوا عليه في النهاية، وهي أفلام تكون غالباً بلا قيمة فنية تذكر، قدم الكثير منها أبطال الأكشن في الثمانينيات والتسعينيات مثل  سلفستر ستالون أو أرنولد شوارزينجر أو فان دام، وغيرهم. وكان يمكن أيضاً أن يكون فيلماً يحتفي بإحدى لعبات الدفاع عن النفس في سياق رحلة الانتقام مثل فيلم "فتى الكاراتيه" بتنويعاته المختلفة أو عشرات الأفلام الصينية أو حتى بعض أفلام مارفل ودي سي، أو كان يمكن على أفضل تقدير أن يصبح فيلماً دموياً ذا نكهة فنية خاصة مثل "اقتل بيل"، لكن المخرج والسيناريست رايلي ستيرنز استطاع أن يذهب بفيلمه الأخير بعيداً عن كل هذا، واستخدام كل تلك الأدوات القديمة لتقديم فيلم عن الوحدة في مواجهة العالم.
بأداء مثير للإعجاب من جيسي إيزنبرغ، نقابل "كايسي"، أمين المكتبة الخجول الذي انتصفت ثلاثينياته، ويعيش وحيداً مع كلبه، بلا أصدقاء، ولا علاقات عاطفية، لا يستطيع إكمال جملة في حوار مع أي شخص، ، حتى في الوقت الذي يقرر أن يخوض فيه حديثاً مع أحدهم لا يصمد أمام سخافات الآخرين، يتعلم الفرنسية لأنه يحب فرنسا ويحلم بالسفر إليها، يقاوم ضغوط الحياة بطقوس يومية ثابتة، ينأى بوحدته بعيداً عن الاحتكاك بالعالم، من الممكن أن نرى ظلال هذه الشخصية في عشرات الوجوه حولنا، الذين حولتهم التكنولوجيا إلى أشخاص انطوائيين، ويمضي بهم العمر وهم لا يفعلون شيئاً سوى اتقاء شرور الحياة، ينأون بأنفسهم عن الدخول في أية علاقات إنسانية، وهو ما يذكر بأفلام عظيمة مثل "تاكسي درايفر"، و"her"، وغيرها.
تسير الحياة على وتيرتها التقليدية التي تعوّد عليها كايسي، حتى يقع الحادث الذي يفترض به أن يغير حياته، وهو تعرضه للاعتداء والإيذاء الشديد من عصابة موتوسيكلات مُقنعة، فيظل في بيته رافضاً الخروج ثم في نوبة شجاعة يقرر شراء سلاح ناري، قبل أن يلتحق بمدرسة لتعلم الكاراتيه. حتى هنا تبدو الأحداث عادية من الممكن أن نراها في أي فيلم أكشن تقليدي، لكن لقطات الفيلم الطويلة الصامتة، والأداء شديد البساطة والإقناع من جيسي إيزنبرغ الذي يبدو صامتاً هادئاً بملامح وجهه المسالمة وكفيه المدليين كأنهما مستسلمان، وكتفيه المائلين إلى الداخل كأنه كتاب مغلق على نفسه، كل هذا يدل على فصل مختلف قادم من الفيلم.
لا يلتحق كايسي بمدرسة الكاراتيه من أجل الانتقام، بل لأنه يريد ألا يظل خائفاً، لأنه يريد أن يصبح مثل الذين اعتدوا عليه، تصبح لعبة الكاراتيه هي علاجه النفسي، يشعر بالقوة عندما يكون في المدرسة، لكنه عندما يخرج منها يعود إليه قلقه وخوفه من العالم، لذا عندما يحصل على الحزام الأصفر، يذهب إلى السوبر ماركت ويشتري الأشياء الصفراء فقط، لأن اللون أصبح معادلاً للقوة في داخله، بل يرتدي حزام الكاراتيه الأصفر على ملابسه أثناء الخروج كي يتغلب على خوفه، ثم يقرر صنع حزام أصفر خصيصاً لا يخلعه أبداً حتى لا يفقد شعوره بالأمان.
تحضر الألوان برموزها في الكثير من مشاهد الفيلم، بداية من الأبيض الذي كان عليه كايسي في البداية، وحتى الأسود الذي تحول عليه في النهاية، قبل أن يتنازل عنه،  كل لون يعبر عن مرحلة حياتية، وعن حالته النفسية، بل إن كل لون يحمل أكثر من وجه، فبعد أن كنا نرى الأصفر يعبر عن الثقة والقوة يتحول لشيء شرير وغاضب، وذلك عبر طرح مساحات شاسعة من الألوان الأساسية في مشاهد الفيلم.
يكمن جمال الفيلم في أن أسئلته أكثر من إجاباته. هو لا يقدم إجابات على أي حال تريح المشاهد، إلا في المشاهد الأخيرة التي تبدو خارجة قليلاً عن السياق العام الذي يتبعه الفيلم، وأسئلة الفيلم تتعلق بالمعنى الحقيقي بالقوة والمجتمع، والنظرة الخاطئة للذات وللآخرين، والنظرة للمرأة، وهل الوحدة أفضل من الأخويات التي تدعّي الحماية في حين أنها تعاني من الفساد الداخلي، وكيف يطلق الغضب الوحش الكامن داخل كل إنسان حتى لو بدا بلا حول ولا قوة.

محمد أبو زيد: قتلت ميرفت عبد العزيز بيدي!


حوار: سمر نور

يقفز الشاعر محمد أبو زيد بين الشعر والرواية ببساطة من يعمل على مشروع واحد، تظل صفته كشاعر هى الحاضرة بقوة بعد عشرة دواوين وروايتين، لكنه لا يضع حواجز تفصل كل تلك الكتب عن بعضها البعض، وكأن روايته الأخيرة "عنكبوت في القلب"، المرشحة بالقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للمؤلف الشاب، هى استكمال لمصير "ميرفت عبد العزيز" الحبيبة التي وصفها في أغلب دواوينه، وكأن ديوانه الصادر حديثًا "جحيم" هو بداية جديدة مع هاجس جديد، ونسأله:
-        الوحدة، أو العزلة على وجه الدقة، تيمة أساسية في روايتك المرشحة لجائزة الشيخ زايد، لكنها وحدة ممتدة بين ثلاثة أشخاص، بيبو وميرفت والمؤلف، كل شخصية تعيش عزلتها وتتدخل في خيالات الآخرين، هل العزلة مرتبطة بالخيال والحياة في عوالم أخرى بالضرورة؟
-        العزلة جزء من تكويني الشخصي، وفي ظني هي أحد وجوه الكتابة، لأن جزءاً من فعل الكتابة سمو عن الاعتيادي، والسمو لا يكتمل إلا بالعزلة. لكن العزلة في الرواية ليست متعلقة بالكتابة، بل بشخصيات النص ذاته، والتي تكشف في أحد جوانبها عن انسحاق الذات البشرية أسفل حذاء اليومي المعتاد القبيح، وتوحش المدينة، حينها تصبح العزلة مهرباً من البشر والمكان والحياة ذاتها.
-        ما سر شخصية ميرفت عبد العزيز التي يتكرر اسمها في أعمالك وما يمكن أن تمثله لتشغل كل هذا الحيز عبر سنوات؟
-        أؤمن أن الكتابة لعبة، وشخصية ميرفت لعبة شعرية وسردية بالنسبة لي، بعض الشعراء يكتب لحبيبته بالاسم، لكن ماذا لو تم اختلاق هذه الحبيبة بالكامل، ماذا لو تحوّلت إلى ذات تستطيع أن تجمع كل النساء فيها، وترى فيها كل فتاة نفسها. أعتقد أن من يقرأ دواويني بداية من "قوم جلوس حولهم ماء" الذي شهد الظهور الأول لها، وحتى ديوان "سوداء وجميلة"، يستطيع أن يتعرف على ميرفت جيداً من خلال أفكاري عنها، لكنه يستطيع أن يراها عن قرب من خلال رؤيتها لذاتها  في الرواية، لكن في كلتا الحالتين لن يجد وصفاً لملامحها، بل إن الرواية تقدم لها ثلاث بدايات بثلاث أمهات، كما تقدم ثلاث احتمالات لقصتها مع بيبو، لأن ميرفت ليست شخصاً واحداً، ميرفت شخصية شعرية لكن باحتمالات متعددة لفتيات مختلفات.
-        هل يمكن اعتبار روايتك الأخيرة محاولة لقتلها وانهاء علاقتها بمشروعك؟
-        قررت فعلاً أن يكون آخر ظهور لها في "عنكبوت في القلب"، يمكنك أن تعتبريه قتلا لها. لكني أعتبره اكتمالاً لظهوراً، لأني في كل الدواوين السابقة كنت أقدم لمحات عنها، جزءاً من صورتها، أعتقد أن هذه الصورة اكتملت الآن. كما أعتقد أنني قلت كل ما لديّ عنها تقريباً، وأي استخدام آخر قد يكون استغلالاً لها.
-        هناك حالة من الكشف وتدخل المؤلف بشخصك داخل الرواية ومناقشة لفكرة الكتابة ذاتها، ما الذي قادك لهذا الفصل؟
-        أولاً: هذا "المؤلف" ليس بالضرورة أن يكون أنا. حتى لو كان اسمه "محمد أبو زيد"، أقدم الشخصيات في الرواية منكّرة، بدون "ال" التعرف، فأقوا: فتى، فتاة، مؤلف.  وما قصدته هو أن أكشف معاناة "مؤلف" مع شخصياته، وهذه ليست فكرة جديدة، فقد تم استخدامها كثيراً من قبل، لكن ما أردت تقديمه هنا هو مناقشة هم الكتابة من خلال شخصية المؤلف، مناقشة فكرة المقارنة بين الخيال والواقع، من خلال شخصيات تخلط بين واقعها وخيالها، "المؤلف" في النهاية شخصية خيالية، لأنه يرى كائنات فضائية على الطريق الدائري، ويرى عامل السوبر ماركت يصعد إليه طائراً. هو جزء من لعبة الكتابة في الرواية. وبالنسبة لي لا احب طريقة السرد الخطي التقليدية. لست ضدها، لكني قادم من فن كتابي آخر وهو الشعر، وكتبت الرواية لأكمل جزءاً من مشروعي الشعري الذي أعمل عليه، وهذا العالم مرتبط ببعضه بعضاً، بمعنى أنني تحدثت عن شخصيتي "سكارليت جوهانسون"، و"أودري تاتو" الموجودتين في الرواية في الديوان السابق، كما أن شخصية بيبو تتقاطع مع شخصية بطل روايتي الأولى "أثر النبي"، وستجدين مقاطع من كل كتبي  في الرواية. ولهذا أضع مراجع في آخرها به عناوين أعمالي السابقة.
-        من العزلة إلى الحرب في ديوانك الأخير "جحيم"، الفكرة الأكثر حضورًا في كل القصائد، والتي تفرض عليك ككاتب، تفاعل مع العالم الحقيقي بكل بشاعته، وهو ما راته أستاذة عبلة الرزوينى في مقالها عن الديوان، خيال أكثر منه معرفة، كيف ترى الحرب في ديوانك الأخير؟
-        ثمة إشكالية في قصيدة النثر، أن البعض يظن أن الشاعر يجب أن يُغرِق في تفاصيله اليومي المعتادي ويبتعد عن القضايا الكبرى، لكن ماذا لو كانت هذه القضايا الكبرى هي تفاصيلنا اليومية؟ منذ تسع سنوات تقريباً، ونحن نتحدث عن الدم والحرب والمظاهرات والاحتجاجات وداعش، من مصر إلى سوريا إلى اليمن إلى ليبيا إلى العراق؟ أليست الحرب هي تفاصيل يومنا؟ كيف أتجاهلها؟ في الديوان محاولة لهزيمة الحرب بالخيال، أتحدث دائماً عن ما بعد الحرب، عن الخراب الذي خلفته والذي أراه من الآن.
-        كيف ترى ترشيحك لجائزة في مجال الرواية، في إطار عدم وجود جائزة حقيقية تحتفي بقصيدة النثر وإقصائها عن جوائز الشعر؟
-        فوجئت بوصول روايتي للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد، خاصة أنني أطرح نفسي طوال الوقت كشاعر وليس كروائي، لكني سعدت جداً بهذا الترشيح، لأنه سيتيح للرواية أن تقرأ جيداً، وهو ما بدأت ألاحظه بالفعل في اهتمام الكثيرين بها بعد خبر ترشحيها. وأعتقد أن هذا هو الفوز الحقيقي لأي كاتب. أن تصل أعماله إلى القارئ. بالنسبة لقصيدة النثر، هناك جوائز قليلة جداً وبمبادرات فردية، لكن لا توجد مؤسسة كبيرة تتبنى جائزة لقصيدة النثر  سواء كانت حكومية أو خاصة، لكني أعتقد أن هذا جزء من المناخ العام، الذي يحتفي بالرائج دون اهتمام بفن مؤثر ومهم مثل قصيدة النثر، التي أعتقد أنها رغم ذلك التجاهل تحقق نجاحات في مجال الوصول إلى قراء جدد يوماً بعد يوم.
..........................
*نشر في جريدة الأخبار 5 ديسمبر 2019