عناية جابر
محمد أبو زيد شاعر مصري متميّز، له خمس مجموعات شعرية ورواية تحت عنوان «أثر النبي» صدرت في العام 2010، وتحمل هموم دواوينه الشعرية والإنسانية ذاتها، كشاب مصري عربي عاجز سوى عن التفرج على انكسارات وخيبات في مجتمعنا الكبير. الكتابة عند أبو زيد محاولته لإعادة ترتيب العالم حتى يصبح كما يروق له على ما يقول. معه كان هذا الحديث عن الكتابة، بالأخص كتابته الشعرية.
في قصائدك دائماً ذلك الشيء غير المتحقق، من هنا سر جاذبيتها؟
ـ التحقق هو النهاية، عندما أشعر بأنني قد وصلت سأجلس في بيتي، وأحادث أصحابي في فيس بوك وتويتر، وأتوقف عن الكتابة، الشاعر صوفي يبحث عن الله، عن الحقيقة، ويظل يبحث ويمضي العمر ولا يصل، الصوفي إذا وصل جن، أو كفر، أو مات، والشاعر إذا وصل فقد قدرته، لا يتبقى منه سوى كعب اخيل.
فيها أيضاً فن التعرية والتجريد من دون فقدان الوضوح المعماري للقصيدة على الصعيد الداخلي والخارجي؟
ـ كل ما كتبت منذ أول ديوان لي، وحتى آخر ديوان لي لا أعرف متى سيصدر، هو قصيدة واحدة، مختلفة المستويات، تتطور مع كل ديوان، قد تتكون هذه القصيدة من عشرة دواوين، ربما أكثر وربما أقل، أنا أعمل على «مشروع عمر»، أكتب وأنا أفكر في الدواوين المقبلة، والدواوين الفائتة، لذا فبعض شخوص الرواية موجودون في دواوين، مثل «عائشة»، أو «الشيخ أحمد عبد التواب»، وفي ديواني الجديد «مدهامتان»، الذي أعده للنشر قريبا، ستجدين إشارات لقصائد سابقة، وربما لاحقة، ما أريد أن أقوله هو أن لدي بناء معمارياً واضحاً لتجربتي الشعرية، أعمل عليه منذ ديواني الأول، أدرك أنني في كل عمل جديد أضيف لبنة جديدة فيه، عندما أضع آخر واحدة، سأتنهد ساعتها بارتياح وأقول: «حسنا يا رفاق، لقد انتهيت».
ما مصادر شعرك بمعنى ما هي قراءاتك ولمن من العرب والأجانب؟
ـ أقرأ لمن يكتب نصاً جميلاً، أحياناً أتمنى أن أستعيد مرحلة البدايات التي كنت أقرأ فيها كل ما يقع تحت يدي، من نصوص عربية أو مترجمة، لكن يبدو أنه مع الزمن وكثرة الإصدارات صار ذلك صعباً، لكن مع ذلك أحب دائما أن أقرأ النصوص الأولى لكتابها الشباب، دائما ما تكون ممتلئة بالطزاجة والبكارة، لكن قراءتي الأساسية، تبدأ من التراث العربي، وربما هذا ما يجعلني ألجأ كثيرا للتناص، أقرأ كثيرا في التراث الشعبي الإبداعي، أحب كتابة جيلي، وجيلي الثمانينيات والتسعينيات العربيين، أحب أدب أميركا اللاتينية، وأدب أميركا السوداء، أحب كثيرين، لكني أحب النصوص أكثر، النصوص هي التي تعرفني بالمبدعين.
المشهد متجمد
كيف ترى المشهد الشعري في مصر؟
ـ المشهد الشعري في مصر متجمد عند الخمسينيات، تمر الحياة ولا يمر، تجري السنون وهو واقف لا يزال يناقش قضايا انتهت منذ زمن، ما زلنا نناقش «هل هناك ما يسمى قصيدة النثر»، ما زلنا نتساءل «هل هي قصيدة أم نثر»، ما زلنا عندما نناقش ديوانا لشاعر نجد من يهب كعنترة وسط الندوة شاهرا سيفه في وجوهنا «تبت أياديكم، هل هذا شعر»، المشهد متجمد، ربما لأن الحياة نفسها متجمدة، ربما لأن التعليم يسحبنا إلى الخلف، ربما لأنه بعد ثلاثين عاماً من القهر لا زلنا نقف عند النقطة التي كنا نقف عندها، وربما لأن ناقداً خرج ذات يوم علينا بأن هذا زمن الرواية «فهرول الناس إلى الحواديت، وتركوا الشعر، ربما لأن أراوحنا صدئت ولم تعد تفهم الشعر، وربما لأن الشعر الذي يكتب لم يعد قادرا على إزالة كل هذا الصدأ عن الأرواح.
ثم هل تنقي الثورة الثقافة من شوائب عدة؟
ـ أعتقد أن الكتابة ستختلف بعد الثورة، أنا لا أستطيع أن أكتب بمعزل عن عالمي، والعالم تغير، العالم هو شارعي وجريدتي وقهوة الصباح و غرفة نومي وكتبي وجاري وضحكة طفلي وعبوس سائق الباص، كل ذلك تغير بعد الثورة، الثورة منحت العالم أسئلة جديدة لم يجب عنها أحد بعد، وأجابت عن كثير من الأسئلة التي كنا نطرحها من قبل، كان لدي نص طويل أعمل عليه قبل الثورة، لم أستطع استكماله بعدها، لأني شعرت بطاقة نور أضاءت النص كلها، وتركته معلقا، ربما يبقى على الثورة أن تنقي كما تقولين الثقافة من أمراضها، أن تخرج المثقفين من «الحظيرة» التي وضعهم فيها النظام السابق، على حد وصف وزير ثقافته فاروق حسني، أن تمنحنا الحرية في كتابة نصوص أكثر انفتاحا، من دون أسئلة تقليدية ظللنا ندور في فلكها خمسين عاما.
ماذا عن روايتك؟ لماذا الرواية؟
ـ لم أكتب الرواية عن قصد، وربما لن أكتبها مرة أخرى، في تعريفي على الرواية كتبت «شاعر مصري»، أقصد أنني شاعر كتب الرواية برؤيته، وهذا ليس انتقاصا من نوع معين من الكتابة، لكني أحب الشعر، ولذلك كنت أعطي الرواية لأصدقائي وأنا متردد وأقول لهم «أنا شاعر على فكرة يا جماعة».
هل تتيح المزيد من البوح الذي لا يتحمله الشعر؟
ـ الرواية لم تتح مزيدا من البوح بالنسبة إلي، بعض ما جاء في الرواية قلته في قصائد لي من قبل، لكن أريد أن أذكر بما قال الشاعر الإنكليزي «فيليب لاركن»، من أن الشعر يكتب الذات، والرواية تكتب الآخر، حسنا في الرواية كنت أريد أن أكتب الآخر، الرواية التي استغرقت كتابتها سبع سنوات، بدأتها في لحظة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، وهي الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، كنا نرى الحرب على الهواء، الأطفال والنساء والشيوخ يصرخون وتسيل دماؤهم على الشاشات أمامنا، ونحن لا نفعل شيئا سوى أن نشرب الشاي واليانسون على المقهى ونتفرج، نخرج في مظاهرات ندرك أنها غير ذات جدوى، فالحكام تآمروا كي تسقط بغداد، كتبت همي هذا في قصيدة اسمها «يقول محمد: نقية لدرجة أنه من المؤكد اسمها مريم»، في ديوان مديح الغابة، لكنني في الرواية أردت أن أكتب هم الآخرين، الذين كانوا حولي، كان الهم أكبر مني، ومن الآخرين، الذين رأيتهم يشيخون، لأن العجز أقعدهم عن فعل أي شيء سوى الفرجة ووضع الخد على اليد، وستجدين عالم القصيدة والديوان عالما واحدا، بل ستجدين الشخوص واحدة أيضا.
«الدوغما»
هنا سؤال يرتبط بوجود الأيديولوجيا في الرواية لديك، ألم تخش من الاتهام بالمباشرة؟
ـ أقول دوما إنه لا أدب بدون أيديولوجيا، حتى الذي يكتب رواية ذاتية، فهو في ظني يكتب أيديولوجيته الخاصة، وجهة نظره وإبداعه، نحن في عالم عربي تزيد السعادة فيه في متوالية عددية، فيما يزيد الشقاء في متوالية هندسية، كما قال ماركس، في ظل هذا يكون من الصعب أن تنخلع عن عالمك، ربما تسخر، ربما تخبئ أيديولوجيتك، لكنك لا يمكنك أن تخلعها تماماً، ولا يمكنك أيضاً أن تشهرها في وجوه الناس، شعرة معاوية التي بين الاثنين هي التي يمكن أن تنقذ النص، أعمال ماركيز ويوسا وكونديرا والليندي وساراماغو وبوليستر لا تخلو من الأيديولوجيا حتى لو بدت كذلك، القضية كيف ينتصر الإبداع على الأيديولوجيا في النص، لا أن يقتله تماما، وفي الرواية كنت أتناول حدثاً مهماً، وملهماً وهو الاحتلال الأمريكي للعراق، تناولته من خلال تأثيره في مجموعة من الشباب يعيشون في عالم مغلق، تحاصره قيود الأمن والفقر والعوز والوحدة، فهل سيهتم هؤلاء المشغولون بقضايا وأحلام بسيطة، بالقضايا الضخمة، كان هذا أحد أسئلة الرواية.
هل هذا يعني أنك تكتب أدبا في خدمة الأيديولوجيا؟
ـ هناك فارق بين أن تكون لدي أيديولوجيتي الخاصة، وبين أن أكتب أدبا أيديولوجيا، بالنسبة إلي أفضل فكرة المثقف المستقل، البعيد عن أي حزب، أو تيار سياسي، فحزبه وتياره هو إخلاصه لإبداعه وإنسانيته، أرفض تماما فكرة «الدوغما» في السياسة، والأدب والحياة، لكن هذا لا يعني أن الأديب لا يحمل وجهات نظر في الحياة، وجهة النظر هذه هي التي تجعله يكتب نصه، كل شيء وجهة نظر، هذه الإجابات وجهات نظر، وأيديولوجيا، الشيء الثاني أنني أرفض تماما فكرة أن يكون الأدب في خدمة الأيديولوجيا، لأنه في هذه الحالة لن يصبح أدبا، لكن ما أريد أن أقوله، هو أن الكاتب في لحظة الكتابة يتخلى عن هذه الأيديولوجيا لكنها تتسرب إلى نصه لأنها أفكاره، المهم ألا تطغى الأيديولوجيا والمباشرة على النص فيفقد فنيته، أنت لا تستطيعين نزع الشاعرية من محمود درويش أو محمد الماغوط رغم أيديولوجيتهما الواضحة، لا تستطيعين نزع الفنية من صنع الله إبراهيم أو إبراهيم الكوني أو رشيد الضعيف أو أمين معلوف أو عبد الرحمن منيف لمجرد أنهم كتبوا نصا يحتمل التأويل، المهم ألا يزعم الأدب أنه يقدم الأيديولوجيا، الإشكالية عندنا في العالم العربي، أننا لا نرى إلا جانبا واحدا من العملة، ولا نصدق أن هناك جانبا آخر، ونريد من الجميع أن ينظر من جهتنا نحن فقط، فنفي الآخر هو أسهل ما نمارسه.
ــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق