محمد الشماع
قصيدة النثر. هذه البناية التي جاورت الأنواع الأدبية في منتصف التسعينيات، لي معها تاريخ من الاضطراب والانزعاج. حبي لأشعار عبد الصبور ودنقل وحجازي ودرويش، يمنعني من الانجذاب لهذا الفن، الذي طالما عدد رواده ومريدوه، مكامن الجمال فيه، وصوره البراقة اللامعة، سارقة الأنظار والأفهام، وحريته في كسر الوزن، الذي يعتبروه أحد التابوهات الكبرى.
أقرأ الرواية في ظروف خاصة. كذلك أفعل مع المجموعات القصصية، ودواوين شعر التفعيلة، والعامية. ربما لا أحتاج لهذه الظروف، وقت قراءتي لديوان نثري. فأغلب ما قرأت من قصيدة النثر، يشبه بعضه. الصور تكاد تكون مكررة، القاموس اللغوي، متشابه إلى حد كبير. لا متعة ولا شغف ولا قلق، فأخرج من الديوان بلا شئ جديد.
في حديثي مع أصدقائي من كتاب قصيدة النثر، دائما ما أقول "ربما العيب في". لكنني في نفسي، متأكد أن العيب هو عيب النوع الأدبي. ولكن مع ديوان "مدهامتان" للشاعر محمد أبو زيد، عرفت أن العيب ليس عيب النوع الأدبي. فالديوان ينتمي إلى قصيدة النثر، لكن المتعة، والشغف والقلق، تسربا إلى داخلي، أثناء قراءتي، وكأنني أقرأ لدرويش ودنقل وعبد الصبور.
"مدهامتان" هو اسم الديوان، وهي الآية رقم 64، من سورة الرحمن. وهو أيضا وصف للجنتين، الذين وعد بهما الله تعالي لـ"من خاف مقام ربه"، في السورة، وفي اللغة، هو اللون الأسود من شدة الخضرة. هكذا في البداية، يجعلني أبو زيد أفكر، في مغزي اختياره لهذا الاسم.
في طرف الغلاف الداخلي، صورة لطفل معمم. يشبه أبو زيد. لم أجتهد كثيرًا في معرفة أن الصورة، هي صورته وقت أن كان في المرحلة الابتدائية، من دراسته الأزهرية. لم يتغير أبو زيد في ملامحه، إلى حد جعلني أشعر حينما كنت أقرأ بعض قصائد الديوان، أن روح الطفل أبو زيد، حاضرة.
صه أيها الموت / ماذا تريد بعد أربعة دواوين مفعمة بالجثث / برائحة البارود والجماجم الطائرة / بالدم والسل والطاعون / لم يعد بإمكاني تقديم قرابين أكثر / تعبت
بهذه السطور افتتح الشاعر ديوانه. فكانت كالمقدمة، التي تسبق الدراسة. والذي يسرد فيها الباحث أهداف وخطوات دراسته، والنتيجة التي توصل إليها. يبدو أن أبو زيد، سيأخذنا لرحلة من القلق، والخيال القاتم. يتحدث مع الموت، بل يأمره الإنصات، والتروي، ومنحه الفرصة أن يتحدث عن أشياء أخرى، وأن يكف عن نيل القرابين.
في القسم الأول، والذي منحه الشاعر اسم "ذهب محمد إلى الحقل"، نحو 12 قصيدة، سيطرت على معظمها فكرة الحنين إلى الماضي. ففي قصيدة "الغابة الخضراء الواسعة" تجده يقول:
أريد أن أعود طفلا مرة أخرى / أحب / ويتحطم قلبي الغض / أحلم بالكتابة والثورة / أعرف الفارق بين العدو والصديق / أتخلى عن حكمة الشيوخ / وأعود حيوانا بريا / يجري سعيدا في الغابة.
الشاعر أيضا، يرسل بطله، إلى عالم الكهولة، ليحلم معه بزمن كان فيه قويا، يافعا، قادرا على صنع الكثير. في عالم الكهولة، يندم البطل، على عمره، وعلى قوته التي خارت، وعلى حكمته، التي لم تكن. كما في المقطع السادس، من قصيدة "أنا خائف يا أليس":
عندما أعود صغيرا / سأعيد قراءة كتاب لم أكمله / وضاع مني / سأتوقف عن مطاردة دود القز وأفراس النبي / سألعب / ألعب حتى تنبري قدماي / أحتفظ بقصائدي الأولى التي مزقتها / أمسح جبهة حماري الذي ضربته / اشتري عينين جيدتين من البائع الذي يلف في الشارع / أبكي أكثر على قطتي حتى تعود من الموت / أهرول كي أنقذ كرتي من السيارة المسرعة / عندما أعود صغيرًا ، لن أصبح كبيرًا.
تناقض مدهش، يحمل في طياته سخرية بالغة، بين عنوان قصيدة "السعادة الحقيقية تجدونها في هذه القصيدة" وبين نصها الذي يبدأ:
لأنني أحبكم / أريدكم أن تموتوا الآن / أريد أن أمشي خلف جنازاتكم / واحدا وراء الآخر.
أبو زيد، يمتلك ناصية لغوية عظيمة، ويعشق التجريب. نراه يلعب بالتراكيب اللغوية، في قصيدة "برج الثور: حب جديد يغزو قلبك". نراه يكرر اللفظ أو التركيب الذي ينهي به سطره الأول، من كل مقطع في القصيدة، في أول السطر الذي يليه:
حبيبتي خضراء كالغابة / الغابة التي احترقت أمامي منذ قليل ..... حبيبتي حزينة كالآر بي جي / الآر بي جي الذي قتلني في الحرب ..... حبيبتي خالدة كالظلام / الظلام الذي يمتصني ولا أراه
في مقطوعة "أعلق صورتي على الجدران وأكتب تحتها wanted" يكتب الشاعر قطعة أدبية، أقرب في الشاعرية، للشعر، وأقرب في الشكل، للقصة.
"فك رقبة" هي آية في سورة البلد، اتخذت من الحكمة مبلغا. بموجبها، حرر الله ملايين من بني البشر، من الرق والعبودية. الآية جاءت في سياق قوله تعالى، "فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة"، ومعناها أن اجتياز العقبة أو أهوال يوم القيامة، وقيل أيضا أن العقبة هي جبل فى جهنم، لا يكون إلا بالأعمال الصالحة فى الدنيا، وعلى رأسها "فك الرقبة" أى تخليص النفس من الرق.
ولكن لماذا أطلق الشاعر، هذا الاسم على القسم الثاني من الديوان؟. أعتقد أنه أراد أن يعتق، أو يفك رقبة الصورة الشعرية، ويحررها من قيودها، ويطير معها في آفاق خلط التاريخ بالواقع بالخيال. ففي مقطوعة "ليل / داخلي" يمزج أبو زيد مشهدا سينمائيا من فيلم غزل البنات، بالواقع كما يراه هو، فيقول:
في مشهد أخير من غزل البنات يبكي نجيب الريحاني وهو يرتشف: "وعشق الروح مالوش آخر.. لكن عشق الجسد فاني"، ثم يقرر ترك قلبه، وليلى مراد في الميكروباص، ويستقل المترو المتجه إلى المرج، حين يناديه قلبه بعد ذلك، سيعلق عينيه على شماعة الحمام حتى لا يراه.
يخرج الشاعر في هذا القسم أيضا، عن المعدل الطبيعي، لحجم قصائده، فيورد قصائدا متناهية في القصر، مثل "مبررات النسيان"، و"تبدو دائما على أهبة الابتسام.. ثم تبكي، و"لا أريد أن أكرر تحذيري لكم"، وقصائد أخرى طويلة، مثل "لو قلت حبيبتي كالقمر..هل أكون كلاسيكيا؟".
أبو زيد له رواية، أصدرها منذ عامين، بعنوان "أثر النبي"، لذلك هو يقول في قصيدته الأولى "الشاعر والروائي"، من القسم الثالث والذي منحه اسم "الخوارج":
العام الماضي كنت روائيا / كنت سعيدًا كبطريق / تناول إفطاره مبكرا / ثم لعب الكرة مع سمكتي "حنكليس في الشارع
قصائد هذا القسم بالذات أراها تجارب ذاتية عاشها الشاعر، في طفولته وصباه وشبابه، يعود ليرويها بعد فترة تأمل، ففي قصيدة "أحمد العسكري"، يروي أبو زيد، بشكل موجز، رؤيته الجديدة لمشاعره تجاه صبي فقد ساقيه في حادث، واستبدلهما بساقين حديديتن. أما في مقطوعة "قصة البلكونات الطائرة"، فيعيد صياغة صورة كان يراها دائما في القرية، وهي مشهد تراص سكان القرية في البلكونات، وكأنها معلقة في الهواء، ويشبه هذا المشهد بقصيدته التي هي الأخرى معلقة، بين الأيديولوجيات.
أكثر أبو زيد في هذا القسم من المقطوعات، وربما هو خروج آخر عن شكل القصائد المألوفة، فيورد مقطوعات بعناوين "شاطر ومشطور وبينهما جثة"، و"لغز الحلم"، فضلا عن "قصة البلكونات الطائرة".
في قسم "القصائد المرة"، ربما يستعين الشاعر، بفكرة سلسلة الأفلام الأمريكية، التي حملت اسم "فيلم رعب"، و"فيلم تاريخي"، فأتت قصائد أبو زيد بأسماء "القصيدة الخراب"، و"القصيدة السامة"، و"قصيدة رعب"، و"قصيدة أكشن"، و"قصيدة اجتماعية".
هذا القسم بالتحديد، أراه أفضل أجزاء الديوان، فقد تملكت أبو زيد خلاله، روح الشاعر المبصر، المتملك من أدواته اللغوية والخيالية. يجعلك تتحرك بروحك، وتعبر القارات، بحثا عن منزل باولو كويلو، مثلا في "القصيدة الخراب"، أو حانة إليوت، في "القصيدة السامة"، أو شوارع أفلام آل باتشينو، في "قصيدة أكشن". تتحرك في الزمن، لنقرأ أشعار الميدوسا، والكوميديا الإلهية، وقصة تاجر البندقية، وتاريخ عصر المماليك.
"عاد لينتقم". هو عنوان القسم الخامس، من الديوان، وفيه تحدى الشاعر، قصيدة التفعيلة، والقصيدة العمودية. فيكتب قصيدة "صورة القاف على التي شيرت الأزرق"، وهي قصيدة عمودية، من بحر البسيط، يقول فيها أبو زيد:
يا قاف يا قلق يا قاف يا قلقي / قد وافق القوم لكن ويحه ودقي
قلق تدفق في الانفاق مفتقدا / دق النقيق إذا ما ضقت يا طرقي
الشاعر يقيم علاقة حية، مع الأنواع الأدبية، يجعلها هدفا مرة وسخرية مرة أخرى، كل ذلك في نصوص تشعر معها بأن النوع الأدبي كائن حي له لحم ودم.
في قصيدة "من أخبر هذا المقهى أني صعلوك؟"، يعود الشاعر لشكل التفعيلة، ويكسره تماما، في القصيدة الثالثة من هذا الجزء، "نعناعة في فستان عائشة"، فيملأه بالهوامش والمشاهد، والتي تشكل تحديا لشكل القصيدة.
في القسم قبل الأخير، والذي يحمل عنوان "أحفر مقبرتي وأغني"، يقدم الشاعر مجموعة من القصائد، تؤهل قارئه للنهاية، وكأن أبو زيد يقرأ معنا الديوان. فهو يكسر الإيهام والحاجز، بين القارئ والنص، بصورة مذهلة.
وفي القسم الأخير، والمكون من قصيدة واحدة، حملت عنوان "من يدل الكفيف – مرة أخرى – على الطريق يا رب؟"، يجعلك أبو زيد تشعر، بأنها نهاية حياة الشاعر، فهو يمارس هوايته، التي بدأها في ديوانه، بكسر كل الحواجز، وتحدي كل الصعاب، في أنه يجعل من الديوان، وكأنه حياته التي تنتهي بنهاية الديوان.
ـــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق