لم تكن ثورة 25 يناير، إيذانا بخروج الشعب
المصري على الحكم الشمولى، والسلطة الأبوية القمعية للنظام السابق فقط، بل كانت
أيضا إيذانا لخروج قواعد، وقيادات إحدى
أكبر وأقدم الجماعات السياسية في مصر، جماعة الإخوان المسلمين، على سلطتها
الأبوية، والقمعية أيضا، وتفتح الباب واسعا لخروج شبه جماعي، من شباب عرف طريقه في
ميدان التحرير إلى مغزى الاختلاف السياسي، وقيادات أدركت أن الطريق أصبح مفتوحا
أمامها لتصنع مشاريعها الخاصة، بعد أن فشلت في حصد مكاسب تليق بما قدمته للجماعة.
يمكن إذن القول أن الثورة على النظام السابق في
الدولة المصرية، تزامنت معها ثورة أخرى، على النظام القديم في جماعة الإخوان
المسلمين، التي تمتد أصابعها في 82 دولة حول العالم، وضد سيطرة التيار القبطي،
المتشدد على الأمور في مكتب الإرشاد، ضد التيار الإصلاحي الذي كان يقوده نائب
المرشد السابق الدكتور محمد حبيب، الذي أطيح به من المنصب الذي كان قاب قوسين أو
أدنى منه، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، أحد المشاركين في التأسيس الثاني
للجماعة في السبعينيات، والذي وجد أن مشروعه الخاص قد يستطيع أن يستوعب أحلامه التي ضاقت بها أفكار سيد قطب
التي تحيط بعقول مكتب إرشاد الجماعة العتيقة.
لم يكن الخروج خروج القيادات الإصلاحية التي يئست من الإصلاح في الجماعة فقط، بل كان
خروجا لجزء مهم ومؤثر من قواعد الجماعة وشبابها، وجدوا أن الجماعة لا تتواصل معهم،
ولا تستمع إليهم، كما وجدوا أن لديهم عقول تفكر، ولا تستجيب "للسمع
والطاعة"، بشكل آلي، وربما يكون هذا هو ما يجمع كل من خرجوا، ومن الممكن
القول إن إرهاصات هذا الخروج الشبابي، تجلت مع ظهور الفضاء التدويني قبل سبع
سنوات، وانتشاره في مصر، ولجوء شباب الجماعة إلى نشر أفكارهم في مدونات تخصهم،
يصطدمون فيها بالبيعة، ويختلفون فيها مع "السمع والطاعة"، لكن التحول
الأعظم لدى هؤلاء الشباب، الذين خلقوا صوتا إليكترونيا لهم، يثير القلق داخل أجهزة
الأمن، وداخل مكتب الإرشاد أيضا، كان في ميدان التحرير، في ال 18 يوما المجيدة،
حينما اكتشفوا أن هناك أصواتا أخرى تستحق أن تسمع، وأن اليساريين ليسوا كفارا، وأن
الناصريين لن يعذبوهم كما فعل عبد الناصر، وأن النقاش طريق طويل، لكنه ينتهي
بالاقتناع، لا بالإذعان.
ما أريد قوله أن الثورة التي تفجرت داخل
الجماعة، مرت بنفس المراحل التي مرت بها الثورة في مصر، منذ الالتفاف حول فضاء
إليكتروني، وتلاقي الأصوات المعارضة التي تلتقي على معنى واحد، انتهاء بالميدان،
الذي كما خرجت منه عشرات الائتلافات، والتيارات السياسية، خرجت منه أيضا حركات
إخوانية مناوئة، وأحزاب خلعت زي الإخوان، وارتدت زي الإسلام الوسطي.
شباب الإخوان الخارجون، اختاروا أن يؤسسوا حزبا
باسم "التيار المصري"، ضم عددا من شباب الثورة ذوي الميول الإسلامية،
وبعض الخارجين عن طوع الجماعة، مثل معاذ عبد الكريم وأسماء محفوظ وعبد الرحمن فارس
وإسلام لطفي، وقيادات الجماعة اختارت أن تؤسس حزبا باسم "حزب النهضة"،
انضم إليه الدكتور محمد حبيب، والمهندس إبراهيم الزعفراني، فيما التف حزب الوسط،
أول الأحزاب المنشقة عن الجماعة، قبل 17 عاما، وأول الأحزاب المشهرة بعد الثورة،
أن يلتف حول تجربة الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح في الترشح للرئاسة.
من المهم هنا الإشارة إلى أن عددا كبيرا من
الرافضين للجماعة، وطريقتها الأبوية القمعية، لا زالوا مستمرين داخلها، وسط
تهديدات بفصلهم، ولعل التاريخ القريب يذكر لنا تلك الوقفة التي نظمتها جماعة
"صيحة إخوانية"، بقيادة محمد عبد الهادي، زوج ابنة خيرت الشاطر، ضد ترشح
"حماه"، لرئاسة الجمهورية، قبل استبعاده، من اللجنة العليا لانتخابات
الرئاسة، لكن ما كشف الأزمة التي تعيشها الجماعة مع قواعدها كان قرار الدكتور عبد
المنعم أبو الفتوح عندما قرر قبل عام الترشح للرئاسة، بالمخالفة لقرار الجماعة،
ورغبة عدد كبير من شباب الجماعة في دعمه، وتهديدهم بالفصل من مكتب الإرشاد، وهو
الأمر الذي كان أحد أسباب دفع الجماعة بمرشح منها.
لكن الأمر لا يمكن تبسيطه بهذا الشكل المخل،
فأحد أسباب خروج عبد المنعم أبو الفتوح من الجمعة، هو صراع الإصلاحي والبنكير على
مستقبل الجماعة وعلى قراراتها، وأقصد بهما، أبو الفتوح كإصلاحي، والشاطر كرجل
أعمال، يستطيع أن يدير مكتب الإرشاد، ويحركه، بل ويتدخل لاختيار 30 في المائة من
مجلس شورى الجماعة يصوتون لصالح قراراته، مستغلا في ذلك نفوذه المالي الكبير،
وميله إلى الجناح القطبي، الذي عاد أواخر الثمانينات، بعد رحيل مرشد الجماعة عمر
التلمساني، ليسيطر على الجماعة.
الملاحظة الأساسية، التي يمكن اكتشافها في
الخارجين من الجماعة عقب الثورة، سواء كانوا من القيادات أو من الشباب، هو لجوئهم
إلى كتابة مذكراتهم، التي يرون فيها تجاربهم المريرة مع الجماعة، ويفتحون صندوقهم
الأسود للقارئ ليعرف ما يدور في دهاليز الجماعة التي تخفيها منذ 84 عاما.
لم يكن موضوع كتابة المذكرات، وفضح ما يدور في
كواليس التنظيم معروفا قبل الثورة، وربما يمكن عد الكتب التي فعلت ذلك على أصابع
اليد، وإن جاء بعضها انتقاميا، مثل كتاب المحامي الإخواني السابق، ثروت الخرباوي، والذي
حمل اسم "من قلب الإخوان ـ محاكم تفتيش الجماعة"، والذي نشره قبل الثورة
بأشهر قليلة وتحدث فيه، أن جماعة الإخوان تحولت إلى مُحطم للشباب، وتكبلهم بالإداريات
التى تشل حركتهم وتقتل الإبداع داخلهم، وأصبح التنظيم بسبب قيوده سجنا لأعضائه، وصار
جمهور السلفيين أكبر من جمهور الإخوان ثلاث أضعاف، وأن الجماعة تحولت إلى كيان طارد،
وانتهت إلى معهد كهنوتى يسيطر عليه القطبيون الذين تسببوا فى قلب الجماعة الدعوية التى
أسسها حسن البنا إلى جماعة أخرى لا يعرفها أحد غير القائمين على مقاليد الأمور فيها.
كتاب الخرباوي الذي يروي فيه تجربته الشخصية مع
الجماعة، يشن هجوما كاسحا على الجماعة، وعلى قادتها، لكن الملاحظة الأساسية في هذا
الكتاب، وفي الكتب التي صدرت بعد الثورة لخوارج الجماعة، أو حتى في تصريحاتهم
الصحفية عن أسباب الانشقاق أن الخلاف في كل هذا هو خلاف إداري مع قادة الجماعة،
ومكتب إرشادها، وليس خلافا فكريا، بمعنى أن كل الخارجين لا يزالون يدينون بالولاء
لأفكار الشيخ حسن البنا، ويقدسونها، ويرون أن المشكلة أن الجماعة لم تحسن تطبيقها،
وأنها خرجت عن الطريق، ولعل هذا يكشف السبب الذي دفع عددا من خوارج الجماعة أخيرا،
إلى تأسيس جمعية باسم "جماعة الإخوان"، تستعيد أفكار البنا وتطبقها مرة
أخرى.
أبرز الكتب الاعترافية التي صدرت، هو كتاب
"ذكريات محمد حبيب ـ عن الحياة والدعوة والسياسة والفكر"، والذي صدر
أخيرا عن دار الشروق، وإن كان يبدو فيه أنه يبكي على الأطلال، وعلى الدعوة التي
سلبت، وأيضا كتاب "عبد المنعم أبو الفتوح ـ شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية
في مصر"، والذي حرره الباحث الراحل حسام تمام، وقدم له الدكتور طارق البشري،
وصدر عن نفس الدار، والكتاب وإن كان لا يوضح فيه اصطدام أبو الفتوح بمكتب الإرشاد
الحالي، لأنه ينتهي زمنيا في التسعينيات، إلا أنه يوضح دوره الإصلاحي، في بناء
الجماعة قبل اغتيال السادات، وبعد حادث المنصة.
الشباب يبدون أصحاب الحظ الأوفر في النقد
والصراحة، وهو ما فعله الكاتب الشاب أسامة درة، عندما أصدر كتابيه "من الإخوان إلى التحرير"، ثم
"من داخل الإخوان أتحدث"، وقدم نقدا لتجربة تعامل الجماعة مع قواعدها،
وهو أيضا يشبه العتاب الخفيف الذي قدمه أحمد العجوز في كتابه "إخواني أوت أو
ذا بوكس".
لكن من التجارب المهم ذكرها هنا، كتاب
"حكايتي مع الإخوان"، للروائية انتصار عبد المنعم والذي صدر أخيرا عن
هيئة الكتاب، والذي تقدم فيه تجربتها مع الجماعة منذ تجنيدها، حتى تركها، رغم ما
تعرضت له من تخوين وتكفير، ومن المهم هنا أن نذكر ما قاله أحد أعضاء مكتب الإرشاد
تعليقا على خروج بعض أعضائها "الجماعة تطرد خبثها"، وهو ما يكشف إلى حد
كبير كيف يتعامل التنظيم مع الخارجين، أو المارقين، وما يفسر أيضا سر المرارة التي
يشعر بها، من قرروا الخروج إلى النهار.
شهدت الجماعة على مر تاريخها خروج الكثيرين
بداية من عبد الرحمن السندي، صديق البنا والذي أسس التنظيم الخاص، مرورا بأحمد
السكري، وجماعة شباب محمد، وانتهاء بأبو العلا ماضي، وعصام سلطان وأبو الفتوح وهيثم أبو خليل وعبد الجليل الشرنوبي وحبيب
وكمال الهلباوي، لكن تبدو الإشكالية الأكبر أن الجماعة بعد أن خرجت من طور العمل
السري إلى طور العمل العام، أصبحت كتابا يجب أن يكون مفتوحا أمام الجميع، وتأسيسها لحزب حمل اسم الحرية
والعدالة، يستوجب عليها أن تتخلص من الفكر التنظيمي الحركي للجماعة، وأن تدخل في
التنظيم السياسي، وهو ربما ما لن يحدث، لأن الجماعة لم تزل تحلم ب "أستاذية
العالم"، كما تخيلها حسن البنا.
بعض كتاب الخارجين من الإخوان تأتي على سبيل
التطهر، أو إبراء الذمة، أو بحسب تعبير أسامة درة "كتبت لأستريح"، لكنها
تكشف جانبا مهما من التكوين التنظيمي للجماعة التي لعبت دورا مؤثرا في دراما
السياسة في مصر، طوال ال 84 عاما الماضية،
لكن يبدو أن القادم أكثر دراماتيكية.
ـــــــــــــــــــــــــ
نشر في أخبار الأدب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق