ياسمين
مجدي
الكتابة بوصفها وصية
أو سجل يخلد الشاعر فيه نفسه..هي أحد أغراض الكتابة.. لكنها تبقي مجرد محاولة للبقاء..
في رحلة يبدو الرحيل فيها هو الجزء الأقوي والأكثر تأثيرا. يمكن للكتابة كذلك أن تكون
تجربة لمقابلة الموت في عدد من النصوص الشعرية بديوان الشاعر المصري محمد أبو زيد
"مقدمة في الغياب" الصادر هذا العام عن دار شرقيات.
يأخذك ديوان
"مقدمة في الغياب" بإهدائه "إلي جدتي"، إلي منطقة مملوءة بالحنين
والدفء العائلي ولحظات الزخم والونس الذي يقاوم كل ما يسير به الزمن من وحدة ومسئوليات.
يركض الزمن لدرجة أنك حين تقلب الصفحة تكون كهلاً وقد وصلت للحافة، حيث نص " كهل
علي الحافة".
ذكريات
زمنية ومكانية
الرحلة لدي محمد أبو
زيد.. هي معني مزدوج.. الأول هو الرحلة في الزمن..والتي يكون هاجسها طوال الوقت الموت..
الرحلة الثانية هي الرحلة في المكان بسفره خارج مصر.. ويكون هاجسها الذكريات. باجتماع
الرحلتان في الديوان، نجد أنفسنا أمام كم هائل من الذكريات في مواجهة الموت..تركيبة
غاية في التضاد..حيث الذكريات التي تمثل الحياة في مواجهة الموت. تتكرر علاقات التضاد
الشديدة، لنجد "حي شعبي في مدينة طاردة للسكان".. كيف يكون الحي الشعبي بكل
ما يتسم به من دفء في مدينة باردة كارهة للناس.. هو بالتأكيد حي شعبي به "أصوات
باعة الخضار.... تشبه صوت البكاءين".
من وحي فكرة التضاد
نجد الشاعر لا يلجأ للحنين بل بالعكس يوغل في الكتابة عن البعد.. سواء البعد عن الوطن
بحديثه عن جماليات في الغربة، أو بالبعد عن الحياة بمرافقة الموت. يبدو الديوان كأنه
ديوان المراوغة.. ديوان يقاوم الاستسلام للحنين ويقاوم الارتباط بالمكان، فيقول الشاعر
أنه رفض إدخال قطة إلي شقته حتي لا يصنع ذكريات.
أبطال النصوص في الغالب
مفردات أو أشياء، لكن البطل الإنساني غير واضح غالبا. وبملاحظة ذلك يبدو المعني الذي
يمنح قيمة الأشياء غير موجود، الأشياء والكائنات متراصة وفي أماكنها لكن شيئًا يغيب،
مثل يد الشاعر التي تكتب القصيدة ولا يجدها، مثل علب العصير الموجودة في الثلاجة إلي
جوار بعضها البعض لكنها لا تحس شيئا تجاه بعضها. المفقود هنا هو البطل الإنساني، لأن
كل الأشياء الحاضرة هي الأشياء الهامشية، لكن حضورها أقوي لإحساس الشاعر دائمًا بالموت
أو الغياب. وعبر تلك الأشياء يمارس جنونه، ويبتكر علاقات غير مألوفة "في سفينة
تشق البحر/ أضع إصبعي في عين حوت".
العالم في المواجهة
يلح بمفردات تشعل الحنين، فيكتب الشاعر كيف أن أصوات الطيارات تتحول مع الوقت إلي منبه
يذَكِّره بصوت القطار في قريته ثم صوت وابور الطحين. هل يجب دائمًا أن نغيب لكي نستعيد
الأشياء. الهوية والنافذة ومفردات كثيرة يستخدمها الشاعر محمد أبو زيد للتأكيد علي
الحالة:
يبدو ديوان
"مقدمة في الغياب" مثل محاولات وتمارين لمقابلة الموت.. هل الحديث عن الأشياء
بكثرة يبطل الخوف منها.. يجعلها حقيقة واقعة نتقبلها.. يبدو الموت لدي محمد أبوزيد
أنه الأصل في مواجهه بضعة أحداث يمكن تسميتها "الحياة".. يعترف "أنا
ميت". ويُعطي تصورات متعددة حول تجربة
مقابلته للموت. يصبح الموت الرفيق الأقوي علي مدار الصفحات. تظهر بذلك الحياة بوصفها
مجرد مقدمة للمتن الذي هو الغياب. كأن رحلة الحياة هي رحلة في أساسها لمقابلة الموت
"كان بداخلي طفل""أريد أن ....أخرج/ تاركا كل شيء خلفي/ كما رأيته أول
مرة". ماذا لو كان في إمكان الشعراء كتابة وصية عامة في ديوان، كما يذكر أبو زيد:
"بمجرد عبورهم من أمام قبري/ لا يبقي في ذهنهم/ سوي هذه القصيدة/ التي أحاول أن
أحشر فيها خلودي/ قدر الإمكان".
بالنسبة لزمن الفعل
في النصوص، فيكون الفعل الماضي هو المستخدم في الحديث عن الموت.. قد يريد الكاتب بذلك
الاعتراف بأن الموت حاضر منذ البدء، وأن الرحيل هو التجربة القديمة الثابتة. علي الناحية
الأخري نجد الفعل المضارع في النصوص التي تتحدث عن مفردات العالم وعن محاولة الشاعر
طوال الوقت لتغيير العالم ورقيًا وابتكار علاقات جنونية بين مفرداته، كأن الشاعر بالفعل
المضارع يقول للقارئ كن موجودًا بينما أحاول تغيير العالم ورقيًا.
الحس الساخر حاضر
في النصوص ، حتي التي تتحدث عن العنف وتشويه العالم، ولا يخلو الأمر من رسائل يوجهها
الشاعر لأشخاص بأسمائهم، نساء ورجالا.
يبقي أن الذين يسافرون
يتركون أشياء وراءهم: "كجارتي اليونانية التي سافرت ولم تعد/ تاركة حبات الفيشار
ترقص من يومها علي النار/ دون أن توقف الموسيقي". وكل الذين يشهدون سفر الأخرين،
يكبرون، تمضي بهم الأيام ،تغيروا وتغيرت سماتهم وقست قلوبهم: "سرنا وراء الجنازات
وقست قلوبنا"، "كما أن الطريق إلي المدرسة تغير كثيرًا، أكثر منا".
لذا سيبدو الموت هو الرفيق للذكريات الماضية ولذكريات قادمة في نصوص محمد أبو زيد.
هناك تعليقان (2):
thx
شركه تنظيف
thx
كشف تسربات المياة
غسيل خزانات
شركة نظافة عامة
إرسال تعليق