أحفظ عنوان البيت عن ظهر قلب، رغم انقطاعي عن زيارته بسبب السفر خارج
البلاد والانشغال غير المبرر بالعمل. أعرف الطريق جيداً. الترام من ميدان رمسيس
يشق الطريق إلى مصر الجديدة، قاطعاً ميادينها الشهيرة: تريومف، سانت فاتيما، والحجاز،
ثم يعبر بجوار نادي الشمس. أهبط من الترام وأقطع باقي الطريق سيراً. خطوات قليلة
على الدرج، وأجد الأستاذ محمد جبريل يفتح لي باب شقته، بابتسامته المربّتة
والأبوية والمرحبة دوماً.
لا أعرف عدد المرات التي قطعت فيها هذا الطريق، لكنها أكثر مما أذكر. لفترة
طويلة كنت أذهب إلى هذا العنوان بشكل يومي، لأجد استقبالاً حاراً ومرحباً دوماً.
لفترة طويلة كان ـ ولا زال ـ هذا البيت بيتي، الذي أرتاح فيه من هموم الغربة،
وألقي شكواي بين يدي الأستاذ جبريل، الذي ينصمت باهتمام، ثم يصف لي بمحبة شديدة
طريق الحل. أحفظ كل شبر في البيت الذي يمكن اعتباره ـ بلا مبالغة ـ مكتبة كبيرة،
تحولت إلى شقة، في كل ركن كتاب، وإلى جوار كل حائط رف كتب، حتى سقف الممر بين
الغرف تحول إلى مخزن للكتب.
لخمس سنوات متواصلة، كنت أحضر ندوة جبريل، في نقابة الصحافيين القديمة ثم
الجديدة ثم في مقر جريدة الجمهورية، يتحول يوم الخميس إلى يوم مقدس، ألتقي فيه مع
كتاب من جيلي، ومن أجيال سابقة، نتحدث في الشعر والأدب ونتناقش حول نصوصنا الجديدة.
تبدأ الندوة في السابعة، وتتوقف قليلاً عندما يحضر النادل، فيطلب الأستاذ جبريل
"شاياً باللبن" لنفسه، ويدعونا على مشروبات، يصر في كل مرة أن يدفع
ثمنها. تتواصل الندوة، ينصت خلالها باهتمام إلى كل نص يقال، يرفض التدخل في
النقاش، تاركاً لكل منا حرية التعبير عن رأيه في النصوص التي تطرح، يتدخل فقط ليصد
الهجوم إذا طال كاتباً في بداية طريقه أو قال نصه الأول، مانحاً إياه دفعة للأمام
ودعوة لمواصلة الطريق.
خلال هذه السنوات الخمس، التي عرفت فيها الأستاذ جبريل، في الندوة، والبيت،
ومقر العمل أيضاً، تعلمت منه الكثير؛ أولها الإخلاص الشديد للكتابة، فلم أره مرة،
في البيت، أو في الجريدة، أو في طريقه إلى العمل، أو في الندوة التي كان يسبقنا
إليها ويجلس في انتظار وصولنا فرداً فرداً، إلا ممسكاً بكتاب، ينتهي الكتاب فيخرج
آخر من حقيبته ويبدأ في قراءته على الفور، ويضع بقلم رصاص صغير ملاحظات على الهامش،
أو منهمكاً في تدوين ملاحظات ما، أو منشغلاً في العمل على رواية أو كتاب جديد.
تعلمت من جبريل، أن تكون الكتابة هي الحياة، وأن تتحول الحياة إلى كتابة،
فأزعم أنه يعيش بالكتابة، أعني أن الكتابة هي التي تمنحه الطاقة على العيش،
واحتمال الحياة بمنغصاتها التي لا تنتهي.
تعلمت من جبريل فضيلة الاستغناء، أعرف جيداً أنه تخلى عن كل ما في الحياة،
لم يخض معارك مع أحد على منصب أو جاه أو رغبة في ظهور، لم ولا ينتظر شيئاً من أحد،
حتى من تلاميذه الكثر الذين تخرجوا من تحت يديه، في الندوة أو في الجريدة، ولسنوات
طويلة، فشغلتهم الحياة وأنستهم فضله عليهم، وفضّل أن يكون في معية الكتابة، وهذا
ما يريده.
لم يكن جبريل بالنسبة لي مجرد صاحب ندوة أحضرها كل يوم خميس في نقابة
الصحافيين، تعرفت فيها على الكتابة الحقيقية وساهمت في تأسيسي فكرياً، ولا مجرد
صديق وأب ـ كما أعتبره ـ فتح لي بيته ومقر عمله، ولا مجرد روائي كبير، يخلص للكتابة ويمنحها جلَ
وقتها. كان أكبر من ذلك بكثير. أعرف ذلك، ويعرفه كل أبناء جيلي والأجيال التي سبقتنا
وتبعتنا ممن حضروا معي الندوة، وفعل معهم وساعدهم كثيراً مثلما ساعدني، وأعرف
أيضاً أنه لا ينتظر شكراً ولا تقديراً من أحد، لكننا مدينون له كلنا بذلك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق