يمكنني أن أروي لك عشرات التجارب، لشاعرات
وشعراء، من أجيال مختلفة، داخوا "السبع دوخات" بدواوينهم بحثاً عن ناشر
يحترم "معنى الشعر" ويقبل بنشر نتاجهم، وفي النهاية، إما استسلموا
لمقتضيات السوق، أو فضلوا عتمة الأدراج المغلقة على عتمة الكذب على أنفسهم باسم
النشر.
هنا يمكنني أن أًقسّم لك دور النشر في تعاملها مع الشعر إلى ثلاثة
أقسام. الأول: وهي دور النشر التي أعلنت أنها لن تنشر الشعر أبداً، حتى لو عاد
أحمد بك شوقي من الموت وكتب لهم خصيصاً. والثانية: هي التي تنشر الشعر على استحياء،
وهذه يندرج تحتها أقسام أخرى، أولاها التي تعلن أن هذا العام لن يكون للشعر، وإنما
سيكون لأي فرع آخر، رفعاً للحرج عن نفسها، وإغلاقاً للباب في وجه الشعراء
المتطفلين. والثانية: هي التي توافق على نشر الشعر، وترحب بالشعراء المساكين
وتحتفي بهم، لكنها تنقل الدواوين من عتمة أدراج الشعراء إلى عتمة أدراجها هي.
وهكذا يذهب الديوان في رحلة لا يعلم الشعر متى يعود منها، وهل سيقابله قطاع طرق أم
لا، وهل سيبصر النور في النهاية أم سيظل "رهين المحبسين/ الدرجين"، وهذه
إجابة لا يملك أحد أبداً إجابتها.
والثالثة: هي التي تنشر لعدد محدود من
الشعراء، وتختارهم بإحدي طريقتين. الأولى أن يكون أحد "شعراء الدار"،
وهذا يتطلب في كل الأحوال أن يكون له رصيده الشخصي عند صاحب دار النشر، والرصيد
الشخصي هنا لا علاقة له بجودة الشعر من عدمها، وإنما رصيد محبة ومال أيضاً.
الطريقة الثانية: هي دور النشر التي تنشر نوعاً معيناً من الشعر الذي يعرفه قارئه،
وهذا لا يعني أيضاً أنها تختار أجود الشعر، وإنما تختار أكثره مبيعاً، وصياحاً،
وصخباً، وجلباً للطوابير في معارض الكتاب، وتصاحب مؤلفه هالة من القنوات الفضائية
والمهرجانات الشعرية العربية، والألقاب الحلمنتيشية.
هل تهت مني؟ هل تعبت؟ انتظر، لم أحكِ لك بعد
عن القسم الثالث من دور النشر، وهي التي تنشر الشعر فعلاً، كل الشعر إن شئت الدقة،
وتتفاخر بذلك، لكنها تفعل ذلك بمقابل مادي كبير ـ وهذا لا ضير فيه ـ فالعقد شريعة
المتعاقدين كما تعلم ـ لكن ما الذي يأخذه الشاعر في المقابل؟
هنا يمكن أن أروي لك حكايات أخرى عن شعراء
يبحثون عن دواوينهم بنظارة شارلوك هولمز المكبرة في المكتبات ولا يجدونها، وحكايات
عن شاعرات يخجلن من إظهار دواوينهن لأن دار النشر لم تكلف خاطرها وتراجع الأخطاء
المطبعية، وحكايات عن آخرين اكتشفوا أن دار النشر لم تطبع سوى مائتي نسخة فقط من
الكتاب، وحكايات عن ناشرين بعد أن اطمأنوا أنهم أخذوا ثمن طباعة الديوان وثمن
أرباحهم لم يكلفوا أنفسهم بإخراج ما طبعوه من المخازن.
لم أحدثك طبعاً عن نشر الشعر في هيئات النشر
الحكومية، لكن يمكن أن أفعل بعد ثلاث سنوات، ووقتها لن يكون ديوانك الذي ستقدمه
لإحدى الهيئتين الآن، قد صدر بعد، فلا تتعجل هذه النقطة.
ربما تتشارك بعض أنواع الإبداع الأخرى من قصة
ومسرح، مع الشعر هذه الهموم، لكن في النهاية يبدو لي الشعر ـ الذي نطنطن أنه ديوان
العرب ـ هو المستهدف الأكبر، ولو سألت أي صاحب دار نشر، سيقول لك إن "الشعر
لا يبيع". والناشر هنا يتحدث كصاحب مال ـ وهذا حقه بالمناسبة ـ لكن أليس من
واجبه أيضاً أن يروّج لبضاعته، أن يسوّق الدواوين التي طبعها، وساعتها "سيبيع
الشعر"، وسيجد قارئه.
لا أطالب الناشر أن يخسر أمواله كي ينشر
الشعر، فهو يأخذ "ثمن الطباعة" من الشاعر قبل الطباعة تحت مسمى
"المشاركة" على أية حال، لكن ما أود أن أقوله هو أن "تجارة
النشر" تختلف عن أية تجارة أخرى، لأن عليها دوراً تنويرياً وتثقيفياً، وهذا
يعني عبئاً إضافياً على الجميع أن يساهم في تحمله، إذا أردنا أن نتحدث عن
"سوق نشر" جادة، ودور ثقافي نبحث عنه بلا جدوى.
.................
*نشر في "المصري اليوم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق