محمد
الكفراوي
فى ديوانه الأخير «جحيم» الصادر عن دار روافد. يقدم الشاعر محمد
أبوزيد بُعدا جديدا لقصيدة النثر، يتماهى مع طبيعة القصيدة كمساحة حرية للإبداع
والتجريب والتخيل، وفى الوقت نفسه ينطلق من ذات الشاعر ومن حضوره الفعلى فى المشهد
اليومى، ليعيد قراءة هذا المشهد بطريقة مغايرة، من خلال صور شعرية غاية فى الطرافة
والحداثة والابتكار، تقوم بدور مهم كمحفز للخيال على تلقى النص بطريقة مغايرة
للمألوف، حتى ينخرط المتلقى ويجد نفسه جزءا من النص. فالصورة الشعرية المركبة التى
يقدمها الشاعر فى أكثر من قصيدة هى صورة متكاملة.
من الممكن أن يتخيلها المتلقى ـ القارئ - جزءًا من روتينه اليومى
المعتاد. ويتعجب كيف لم ينتبه إليها وهى على مرمى البصر منه. لكن فى الحقيقة هذه
الصور تكاد تحمل قدرًا من المخاتلة والخداع الذى يتحرك ببطء داخل النصوص كلها،
ليعطى الديوان صورة شبه كلية- تبتعد تماما عن فكرة الوحدة الموضوعية التى اتسمت
بها القصيدة العمودية والتفعيلية فى وقت مضى ـ هى خلاصة روح الشاعر وتصوراته عن
العالم ورؤيته لهذا العالم من أكثر من منظور، سواء من خلال السخرية أو الجدية أو
كسر الإيهام وتحويل الشعر نفسه من إطار للقصيدة إلى متن داخل القصيدة كما فى قصيدة
«الحديقة الجوراسية الشعرية» التى تتضمن بحثًا عن نوع جديد من الشعر، ربما سيجد
طريقه إلى الحضور واقعيا من خلال كائنات منقرضة هى الديناصورات. يقول الشاعر فى
القصيدة: «باستخدام الهرمونات/ والـ DNA/ وكل هذا الـ بلا بلا بلا/ سيعيدون الماموث
إلى الحياة/ والديناصور أيضا/ ليس مثل الذى نشاهده/ فى الأفلام/ إنما ديناصور
حقيقى/ يقرأ الرواية/ ويشاهد السينما ويحب الشعر/ وكلمة (يحب) هنا نسبية إلى حد
كبير».. وهذه الجملة الأخيرة سيكون لها دور البطولة فيما بعد، حيث ستكون المحك
ليقوم الديناصور بتصفية حساباته وفقا لذائقته والتهام كل الشعراء الذين لا
يعجبونه. ويبدأ هو ـ الديناصور- فى كتابة الشعر. أيضا فإن عناوين القصائد لا تخلو
من الطرافة. مثل «مهرجان القراءة للجميع» والمشبعة بالخيال الجامح أيضا: «فى
المستقبل/ سيتغير شكل الكتب/ ستكون على هيئة كوب عصير/ كتاب بطعم المانجو/ آخر
كالبرقوق/ واحد ينتهى من شفطة واحدة/ وثان يدفعك للتقيؤ». ومن القصائد الطريفة
أيضا «رأيتك يا من تجلس على السطح»: «حبيبتى زرافة/ تمد عنقها من البلكونة/ فتأخذ
الخبز والبرتقال من البائع فى الشارع/ ترفع رأسها لتنفخ فى السحاب/ تزيحه قليلا/
كى يظللنى وأنا أسير فى الحر».
يتميز «أبوزيد» بالتلقائية والبساطة، وهى منبع التفرد فى ابتكار
الصور الشعرية. مثلما نجد فى قصيدة «وبالباقى علكة» أو «كلمة حلوة وكلمتين» التى
ينسج فيها صورة أسطورية له مع داليدا. ولا يكف الشاعر عن التجريب. وهى سمة أخرى
مميزة فى أعماله، فضلا عن المكاشفة الذاتية من خلال طرح نفسه وتفاصيل البسيطة كجزء
من القصائد. فهنا قصيدة تحمل عنوان «الإيميل الشخصى للشاعر». وهناك قصيدة أخرى
بعنوان «محمد أبوزيد فى الأدغال». وقصيدة ثالثة بعنوان «ببليوجرافيا» تتحدث عن
تفاصيل الشاعر البسيطة كجزء من الصورة الشعرية، فضلا عن قصيدة أعمالى الكاملة،
التى يؤنسن فيها الشاعر الكتاب، ليكون الاثنان بمثابة شخص واحد. ورغم حس السخرية
والدعابة الذى يتمتع به فى بعض القصائد، إلا أن الجدية والصرامة فى الحديث عن
الموت والتعامل مع الموتى تحملان بُعدًا مختلفًا ومغايرًا، وتجعل النصوص مثقلة بروح
جديدة أكثر عمقًا مما تبدو عليه للوهلة الأولى.
.........................
*نشر في المصري اليوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق