«كيف تصبح كاتبًا فاشلاً؟!»
إبراهيم عادل
بهذا السؤال يبدأ
الشاعر المصري «محمد أبو زيد» كتابه الجديد الصادر إلكترونيًا مؤخرًا عن «مؤسسة هنداوي
للثقافة»، والذي جمع فيه مقالاته المنشورة على الموقع بين عامي 2014 و2015، والتي يتناول
فيها عوالم «الكتابة» و«السينما» ومحاولات التقاط الدهشة ولحظات صيد الإلهام، وهو
-على حد تعبير صاحبه- كتاب عن «السحر»؛ سحر الإمساك بالقلم وتشكيل عالم جديد، أو سحر
خلق عالم مدهش تتأمله بعينين مفتوحتين في صالة مظلمة، وهو كتاب عن الماضي والمستقبل.
يقسم «أبو زيد» الكتاب بشكل عام إلى أربعة أقسام؛ عن الكتابة، عن السينما، ثم
جزء آخر عنونه «كتابة» وفي النهاية «عبور الزمن». ويبدو لنا القسمان الأولان مرتبطين
بفكرة الكتاب بشكل عام، حيث يدوران حول عوالم الكتابة والإبداع والعلاقة بين القارئ/المتلقي
والكاتب/المخرج (أو السيناريست)، وعن رؤى العالم المقدمة من خلال تلك الوسائط المختلفة
سواء كانت رواية أو قصيدة أو فيلما سينمائيًا.
يضع أبو زيد يده على عدد من القضايا والأفكار التي تدور في أذهان الكثير من
الكتّاب، وهو يربط ذلك بقراءاته واطلاعه على عدد من مقولات كبار الكتّاب والمؤلفين
سواء في كتبهم أو في حواراتهم المنشورة، بدءًا بـ«ماركيز»، و«كونديرا»، و«إيزابيل الليندي»،
وصولاً إلى «نجيب محفوظ»، و«أورهان باموق»، و«إيمان مرسال»، كما يجمع مع ذلك مقولات
كبار السينمائيين «وودي آلان» و«كريستوفر نولان» وغيرهم.
يقول في مقال بعنوان «عزيزي القارئ من أنت؟»:
يجب علينا ألا نخلط الأوراق فيما يخص القارئ، فإذا سلّمنا بضرورة وجود المتلقي في المعادلة، ففي هذه الحالة علينا أن ندرك ما الذي سنقدمه له، وهنا الفارق الحقيقي بين الكاتب النخبوي المبتعد في عليائه، وبين الكاتب النخبوي الذي يسعى إلى تغيير ذائقة القارئ، وفَتْح مجالٍ جديدٍ للتَّلَقِّي، وسحب القارئ معه إلى فضاء أرحب وأوسع، وهذا هو ما يقصده «فلاديمير نابوكوف» بقوله: «إن كان القارئ يخلو من العاطفة والصبر؛ صبر العالِم وشغف الفنان، فمن الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم.» يقول ساراماغو في حوار معه نشرته «باريس ريفيو»؛ إن «المواضيع المفرطة بالجدية بطبيعتها لا تجذب القارئ، وإنه لأمر محيِّر أنني أحظى بمراجعات ممتازة من الولايات المتحدة». إذن ربما يستسيغ البعض الكتابة السهلة التي يمكن ببساطةٍ بيعُها، لكن الأصعب بالفعل هو أن تُجْبِرَ القارئ على شراء كتاب لم يتعوّد على قراءته.
يجيد محمد أبو زيد في حديثه عن «الأفلام» الانتقال من الخاص إلى العام، وتبدو
هواجس عالم «الكتابة» مؤثرة على تلقيه، وربما اختياره لتلك الأفلام التي يتناولها هنا
ويعرض أفكارها، ويلفت أنظارنا إلى جوانب هامة منها، بدءًا بالأفلام الأجنبية التي تحاكي
ما يحدث في الواقع وتتجاوزه لاسيما أفلام «نهاية العالم» ومشاهد الدمار التي تحفل بها،
مرورًا بالأفلام الهامة التي تتحدث عن «الإنسان» ومشكلاته الفلسفية القائمة وصراع الوجود
والبقاء وعلاقة حاضره بمستقبله، مثلما نجده في أفلام «كريستوفر نولان» التي يتناول
عددًا منها بشيءٍ من التركيز، انتهاءً بالأفلام التي تصوّر علاقة الإنسان بالواقع الافتراضي
وسيطرة وسائل التكنولوجيا الحديثة على عالمنا وما يمكن أن ينتج عن ذلك، مثل فيلم «Her» الشهير ومعالجته لهذه الفكرة.
ويحضر بين هذه الأفلام كلها عالم «الكتابة» و«الكتّاب»، ودور الكاتب والمخرج
هنا (لاسيما إذا كان هو كاتب أفلامه) في عرض الواقع أو تصوير رؤيته للعالم من خلال
فيلم أو مجموعة أفلام من جهة، أو أن يُبنى أحد تلك الأفلام على روايةٍ معروفة مثلما
حدث مع (بؤس) لـ«ستيفن كينج» الذي أخرجه «روب رينر» والذي تناول تلك العلاقة الملتبسة
التي تربط القارئ بكاتبه المفضل.
في «ترومان شو»، يكتشف البطل أنه مجرد فأر تجارب، في عالم مصنوع بالكامل، وأن كل من حوله ممثلون، في عالم يؤدي كلُّ مَن فيه دوره بإتقان شديد، وأنه ليس أكثر من ممثل في أحد برامج «عالم الواقع»، وأن هناك من يتفرج عليه وعلى زوجته وعلى عمله، وأن كل ما يحدث ليس إلا جزءًا من عالم افتراضي.
البحث عن الخالق، عن الحقيقة المطلقة، وراء هذا الوهم العظيم الذي نحياه، عمن يقف خلف الذين يحركون البشر والمصائر كعرائس الماريونيت، وهو ما يشبه ما نعيشه يوميٍّا؛ حيث نفاجأ كل يوم بمصائر الأحياء تتغير، وكأنه مسرح، يغير فيه المخرج الأبطال والممثلين، في مشاهد دراماتيكية، لا يصدقها المشاهد.
الكتابة تصنع هذا في جزء منها، تتجاوز ما قَبِل به الذين يعرفون أنهم جزء من تمثيلية، للتعرف على ما وراء ذلك. هل الكتابة إذن هي محاولة للتصالح مع الذات، أم مع الخالق، أم مع العالم المحيط، أم محاولة لصنع عالم جديد، يخص الكاتب الوحيد؟، الإجابة أنها كل ذلك. وهكذا لا يبدو عالم «الكتابة» منفصلاً عن عالم السينما والأفلام، بل يبدو كل منهما مكملاً للآخر، طارحًا عددًا من الأفكار والرؤى المؤرقة والمهمة والملهمة في الوقت نفسه.
في الجزء الثاني من الكتاب والذي يحتوي على القسمين الآخرين اللذين أسماهما
«كتابة» و«عبور الزمن»، ينتقل أبو زيد من الكلام النظري الذي أداره حول الكتابة والسينما
بمستوياتها المختلفة، إلى نماذج تطبيقية من كتابته لا يبتعد فيها كثيرًا عن عالم «الأسئلة
الكبرى» المؤرقة للإنسان -والكاتب بالضرورة- ولكنه يصوغها هذه المرة بطريقة كتابة أدبية
فنية، عرف بمهارته فيها بالشعر (عبر دواوينه المختلفة) وها هو يجرّب طريقة أخرى لطرحها
خلال هذه المقالات.
الغربة، والحنين للماضي، الموت/النهاية، الحياة/الرحلة، الصمت والكلام، أفكارٌ
تدور حولها نصوص هذا الجزء الآخر من الكتاب، بطريقته الخاصة جدًا يطرح تلك الأفكار
ويتركها تدور داخل عقولنا، يتحدث عن الغربة «في نصائح للغريب حتى يعود»، و«طوبى للغرباء»،
بشكلٍ شاعري يجعل للبيوت والناس لونًا وطعمًا ورائحة. يتحدث عن وسائل المواصلات، والانتقال
بين القرى والمدن، ورغبة الغريب في العودة لكي يدفن في بلاده، يستدعي ذكرياتٍ قديمة
ربما نعرفها جميعًا ويلتقط تفاصيل حياتيه عابرة لا شك أنها تؤثر في أي قارئ سواء مر
بتجربة الغربة تلك، أو يعيش في بلده وبين أهله غريبًا!.
وفي نصوصٍ أخرى يعمل الخيال ويلعب به لعبته المفضلة، التي طالما لعبها في قصائده:
في مكانٍ ما، وزمنٍ آخَر، سنفعل ذلك؛ نسحب الموز من أفواه القردة وندعوها للجلوس بأدب على الطاولات، نكتشف مدينة الإسكندر الأكبر، ونمدِّد البحر على جنباتها كهرَّةٍ نائمةٍ تتمطَّى، نستعير المسرح الكبير من فيلم «المصارع» حتى يستريح «راسل كرو» من الهرولة في الصحراء، نشاهد أفلام «توم هانكس» و«ميج رايان» ونتحدث عن السُحب وأقدامنا تغوص في البحر، ثم نقف كصديقين التقَيَا صدفةً في قطار، نتقاذف المدن مثل كرات البنج بونج، حتى نبهر الجنود والملوك، وتصفق الطيور بأجنحتها لتسير أسرع، وقبل أن نغادر سنقول أهلًا، ونبتسم ابتسامة النصر. إذا وقفتُ على السطح، ومددتُ صوتي سُلَّمًا، فهل سأصل إلى السماء؟. إذا أخرجتُ قلبي ورفعتُه لأعلى، فهل سيتحوَّل إلى مظلةٍ تُقلُّني إلى وسط البلد؟. إذا ناديتُ بأعلى صوتي من الناحية الأخرى من الكرة الأرضية، فهل ستسمعونني؟
في الجزء الأخير من الكتاب والذي جاء بعنوان «عبور الزمن»، يعود أبو زيد إلى
ذكريات الطفولة والشباب المرتبطة أيضًا بعالم القراءة والكتابة، فيتذكر صالون الكاتب
الكبير «محمد جبريل» الذي كان يقام أسبوعيًا في نقابة الصحفيين وفيه تعرّف أبو زيد
على كثيرٍ من كتّاب هذا الجيل الذين أصبحوا أسماء لامعة ومميزة في الكتابة اليوم. ويسترجع
ذكر أول كتابٍ فتح عينيه على عالم الصحافة والكتابة والأدب، وهو كتاب «فوانيس الحياة»
لـ«علي أمين» الذي تحدث فيه عن أحلام طفولته التي تحققت بالمثابرة والعمل والإصرار،
لذا يعتبره أبو زيد كتابه الخاص الذي كان محرضًا على الحلم، وهو الذي جعله يفكر في
العمل بالصحافة أصلاً.
وكما يتذكر الماضي البعيد يعود إلى ذكرياتٍ من ماضينا القريب، التي ربما عاصرناها
وتفاعلنا معها جميعًا، لاسيما ما يتعلق منها بتطور وسائل الاتصال الحديث، وانتقال الناس
من موقع إلى آخر. يسترجع أبو زيد في مقال «زمن التدوين الجميل»، ذلك التحوّل الدرامي
الذي نقل الناس من صفحات المنتديات في البداية إلى المدونات التي كانت طفرة في حينها
وامتلأت بالسياسة وغدت حديث الناس لدرجة أن «دار الشروق» أفسحت لها المجال لتخرج أعمال
المدونين إلى «كتب»، وما صاحب ذلك من انتشار لها. خبا هذا كله تدريجيًا بمجرد وجود
وسائل أخرى سحبت البساط من «عالم التدوين»، وظهر «فيس بوك» و«تويتر» بعلاقات التشبيك
القوية التي جعلت الناس كلها تتفاعل معه وتتعامل به الآن ويصبح هو حديث العصر.
والحديث عن الماضي على هذا النحو يستدعي بالضرورة حديثًا عن المستقبل وكيف سيكون؟،
كيف ستؤثر علينا وعلى الناس في المستقبل وسائل التكنولوجيا تلك؟، وإلى أي مدى ستكون
متحكمة في الإنسان بعد أن أصبح جزءًا منها ولا يعرف كيف يعيش بدونها؟. في مقال «عيون
مفتوحة على اتساعها» يقول:
لم يعد من يستخدم هذا الكمبيوتر هو شخصية العام، بعد أن سقط في عبودية زمن المعلومات،
وأصبح مجرد رقم في منظومة كبيرة، تتعامل مع الملايين، تجمع البيانات، وتحلل، تقوم بعمل
الجواسيس القدامى، لكن هذه المرة من مكان بعيد، من خلف الآمر الناهي الساخر، « الأخ
الكبير» الكمبيوتر الضخم، حيث الصوت العميق القادم من العالِم ببواطن الأمور، المفتوحة
عيناه على اتساعهما، شخصية العام، وكل عام.
هذه إطلالة سريعة على ذلك الكتاب، وهذا العالم الذي أخذنا إليه «محمد أبو زيد» بكل بساطة، فأصبحنا كما لو كنا قد
سقطنا في حجر أرنب «أليس» وانتقلنا منه إلى «بلاد العجائب» السحرية المدهشة سواء كانت
في «الكتابة» الثرية التي نحبها، ونود أن نكون جزءًا منها، ونبحث عن طرقٍ مختلفة للوصول
إليها، أو «السينما» والأفلام التي شكّلت جزءًا كبيرًا من متعتنا، ولا زلنا نبحث فيها
عن المتعة الجديدة المختلفة، ندور في ذكريات الماضي وأفكار المستقبل، لنستكشف ذلك العالم
الغريب.
يبقى أن نشكر «مؤسسة هنداوي» على إتاحتها هذا الكتاب للقراء إلكترونيًا. تجدر
الإِشارة إلى أن «مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة» مؤسسة غير هادفة للربح، تسعى إلى
إحداث أثر كبير في عالم المعرفة عن طريق برامجها المتعددة. بدأت المؤسسة نشاطها بالاهتمام
بالترجمة، وانتقلت إلى نشر المؤلفات القيمة مما كتب بالعربية أو ترجم عنها في مختلف
المجالات لجعلها في متناول القارئ العربي، وتقوم المؤسسة بنشر الكتب بنسختيها الإلكترونية
والورقية، حيث توفر العديد من الكتب إلكترونيًا على موقع المؤسسة مجانًا.
نشر المقال في إضاءات