07‏/01‏/2017

محمد أبو زيد فى “سوداء وجميلة”.. قصائد برعشة الحنين

بقلم :حسام وهدان
من الألم ينطلق الإبداع.. هذا ما يأخذنا إليه شعر محمد أبو زيد فهو يخاطب أعماق الروح الإنسانية بملامسته للألم فيقترب من منطقة النبوءة والكشف عندما ينظر للحياة بعيون نسر يحلق فى السماء.
بداية يبدو عنوان الديوان وكأنه إجابة عن سؤال ما أو كإعلان عن موقفه من الحياة سمراء صفة للحسن وهو الاحمرار الذى يميل للسواد مع وجود بياض أصيل أما السواد ففيه قتامة وحزن ولو قال سوداء جميلة لكان الجمال صفة للسواد، ولكن استخدام حرف العطف أعطى سوداء قيمة أكبر فكأن السواد قيمة فى حد ذاته يضاف إليها الجمال «سوداء وجميلة». والديوان يرفع رايته فى وجه العالم صارخا معلنا جماله حتى وإن أنكره واقع زاف، إنه دعوة لتمجيد الحياة، دعوة للهجرة إلى مدينة الروح الساحرة، وإعادة رسم ملامح الإنسانية المتلاشية.
يبدأ الديوان برسالة للقارئ فى عالم تلاشى فيه كل شيء ولم يعد يبق فيه سوى القارئ والشعر فقط حيث لم يتمكن الواقع بكل قوته من إفنائهما فى عالم فنى فيه كل من فقد فى داخله بريق الحياة «مات الكهول فى الجنازات» والحياة فقدرت قدرتها على الميلاد «انفجرت الأجنة فى أيدى الأطباء» ثم يرثى لحال القارئ «ماذا ستفعل وحدك يا قارئى المسكين؟".
قسم الشاعر الديوان لأجزاء وقد بدا التقسيم وكأنه شهادة الشاعر على الحياة، أو كأنه يكتبه بعد هدوء أعاصيرها داخله. فالقصائد تشهد على العالم والحياة دون أن تتورط فى حماقاتها. بدأ الديوان بالهوامش والهوامش فى اللغة هى حاشية الكتاب للتعليق ما جاء فى المتن وإيضاحه وكأنه يمهد نفسية القارئ لتلقى المتن ويشير إلى أننا فى فوضى هذا العالم لا يمكننا استكشاف أنفسنا والآخرين بشكل مباشر، كل شىء يلفه الضباب وكأن الشاعر يمنح لقارئه أجنحة يحلق بها عاليه ليتعرف على عالمه الشعرى وتخيله وفهمه وكأنه يستكشف مدينة ما من نافذة طائرة قبل الهبوط عليها مما يثير غريزته للفهم والتأمل ويبدو الديوان وكأنه صفحة أخرى من كتاب نبوءة يحمله الشاعر إلى قارئه ويقر الشاعر بداية أن هذا العالم يحمل داخله عوامل انهياره وفنائه وأن عدم فنائه للآن ليس لقوة فيه ولكنه يرجع ذلك لأسباب تحمل سخرية من الحياة «كتعطل المنبه/ أنتم تعرفون البضائع الصينية الرخيصة» وربما لعجزه حتى عن ادراك نهايته «ربما توقف قليلا فى الطريق ليريح قدميه من آلام الروماتيزم» وربما أيضا لوجود بقايا انسانية داخله «يلقى لقمة يابسة فى جيبه لقطة تأملها شاردا» أو «دندن مع عبد الوهاب فنسى نفسه» ولكن مهما كانت الأسباب فهى غير قادرة على إنقاذه من مصير يستحقه فالعالم نفسه يأس من ذاته وصار عاجزا عن مواصلة الحياة بل صارت سعادته الوحيده هى فناؤه «ثم يدفع كرسيه المتحرك إلى الأمام بأقصى طاقة مبتسما فى سعادة»، «قصيدة دروس ضرورية لاحترام الوقت» وفى جزء الهوامش يحدد لنا الشاعر ملامح انسانة كما يتخيله فما زال قادرا على الاحلام «كيف يجرؤ أحمق مثلى/ أن يترك الباب مفتوحا هكذا/ وقلبه مربوط فى رجل الكنبة» ويؤمن تماما أن الجمال فى الجوهر وأن ظاهر الحياة لا يستدل به على قيمتها أبدا فيقول مخاطبا سكارليت جوهانسون رمز الأنوثة والجمال «صدقينى كل شىء سينتهى/ جمالك هذا سيذوى/ ستصبحين عجوزا/ تسكنين قرية مهجورة» كل شىء سيفقد حرارة الروح ولن يكون هناك مكان لرعشة الحنين والشعر وستطغى قوانين المادة حتى على الشعر «دعه يعمل/ دعه يمر» ويقول «لن تكون هناك مشاعر/ ولا حكايات» إنسان فى مواجهة أعاصير الحياة امتلك الحلم «كان يمكن أن أمد قدمى فألمس الماء/ كان يمكن أن أمد ذراعى فتصافح السحاب/ كان يمكن..» ولكن للأسف كل شىء يذوى وعاد مهزوما من ملكوت الأحلام «لكننى هنا الآن/ حيث لا شىء/ سوى طنين الصحراء فى الخارج» الانسان اللاهى عن مصيره من الازل للأبد «أشخاص يشربون الشاى ساخنا/ وهم يتطلعون إلى النافورة» وعندما أعاد كتابة القصيدة بعد عشرين عاما «كان الناس يصوبون كاميرات هواتفهم كالبنادق/ وهم يتبادلون النظرات/ فى انتظار وصول الجثث» هو الانسان اللاهى المغيب عن مصيره منذ القدم ويؤمن الشاعر أن ما مضى لا يستحق ولا يمكن أبدا أن يستمر «فلا شىء يستحق أن يدخل التاريخ/ لا الدمار ولا القتلة ولا تحيات الملوك» ويؤمن أن الخلود يكمن دوما فى التفاصيل البسيطة ولكنها تحمل النقاء والبراءة وفتنة البكارة «ليس إلا قطعة شوكولاتة/ متروكة فوق باب سيارة/ سر فى قصيدة لا يعرفه سوى اثنين/ دقات الثانية صباحا/ وشوارع المدينة خالية/ إلا منى/ كأن من فيها/ أكلتهم الحرب» وهو يرثى للأزمنة القديمة حين كانت تقودها الاحلام «فتاة تدلى شعرها ليصعد العشاق» ويبكى لزماننا الأجوف «لم يعد بإمكاننا سوى أن ندمع ونقول «حكايات رخيصة» ويتملكه الاحساس بالضياع اللانهائى فى فراغ لا محدود يلتهم الكل ويصبح الرابط الوحيد لهؤلاء الغرباء الذين التقوا صدفة عابرة فى إشارة مرور هو الغربة وهو ينظر إليهم من وراء حجاب فلا سبيل أصلا لتواصل بشرى حقيقى «فى إشارة المرور أنظر من خلف الزجاج إلى سائق صينى فى سيارة مجاورة/ فيدير وجهه إلى سائق هندى/ يدير وجهه إلى باكستانى/ يدير وجهه إلى الفراغ../ الفراغ الذى يلهمنا جميعا» ونأتى للجزء الثانى وهو «كتاب الإنسان.. الذنوب الكاملة» وكأنه يتأمل مسيرة الإنسان فى الحياه بعد انتهاء أعاصيرها وصراعاتها وهو لا يريد منها سوى إطلالة عليها وحيدا هادئا بعيدا عن حماقاتها«يكفينى من الحياة شرفة/ أشرب فيها الشاى على كرسى هزاز» ويقول «شرفة معلقة فى الهواء/ مثل طائرة صغيرة بدون طيار/ أطل منها على الناس فى الشارع» والحياة سوى ذلك لا تملك ما تمنحها له «أدلى السلة إلى بائع/ لا يبيع شيئا» والخوف من المصير وبما يدفعنا للتفكير فيه رحيل من نحب «أرمق الأفق الذى يقف خلف البحر/ كأننا رجلين فى حلبة مصارعة/ ينتظر كل منا أن يبدأ الآخر» وتتجسد مأساة الحياة الحقيقية حين ندرك عبث كل ما عشناه وبعد أن يمر العمر ندرك الحقيقة وأن ما اعتقدنا أنه سيكون زاد أيامنا القادمة هو ما سيقتلنا «تتراكم الأشياء/ تنمو وأتضاءل/ تسد باب الحجرة/ تتجمع حولى/ فى يد كل منها سكين» وبعد أن خاض معارك الحياة بكل ما فيها من سخرية وبعد أن ضاع العمر فى معارك الهياء أدرك الحقيقة «اشتريت العتبة وبرج إيفل/ ركبت الحمار باتجاه القمر/ خسرت معاركى مع الذباب»، «وفى النهاية عرفت أننى/ لست إلا بالونا فارغا/ يهوى من أعلى إلى أسفل» الحياة تفقدنا أجمل ما نمتلك وبفقد الطفل الساكن كل منا أن يعيد لنا اكتمالنا وبراءتنا «يركب طفلى جسدى/ لكنه أبدا ملا يعثر على القطعة الناقصة» وفى الجزء المعنون «كتاب الحيوان» قصيدة متصلة تشبه بكائية حزينة للذات لإنسان لم تهزمه الحياة ولكنها هى الحياة من لا تستطيع أبدا أن تستوعب براءته وجسارة قلبه على أن يحلم هى الحياة من تعجز على السمو لقمته العالية وهو الحياة من تبدو ضئيلة أمام قمته العالية.
.....................
نشر في جريدة القاهرة



ليست هناك تعليقات: