بهاء جاهين
محمد أبو زيد شاعر شاب من مواليد1980, صدرت له خمسة دواوين, وها هو ينشر- عن دار شرقيات- رواية بعنوان أثر النبي. الرواية لاتختلف كثيرا عن معظم أعمال المبدعين الشبان, حيث العالم الضيق, والسيرة شبه الذاتية, وشوارع ومقاهي وسط البلد, حيث يجتمعون مع رفاقهم من الكتاب. , ويسكنون هذا العالم الصغير عوضا عن الريف الذي نزحوا منه .
لكن أبو زيد أضاف الي هذا العالم اتساعا وجدة, حين تحدث عن بيت للطلبة الأزهريين بالغورية, أقام فيه بقدرة قادر, ومساعدة أصدقاء, وهو الطالب بتجارة عين شمس, وشقته المظلمة الضيقة بدار السلام حيث اقام في سنته الأولي بالجامعة.
وبطل الرواية- وهو الشاعر لكن ليس بالضبط- من المشائين, الطوافين في شوارع القاهرة, حبا لها وافتقارا لقروش الميكروباص, جعلته الغربة صعلوكا, فهو بلا أسرة, واتخذ من أصدقائه بيتا وعائلة. وهم مجموعة من الفقراء اليائسين, الحالمين مع ذلك, أحلامهم ذاتها تعسة, العمل والمرمطة في الخليج وبعضهم ينتهي به المطاف الي المعتقل في هوجة الإخوان, مع أنهم أبعد ما يكونون عن السياسة.
هم كرسوا أنفسهم للضحك, رغم أن بينهم واحدا يحتضر, عادل هياكل الذي ظل يقيء دم السل وهم يهزرون حوله ليبعثوا فيه بعض الحياة.
يموت عادل هياكل في حجرة المغتربين الأزهريين وقد قاء آخر قطرة من دمه, آخر نفثة من روحه الشابة, يموت ويبقي بطل الرواية المصاب بمرض الاكتئاب النوباتي, الذي تتلوه في أحيان قليلة كما نري في الرواية فترات انبساط, يبقي تائها بين محبوبات لاينالهن, واليتم الذي نما معه منذ وفاة أمه وهو طفل.. يبقي وليس له مستقبل, أو لا يلوح أمامه طريق مضيء يسلكه. فهو تائه ضائع, فقد حجرة الرفاق الأزهريين بالغورية, التي فر منها مطاردا بخوفه من الاعتقال, وحين عاد ليأخذ أشياءه وجد عادل هياكل منطرحا جنب سريره علي بركة دم, دم غاص فيه البطل الذي لم يهتم الشاعر بذكر اسمه, لأسباب كثيرة كلها وجيهة. مات عادل هياكل ليصير في حياته وموته رمزا لهذا الجيل, الذي يموت بأشكال مختلفة, قهرا واختيارا, في البحر او في الحياة.
يهرب البطل من جثة صاحبه, مطاردا بخوفه, مبحرا في سواد بلا نهاية, كما يقول في النهاية.
إنه الجنين المتكور بحثا عن رحم الأم, الذي تنقبض روحه وتنبسط, طبقا لمصطلحات المتصوفة والأطباء النفسيين, الذي يفقد عالمه في النهاية, وينادي محبوبته الأولي, التي ظل يناديها طوال الرواية, والتي كانت أمامه في القرية ولم يستطع أن ينالها, ولم يحرص في روايته علي تقديم الأسباب, او لنقل لم يحرص في رواية شاعره.
إن زينب التي يخاطبها هذا الشاب, الذي لا اسم له, لاتحتل في الأحداث مكانا يذكر, لكنها تحتل مساحة كبري في قلب مناديها, هل لأن اسمها- وصاحبها من المتطوحين في الحضرة- يربطها في وجدانه بأم العواجز؟ هل لأنها صاحبة قنديل يضيء في قلبه؟ هل لهذا لاتوجد في أرض الحكاية إلا قليلا؟
هذه لمحة من عالم الرواية, وهذا العالم جزء في حد ذاته من فنيتها, فالمادة نفسها نوع من الصياغة, وزاوية الرؤية جزء أساسي في جماليات التصوير. أما التشكيل هنا, فهو متحرر من كلاسيكيات السرد, لأنه يمتد أفقيا من حيث التزامن او اختلاط الزمن, كما يمتد طولا من حيث اتجاه الأحداث في النهاية نحو نقطتها القصوي, نحو الذروة, او الفاجعة.
والرواية أيضا تشبه شخصية صاحبها ـ بطلها أو كاتبها ـ الذي يمحي رغم وجوده الطاغي, يجرد نفسه من الاسم والصنعة, لايذكر إلا لمحا أنه كاتب, بكلمة عابرة, وتتراوح روايته بين المقاطع شديدة القتامة وأخري شديدة المرح, وان غلبت الأولي علي الثانية.
إن حكايته شخصية وفي الوقت نفسه هي حكاية جيله, الغالبية العظمي من جيله الفاقدة القدرة البائسة الآمال, الواقعة تحت ضغط الفقر والداء والموت وهي تضحك, وهذا جمالها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في جريدة الأهرام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق