أحمد الشهاوي
عن دار شرقيات بالقاهرة صدرت رواية ' أثر النبي للشاعر محمد أبو زيد , وهي أولي روايايه ,وتدور في أجواء صوفية متنقلة ما بين ابن الفارض وجلال الدين الرومي , وتدور حول إحباطات جيل بكامله نشأ في ظل نكسة عربية جديدة ,وتتخذ الرواية الفترة بين احتلال العراق للكويت عام 1990 وحتي الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 غطاء زمنيا وسياسيا , يتتبع الروائي من خلاله رصده للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي حدثت خلال هذه الفترة , عبر تتبعه لشخصيات تعيش علي هامش الحياة تصارع لأن تكون في متنهاالأساسي.
يوقع الكاتب روايته بأنها كتبت بين عامي (2003 وحتي 2010 أي أنها استغرقت سبع سنوات في الكتابة , غير أن الرواية نفسها تستغرق رحلة حياة شخص منذ طفولته و تنتهي مع دخول القوات الأمريكية بغداد عام 2003 .
تبدأ الرواية بخطاب موجه إلي شخصية افتراضية اسمها زينب يخاطبها الراوي المتكلم بقوله ' أكتب لأنسي , لأفرغ ذاكرتي علي الورق وأصير طليقا , لأنسي وحدتي في هذا العالم , أفكر أن أمسك يدك , أخترق بك الشوارع والمقاهي والمشربيات والبنايات العالية , أشير: هنا وقفت , هنا تكلمت , هنا تذكرتك , وهنا خنتك يا زينب , أنا الذي أعرف كل شيء , وأنت التي لا تعرفين , أتذكر فأتعذب , أكتب لأحسدك علي النسيان ' ,تبدو الكتابة هنا كذنب واجب علي الراوي أن يفعله , وتبدو الذاكرة عبئا واجب التخلص منه لذا هو يحسد زينب علي قدرتها علي النسيان , وتظل شخصية زينب شبه موجودة طوال الرواية فهي لا تظهر إلا من خلال توجه الراوي إليها بالخطاب والحديث .
تبدأ الرواية من حادثة موت , يكتشفها بطل الرواية حين عودته إلي المبني الذي يسكنه مع مجموعة من طلبة الجامعة , وما بين هاجس الفرار وهاجس الخوف , تعود الرواية إلي نقطة البدء حيث طفولة الراوي , رابطا بين موت البطل الموازي ' عادل هياكل ' عقب احتلال العراق بأحداث سابقة تجيء علي لسان أستاذ الجامعة ' قال الولد للبنت: أحبك, فابتسم عامل البوفيه وهو يناولهما الشاي, دقت ساعة الجامعة دقتين, كان الجو حارا وخانقا, وكان أستاذ الجامعة في المحاضرة يقول: ' أنتم الجيل الذي تغرب أباؤه في مدارس ومزارع ومستشفيات المغرب العربي والخليج, وعادوا ليشتروا شققا ويبنوا بيوتا في قراهم, سقطت في الزلزال أو غرقت في السيول, أو نصبت عليهم شركات التوظيف وسرقت تحويشة العمر,أنتم الجيل الذي لم يتعاطف مع تعامل الحكومة مع أهالي الجماعات الإسلامية وفضل تسلية أيامه بحكايات ليالي الحلمية والراية البيضا وأحلام الفتي الطائر , أنتم الجيل الذي شاهد في طفولته الطيور وهي تغرق في بترول الكويت المسكوب في الخليج وشاهد انتهاء حلم الوحدة العربية علي الهواء , أنتم جيل فاشل ' , ثم قاء في طرف قاعة المحاضرات دما, فتسللت أصابع الولد إلي أصابع البنت , بينما عاد الدكتور ليرسم علي السبورة سارية وعلما '
ويقول في مقطع آخر ' سيقول عنها السادات: انتفاضة الحرامية , وسيقول لطفي الخولي: انتفاضة الجوعي , ويقول أستاذ الجامعة بعد خمسة وعشرين عاما منها بينما يراهما في مظاهرة مشتعلة: ما فيش فايدة, وستقول هي: بلاش, لكنه سحبها من يدها وخرجا معا يهتفان, سقطت نظارتها من فوق أنفها, تحطمت, ناولها نظارته لكنها لم تر بها, أعيدت إلي المدرج وهي تفتش عنه , كان صوته يصلها ببحة مميزة, حين زارته في مسكن الغورية رفض عم رجب دخولها حتي بعد أن ادعت أنها أخته, وحين سار معها في شوارع الدرب الأحمر غني لها وسط دهشة المارة وباعة الخضراوات وساندوتشات المربي بالقشطة والكشري : ' علي طول الطريق نقابل ناس, ونعرف ناس , ونرتاح ويا ناس عن ناس' , أمام جامع السلطان حسن غنيا مع حارس المسجد ' عدي النهار ', في القلعة رسم في غفلة من الحارس علي السور سارية وتمثالا جديدا لنهضة مصر, ونسي أن يرسم حمامتين '
هذان المقطعان يكشفان عن همين أساسيين متوازيين تقدمهما الرواية, الأول هو الهم الديني , والثاني هو الهم السياسي , فنجده يطرح علاقة بطل الرواية بالجماعات الأصولية في مصر جماعة الإخوان المسلمين , و الجماعة الإسلامية , والجماعات الصوفية , غير أنه لا يجد الخلاص , في جماعة الإخوان المسلمين .
الهاجس الديني في الرواية يتضح حين يسأل أحد المصلين شيخ الجامع عقب الصلاة وبعد احتلال العراق ' هو ربنا مش عاوز يستجيب لنا ليه ؟ '
في اقترابه من الجماعات الصوفية يقول له شيخ الطريقة الذي أجلسه بجواره في إحدي حلقات الذكر في مسجد الحسين ' اعرف الفارق بين العلامة والأثر ' ' وفيما يتصايح الأتباع و الجلوس ب' الله عليك يا مولانا ' منتظرين الحكمة منه ضغط علي كتفي :ـ الفارق مثل ما بين الحياة والآخرة , فاتبع العلامة و اترك الأثر , لا يفهم أحد لكنهم يهمهمون بالاستحسان : كلنا نبي نفسه , فالبس رداء تقشفك , واترك الناس تتبع أثرك ,يحدق في عيني فلا أقوي علي الحركة ويقول بطيبة : العلامات حكاها السلف .. و الآثار سيحكيها الخلف '
تبدو هذه العبارات في الرواية هي الإجابة عن السؤال الملح الذي تطرحه الرواية عن الأثر , ما الأثر الذي سنتركه وكل شيء يضيع ويسرق , سواء كان هذا الشيء هو أعمارنا أو حيواتنا الخاصة أو أوطاننا , وهذا هو مدخل الهاجس السياسي في الرواية .
يختار المؤلف أن تدور روايته في أجواء حرب العراق الأخيرة ما بين تصريحات الصحاف بأن النصر قادم , وما بين المظاهرات التي تنطلق في قلب القاهرة لا تقدم ولا تؤخر .
يقدم الكاتب تصورا أنه إذا كانت الأجيال السابقة عانت من نكسة 1967 فإن الأجيال الجديدة عانت من نكسة ضياع الحلم العربي علي الهواء , احتلال دولة عربية لدولة أخري عام 1990 عندما قامت العراق باحتلال الكويت , وعام 2003 عندما احتلت الولايات المتحدة الأمريكية العراق علي مرأي ومسمع من الجميع ,
وعلي الهواء مباشرة دون أن يتحرك أحد من أمام شاشات التليفزيون .يقول أبو زيد في روايته ' الأستاذ أحمد مدير السكن جمعنا فوق السطح وقرأ لنا عمود أنيس منصور من الصفحة الأخيرة في جريدة الأهرام الذي يتحدث عن أهمية السلام, وأن الطلبة يجب أن يتفرغوا لمذاكرتهم وليس للمظاهرات أوأي كلام فارغ آخر, الأستاذ أحمد كما لم يفعل من قبل, خلع ساقه البلاستيكية أمامنا, وأخبرنا أن هذا من الحرب, الأستاذ أحمد هدد من سيعرف أن له أي نشاط سياسي بالطرد من السكن , أتركهم وأنام طوال اليوم هربا من التفكير في العجائز والشيوخ والنساء والأيتام , أجهز حقيبة سفري , أضع الكتب والصحف التي تحكي سقوط بغداد في كرتونة مستقلة استعدادا للطرد في أية لحظة '
ويقول في مقطع آخر ' اليوم التالي كان الجمعة, ميعاد مظاهرة ضخمة في ميدان التحرير, تنتهي بإحراق سيارة مطافئ , في جرائد السبت : كانت صور المظاهرة في صدر الصفحات الأولي , كانت صورتي بعروق وجهي النافرة وأنا أهتف في طرف صورة في الصفحة الأولي من جريدة الوفد , لم أفعل شيئا, فقط لساني ينطلق مع الهتافات ,
' الجهاد الجهاد .. شدي حيلك يا بغداد ' , أجري بعيدا عن هراوة عسكري , تهوي علي قدمي , ' يا للعار يا للعار ..باعوا الوطن بالدولار ' , أصرخ من الألم , ' اللي بيضرب في العراق .. بكره هيضرب في الوراق ' أجرجر ساقي ورائي ككلبة عرجاء يائسة , ' يا صحاف فينك فينك .. العلوج بينا وبينك ' , أهرول من شارع شامبليون لشارع معروف لشارع عدلي هربا من الهراوات , أهرب من لاشيء إلي لا شيء , في المساء أقابل محمد خليل علي مقهي التكعيبة , بعد انقطاع , كان يائسا :ـ تفتكر فيه فايدة كان الشاي بحليب قد برد , وكنت أرتدي قميصا خفيفا علي اللحم , تمزقت ياقته , كان منفعلا فخفت عليه , حاولت أن أغير الموضوع لكنه أصر: ـ اشهد, النهارده تمانية إبريل 2003 السقوط الأخير للعرب 'وتبدو هذه الحدة في التعامل مع الحدث السياسي تأكيدا علي أن هذا الاحتلال الأمريكي نكسة أخري لم يتم التأريخ لها بعد . تتقاطع رواية ' أثر النبي ' للشاعر محمد أبو زيد مع دواوينه الخمسة السابقة ثقب في الهواء بطول قامتي الذي صدر عام 2004عن الهيئة العامة لقصور الثقافة , وديوان (قوم جلوس حولهم ماء )الصادر عام 2005 عن دار شرقيات للنشر , و(نعناعة مريم )الذي صدر عام 2006 ديوانه الوحيد للأطفال الصادر عن كتاب قطر الندي ,وديوانه مديح الغابة الذي صدر عام 2007 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ,
وديوانه الأخير ( طاعون يضع ساقا فوق الأخري وينظر للسماء )الذي صدر عام 2008 عن دار شرقيات للنشر , فبالإضافة إلي اللغة الشعرية التي يلجأ إليها الكاتب في بعض فصول روايته , والمقاطع الشعرية التي استعاض بها عن أسماء الفصول فهناك أيضا بعض العوالم الشعرية الموجودة لديه في دواوين سابقة , فشخصية ' عائشة ' وهي إحدي الشخصيات المركزية في الرواية التي تظهر لتحل بعض ألغاز الرواية ,
وتقوم بدور الأم البديلة هي شخصية قدمها محمد أبو زيد من قبل في ديوانه الأول ' ثقب في الهواء بطول قامتي ' , وأيضا في ديوانه الذي سيصدر بعد شهور ' مدهامتان ' , وشخصية ' الشيخ أحمد عبد التواب' قدمها الشاعر من قبل في قصيدة بعنوان ' يقول محمد : نقية لدرجة أن اسمها مريم ' في ديوانه الرابع ' مديح الغابة ' والطريف أنه قدمها في نفس الدور الرجل الذي يدعو علي أحفاد القردة والخنازير , لكن يتوقف عن الدعاء عقب الحرب , والاحتلال الفعلي للعراق ,
يقول في روايته ' توقف الشيخ أحمد عبد التواب عن الدعاء علي ' أحفاد القردة والخنازير' عقب الصلوات , أصبح يختم صلاته في الطريق إلي المقهي الذي يعرض مشاهد السقوط , ' آمين ' التي كانت تهز المسجد بقوة وراءه خمدت بعد أن دخلت أمريكا قلب بغداد , قابلته جالسا علي باب المسجد لا يعرف كيف يجيب علي أحد المصلين اليائسين :ـ هو ربنا مش عاوزيستجيب لنا ليه ؟ ' , ويقول في قصيدته ' 8/ 4 / 2003 ـ هذه المرة لم يدع / الشيخ أحمد عبد التواب / عقب العصر / بترميل نسائهم '
يقدم الشاعر والروائي محمد أبو زيد في روايته الأولي بعيدا عن الهمين السياسي و الديني شخصيات هامشية غاية في الإنسانية .
يقدم أبو زيد في روايته الأولي عالما صامتا , هامسا , هامشيا , مكبلا بالعجز , لكنه يقدمه بلغة شعرية متدفقة , واهتمام بالتفاصيل , وبالتأريخ للعالم السري للحياة
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة نصف الدنيا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق