23‏/08‏/2019

الأزهر.. أثر الفراشة


محمد أبو زيد
لولا الرفّة الخفيفة لتلك الفراشة لما كنت هنا الآن. لو لم يقرر جدّي ذات يوم من صيف 1985 الحار، أن يختار لي الدراسة في المعهد الأزهري الجديد، الذي بُنِيَ على بعد خطوات من منزلنا، لتغيّرت حياتي.
على بعد ثلاثة عقود وثلاث سنين عدداً، أجلس الآن لأتأمل أثر الفراشة، التي رفّت بجناحها، فغيرت عالمي بالكامل، الأثر الذي أذكر منه خطواتي الأولى، التي كنت أمشيها كل يوم، يمكنني أن أعدها، إلى المبنى الجديد المكون من طابقين بالطوب الأحمر، المُطِلًّ على حقول البرسيم الممتدة من جهات ثلاث، الجالس في سكون أسفل الجسر ومن نوافذه تخرج أصوات الأطفال الجماعية وهم يرددون وراء الشيخ آيات القرآن الكريم.
في الداخل، نجلِس على "حُصُرٍ" صفراء في سنتنا الابتدائية الأولى، لأن المعهد لا يملك ما يمكنه من شراء "تِخَتٍ"، أمام كل طفل حقيبته أو "مِخلته"، نستمع إلى الشيخ عمّار، مُحفِّظِ القرآن الكفيف، وهو يراجع لنا ما أحْفَظَنا إياه في اليوم السابق، أصواتنا تنطلق عالية طليقة، وأجسادنا تروح وتجيء للأمام والخلف في رتابة.
لا زلت أذكر  زميلي "أحمد العسكري" المصاب بشلل الأطفال، أكثرنا تمرداً، والذي كان لا يحفظ الواجب اليومي، فكان الشيخ عمار يأمر أضخم طالبين في الفصل بربط قدميه المشلولتين في "الفلكة"، ورفعهما. ولأن دموع أحمد كانت تمزق أفئدتنا الصغيرة، كنا نقوم بعمل يقع بين الخير والشر، ونستغل أن الشيخ عمّار لن يرانا، فنضع أكفنا فوق القدمين المرفوعتين، لتتلقى الضربات من العصا الثقيلة بدلاً منه.
في الصف الثاني الابتدائي تقدم "معهدنا" خطوة، فجلسنا على "الدِّككِ" الخشبية الجديدة التي لا نعرف من تبرع بثمنها، حفظنا المزيد من أجزاء القرآن، تناولنا التغذية الأزهرية المميزة، والتي كانت عبارة عن بسكويت بُنّيٍ في ورقة فضية، وفي بعض الأيام رغيف خبز مع بيضة ومثلث جبنة صفراء. والتي كان يحسدنا عليها طلاب المدارس الحكومية.
في الصف الثالث عرِفتُ الإذاعة المدرسية، التي كانت تبدأ بالقرآن كل يوم، وتنتهي بتحية العلم "ارتفع أيها العلم العزيز الكريم.. ورفرف بالعزة والكرامة والنصر.. رفرفت كل الأعلام أننا دعاة للسلام، تحيا جمهورية مصر العربية، عاش رئيس الجمهورية"، وأذكر أن أحد الزملاء خرج ذات يوم لقراءة القرآن، فقرر بدلاً من أن "يرتل" آيتين قصيرتين، أن "يجوّد" سورة البقرة على طريقة الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ليجري وراءه مدير المعهد "الشيخ خلف" أمامنا جميعاً في الفناء بالعصا، مهدداً إياه بالويل والثبور.
في الصف الرابع كتبت قصيدتي الأولى؛ كان ذلك بعد وفاة أمي بفترة قصيرة. لا أذكر ماذا كتبت فيها، ولا أيِ من تفاصيلها. لكني أذكر أنها كانت من عمودين، تملأ صفحة "فلوسكاب" بالحبر الأسود. أذكر أنني ذهبتُ بها إلى مدرسة اللغة العربية "نور الهدى"، أذكر أنها شجعتني جداً، واحتفت بي، وطالبتني بقصائد جديدة، أذكر أنها كانت أمّاً لي في تلك المرحلة.
في الصف الخامس، اكتشفت مكتبة خالي، كانت كنزاً حقيقياً لي، فبالإضافة إلى أنها كانت تضم أمهات الكتب، كان حريصاً أن يشتري بعض المجلات الشهرية، من ضمنها "العربي" الكويتية، وكان يشتري لي معها مجلة "العربي الصغير"، والتي توقفت بعد دخول صدام حسين إلى الكويت. وفي الإجازة المدرسية في الصف الخامس اكتشفتُ مكتبة المدرسة الابتدائية التي كانت تدرس أختي بها، والتي فتحت أبوابها صيفاً للجميع مع بداية "مشروع القراءة للجميع". كانت المكتبة تضم قصصاً كثيرة للأطفال منها جميع قصص "المغامرون الخمسة"، و"مؤلفات كامل الكيلاني"، وأذكر أنني مع نهاية الإجازة الصيفية كنت قد أنهيت قراءة جميع كتب المكتبة.
حين انتقلتُ إلى المرحلة الإعدادية، كان عليّ أن أُغيّر المعهد الذي أدرس فيه، أن أنتقل من قريتي الصغيرة إلى المدينة "طهطا" للدراسة في معهد الشيخ محمود عنبر، وهو بالمناسبة أحد أعلام الأزهر ومؤلف الكتاب علم التجويد الشهير "التحفة العنبرية على متن الجزرية" الذي كنا ندرسه في المرحلة الثانوية.
خمسة كيلومترات كنت أقطعها كل يوم، مرات بالسيارات الفولكس القديمة "الخنفساء" التي كانت تفيض بأجساد الطلاب الصغيرة الذاهبين لتلقي العلم في المدينة، ومرات بالقطار، ومرات كثيرة بدراجة خالي الصغيرة في رحلة كانت شبه يومية كانت هي الأجمل في طفولتي لمدة سبع سنوات تقريباً.
في معهد الشيخ محمود عنبر، تعرفتُ على صديقي وأستاذي الشاعر بهاء الدين رمضان، الذي له الفضل كله في إعادة صياغة أفكاري عن الشعر والكتابة، ورغم أنه لم يُدرّس لي سوى عامين فقط مادة الأدب والنصوص (في الصفين الأول والرابع الثانوي) إلا أنه كان داعماً كبيراً لي منذ تعرفت عليه في الصف الأول الإعدادي، وفتح لي بوابة حقيقية وواسعة على الأدب والمعرفة عبر إعارات متكررة من مكتبته، وحرّر أفكاري من كليشيهات الكتابة المعتادة، ومن خلاله تعرفت على شقيقه الصديق والشاعر علاء الدين رمضان، والروائي محمود رمضان الطهطاوي، ومن خلاله أيضاً فزت بجائزتي الأولى في الشعر عبر النشاط الثقافي البارز الذي كان يقيمه في "قصر ثقافة طهطا"، ومن خلاله أيضاً نشرت قصيدتي الأولى في مجلة "الطهطاوي"، التي كان يصدرها قصر الثقافة، وكان يكتبها بالكامل على كمبيوتره الخاص في بيته الذي استضافني فيه عشرات المرات.
بعد انتهاء المرحلة الثانوية، أحالني التنسيق إلى الكلية الأقرب لي جغرافياً، في أسوان، لكنني كنت أريد أن أذهب إلى القاهرة، التي كانت تبدو لي المكان المثالي للتحقق أدبياً، فقمت بتحويل أوراقي إلى "كلية التجارة" بالقاهرة، لتبدأ رحلة مختلفة مع الأزهر.
بعد فترة ارتباك طالت قليلاً، اخترت أن أسكن بجوار الجامع الأزهر، في شارع الخيامية، في بيت تطل نافذته على باب زويلة. مع أصدقاء من محافظات مختلفة يدرسون جميعهم بالأزهر. كانت الفترة الأكثر زخماً وتأثيراً، وكتبت عنها روايتي الأولى "أثر النبي". أقضي النهار ما بين الجامعة والتنقل بين شوارع الحسين والأزهر والدرب الاحمر والغورية والخليفة والقلعة، والمساء ما بين الندوات والأمسيات الثقافية في وسط البلد، مع أصدقائي محمد صلاح العزب وهاني عبد المريد والطاهر شرقاوي والشاعر الراحل مجدي عبد الرحيم، نحاول جميعاً خلق موطئ قدم في مدينة لا تهدأ ولا ترحم، نلتقي يومياً تقريباً،  نشرب شاياً بالحليب في مقهى صغير خلف جريدة الأهرام، نقرأ ما كتبناه، نتناقش، ننفعل، نحتفل بنشر نص لأحدنا في جريدة مجهولة. وفي عامي الجامعي الأخير صدر ديواني الأول "ثقب في الهواء بطول قامتي"، والذي يمكن ببساطة لأي قارئ له أن يلمح تأثير تعليمي الأزهري على لغته.
غادرت الأزهر، لكنه لم يغادرني. لأنه يمكن أيضاً ببساطة أن تلمح تأثيره في تكويني الشعري، بداية من العناوين التي يميل معظمها إلى التراث الديني أو الشعري مثل "قوم جلوس حولهم ماء"، أو "مقدمة في الغياب"، أو "مدهامتان"، والذي ربما يكون أقربهم إلى هذا المعنى، لذا اخترت أن أضع على طية غلافه  الأمامي صورة لي بالزي الأزهري، كما أن فيه الكثير من النصوص التي تتقاطع مع "طفولتي الأزهرية".
لكن لا أعتقد أن "تأثير الأزهر" يكمن فقط في عناوين الدواوين، أو حتى في الإحالات التراثية، والإسقاطات الدينية، والتناص مع القرآن والنصوص الدينية فقط، أو في سلامة لغتي التي أرُدّها لحفظي القرآن كاملاً وأنا بعد في الصف السادس الابتدائي، لكن أعتقد أن التأثير الحقيقي يكمن في أن للأزهر الفضل الأكبر علىّ في تكويني الثقافي، في عدم النزوع إلى التشدد، في احترام الرأي الآخر، وتقبل الاختلاف.
ففي جميع المواد الدينية التي درستها بداية من الصف الأول الإعدادي، وحتى الرابع الجامعي، سواء عبر مواد "الفقه"، أو "التوحيد"، أو "الحديث" أو "التفسير"، كانت هناك دائماً آراء أخرى، لا غلبة للرأي الواحد. وربما تكون هذه إحدى ميزات دراسة الكتب التراثية المهمة.
ففي الفقه على سبيل المثال، نجد أن في المسألة الواحدة هناك أربعة آراء لشيوخ المذاهب الأربعة (أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل)، وفي كل مذهب ـ وكان مذهبي الدراسي حنفياً ـ لا يتم طرح رأي شيخ المذهب فقط، فهناك دائماً مخالفون له في الرأي، هناك أبو يوسف ومحمد تلميذا أبوحنيفة، واللذان يعارضانه دائماً ونرى رأيهما في كل مسألة فقهية. وهذا ما خلق بداخلي استعداداً كبيراً لقبول الرأي الآخر، وتقبله، ومناقشته، واختيار ـ وهذا هو الأهم ـ ما أراه صواباً دون فرض أو تقييد. ينطبق هذا أيضاً على بقية المواد، ففي التوحيد، حتى في المسائل الجدلية مثل خلق القرآن، درسنا  آراء المعتزلة والأشاعرة وغيرهم، وكنت أميل ـ بالمناسبة في معظم المسائل ـ إلى المعتزلة.
وفي هذه المواد التي تتحدث عن علاقتنا بتفاصيل الدين، وبالله، تفتحت أمامي احتمالات كل شيء، فعبر المسائل "الأرأيتية"، والتي يعتمد عليها المنهج التعليمي سواء في العقيدة أو الفقه، والتي تقوم على افتراض مسائل "أرأيت لو كان كذا"، تعلمت خلق الاحتمالات، والنقاش في كل شيء، حتى في المسائل التي يخشى الجميع الحديث فيها خشية الاتهام بالإلحاد.
ومن الطريف هنا أن أشير إلى أنه في حين يتحدث البعض عن أهمية "التعليم الجنسي" في المدارس، أن مادة الفقه في المرحلة الإعدادية كانت تضم ما يشبه ذلك، لا سيما في فصول "الطهارة"، و"الزواج". والنقاط السابقة تشير إلى أن الأزهر بما يكون أكثر انفتاحاً من غيره في طرح الأفكار ومناقشتها.
كان من الجميل أيضاً أن درستُ أمهات الكتب صغيراً، ففي النحو مثلاً درست "قطر الندى وبل الصدى"، و"شذور الذهب"، و"شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك"، وتكرر فيها أيضاً تعدد الآراء، وعدم الانحياز لرأي أو مذهب. 
وفي الوقت الذي تركت فيه الدولة المجال مفتوحاً للجماعات الدينية ـ السلفيون والجماعة الإسلامية والإخوان ـ في الثمانينيات والتسعينيات، وأغرقت الكتب الدينية التي تُحَرّم كل شيء ـ من الأكل بالملعقة إلى تصوير ذوات الأرواح ـ المكتبات والأرصفة، كنتُ أعرِفُ الحقيقة، واكتشفت زيف كل ذلك التشدد، فلم أتوقف أمامه وتجاوزته سريعاً، واستفدت من كل ما تعلمته في البناء على ما أُحب، أخذتُ من كل هذا لأكتب، وما زلت أمتحُ منهُ، ما زلت ألمح جناح الفراشة الذي تحرّك قبل ثلاثة عقود، وازدادوا ثلاث سنين، يتحرك، يظللني بمئات الكتب والخبرات والتجارب يجيء بي إلى هنا. حيثُ أكتب الآن.
.............
*نشر في أخبار الأدب

ليست هناك تعليقات: