محمد الفخراني
أن
يكون لدى الكاتب أفكار، وتصورات، عن الكتابة، الفن، ورؤية لما يمكن أن يقدِّماه للعالم،
والحياة، ويُحوِّل هذه الأفكار إلى عمل أدبى، أو فنى، هذا ما فعله "محمد أبو زيد"
فى روايته الجديدة "عنكبوت فى القلب".
تتكون
الرواية بشكل أساسى من أربعة فصول: (فتى– فتاة– مؤلف- سيارة)، وقبل هذه الفصول،
هناك أربع سرديات، أو فصول قصيرة، تحمل أرقامًا لاتينية، نرى فيها شخصيات، ستعاود الظهور
فى الفصل الأخير من الرواية مع تَغيُّر فى طبيعتها.
فى
الفصل الثالث: "مؤلف"، يُقدِّم الكاتب جانبًا من رؤيته للكتابة، والفن، ثم
يُحوِّل هذه الرؤية فى الفصول الأخرى، إلى حكايات وشخصيات، تتجاوز الحبكة التقليدية،
وما يسمى نقاط اضاءة، سيهتم الكاتب بمسح النقاط، أو أنه يضع نقاطًا للعب، ليجعل روايته
مساحة من ماء غير مستقر، تتخلله دوامات صغيرة.
يقول
الكاتب فى صفحة 161:
"الفنان عندما يُقدِّم فنًا فإنه يضيف إلى الواقع تلك اللمسة السحرية التى تضيف
إليه روحًا، وتجعله مختلفًا عن الاعتيادى، وتُحوِّله من حكاية اعتيادية إلى كرة ثلج
من الأسئلة تتدحرج على الجميع بحثًا عن الإجابة"، فنراه يُحوِّل حياة الشخصيتين
الرئيستين فى روايته، "بيبو"، و"ميرڤت عبد العزيز"، من حياة عادية
إلى حياة ممسوسة بغرابة لطيفة، كأنما لمستها عصا الفن السحرية، "بيبو" الشاب
القادم من إحدى قرى كفر الشيخ، ليدرس فى القاهرة، ثم يحصل على وظيفة إدارية
بمستشفى حكومى، سيعيش أثناء المرحلة الجامعية قصة حب مع "سنو وايت"، ونعرف
أنها "سنو وايت" الحقيقية، وليست فتاة تحمل اسمها، لكننا بالأساس نعرف أن
سنو وايت "الحقيقية" ليست حقيقية، وإنما شخصية خيالية، سيظهر له "علاء
الدين"، صاحب المصباح السحرى، كشخصية حقيقية، يتبادلان حوارًا فى المقهى،
وتدور بينهما قصة جانبية، نرى زملاء "بيبو" فى العمل، وبينهم الممثلتين
"كيت وينسلت"، و"أودروى تاتو"، ذلك المزج السهل بين الخيالى
والواقعى، وتحويل شخصيات خيالية إلى حقيقية، أو نقلها إلى خيال جديد، يحدث هذا بخفَّة
ولطافة، كأنها لمسة الفن، التى تُحوِّل الاعتيادى إلى غرائبى، والغرائبى إلى اعتيادى،
فتنقل الجميع, الحياة كلها، إلى حالة فنية، مثل كرة تتدحرج وتضيف إلى نفسها أسئلة
وأفكارًا.
فى
الفصل الثانى من الرواية: "فتاة"، نتابع "ميرڤت عبد العزيز" وهى
شخصية لها علاقة قديمة مع المؤلف نفسه، حيث نجدها فى أغلب دواوينه، يتحدث الكاتب
عن أنه لا يعرف كيف ينهى هذا القسم من روايته، ولا يعرف ماذا يكتب فيه تاليًا، وأن
الرواية "عنكبوت فى القلب" تقفز داخل عقله، وتسطو على شخصية روايته
السابقة "أثر النبى"، وتجمع "ميرڤت عبد العزيز" من دواوينه،
هنا نرى حيرة الكاتب، وعلاقته بنصِّه، كيف يتعامل معه، كيف تراوغه الكتابة، تطاوعه،
وتعانده، كأنها "كتابة على المكشوف"، ثم يقول للذين يبحثون عن نصوص مُبرَّرَة،
لا تقرءوا هذه الرواية، ويقولها ضمنيًا لمن يبحثون عن حبكات تقليدية ونقاط إضاءة.
تُقدِّم
الرواية ثلاث احتمالات عن نشأة "ميرڤت عبد العزيز": مرة هى فتاة جنوبية،
رفضت الزواج من ابن عمها، ومرة ابنة لأم فلسطينية (كما تحب ميرڤت عن نفسها)، حذرتها
هذه الأم من الحب، ومرة ثالثة هى فتاة اسكندرانية من الطبقة المتوسطة، تجيد استخدام
الآلة الكاتبة، ربما هذه الاحتمالات ليست إلا تعبيرًا لما يمكن للفن أن يفعله، وما
تقدمه الكتابة من حيوات متعددة للشخصية الواحدة.
رواية
تلعب بالدرجة الأولى، تدرك ذاتها، أنها رواية، لها وجود، وإرداة، خارج إرداة
مؤلفها أحيانًا، وبعض شخصياتها تدرك أنها شخصيات روائية، ومؤلف يظهر داخل روايته بشخصيته،
ويتقاطع مع حياة الشخصيات الروائية، يمكننا أن نتوقَّع من مثل هذه الكتابة أن تميل
إلى الألعاب والتكنيكات الفنية، والبحث بطريقتها الخاصة، عن معادلات الفن السحرية،
ولمساته، وتظلُّ محاولات البحث هذه، فى حَدّ ذاتها، إحدى جماليات النصّ المكتوب.
يظهر المؤلف لإحدى الشخصيات "بيبو"، ويُقدِّم
نفسه له، فنرى كيف أن "بيبو"، الشخصية الروائية، يستقبل هذا بلا مبالاة،
ويتمتم كأنما يقول "مؤلف على نفسك"، هو يزيح مؤلفه إلى مساحة ضيقة فى المشهد،
ثم يضغط عليه أكثر، ويتحدث إليه بطريقة ساخرة "لماذا جئتَ إلى هنا أصلاً"،
ويغادر ليتركه جالسًا بمفرده فى المقهى، هنا يحتل "بيبو" المشهد، بأسلوبه،
طريقته فى الكلام، وترْكِه لمؤلفه وحيدًا، ما فعله الفن هنا، أنه حوَّلَ الشخصية الروائية
إلى حقيقية، جعلها تحتل المشهد كاملاً حتى فى وجود مؤلفها، أعاد ترتيب العلاقة بين
المؤلف والشخصية، وهذا كله نابع من رؤية للكاتب عن الكتابة، تساؤلاته عنها، وما
تطرحه هى أيضًا عليه من تساؤلات، وأفكار، هذا الحوار الدائر بين الكاتب وكتابته.
تنشأ
قصة حب بين "بيبو"، و"ميرڤت عبد العزيز"، بعد أن تصادفا فى
مطعم تعمل به، وظَلَّ هو يُحدِّق فى عنكبوت مرسوم بطرف بلوزتها، بينما تُحدِّق هى فى
فردتى جَوربَيه مختلفتى اللون.
تعشق
"ميرڤت" التماسيح، صيد العناكب، وبنسات الشعر، و"بيبو" يحب قصص
الحب (حتى لو لم يُصرِّح)، التجوال فى وسط البلد، التواجد فى الروايات كشخصية روائية
تدرك ذاتها، ومشاهدة الأفلام فى السينما، خاصة أفلام أودرى تاتو (زميلته فى العمل حَسْب
الرواية).
شخصيتان
بهما مزيج لطيف من غرائبية وعاديَّة، حتى تشعر بأنهما سقطا من كوكب بعيد على الأرض،
وفى الوقت نفسه لا يمكن إلا أن يكونا من كوكب الأرض، ستعتقد أنهما أول شخصان يهربان
من الكوكب لو أن هناك فرصة لذلك، مثلما قالا لبعضيهما فى محادثة بنهاية الرواية، وفى
الوقت نفسه تثق أنهما لن يغادرا الكوكب، حتى لو غادره الجميع.
نراهما
وهما يتحركان فى منطقة وسط البلد، نقرأ أسماء شوارع ومقاه معروفة، والتى من
المفترض أن تعطى انطباعًا بواقعية حياتهما، لكنها بطريقة ما، تصنع تلك اللمسة
الغرائبية، بينما المواقف التى من المفترض أن تكون خيالية، مثل طيران غرفة
"ميرڤت"، أو أن تنقل بإشارة من يدها برج حمام من مكانه بإحدى بنايات وسط
البلد بينما تقف هى فوق برج القاهرة، وحكايات أسطورية عن قارة أطلانطس، ومغارة
هرقل، كلها أضافت إلى الرواية شعورًا بالواقعية، ربما حدث هذا بسبب الطريقة
التلقائية التى تم المزج بها بين العالمين، ورؤية الكاتب للخيالى والواقعى، فيمكننا
أن نرى كيف أنه لا يتعامل وكأن هناك حدودًا بين العالمين يقوم هو بإلغائها، وإنما
الأمر أنه لا حدود أو مسافات بالأساس، لستَ فى حاجة لبذل مجهود كبير كى تجمع
مفردات العالمين فى مشهد، أو جملة واحدة، لأنهما عالم واحد، تسبح ألوانه وتمتزج
معًا، وعندما ترى ذلك، وتثق به، يمكنك أن تلتقط منه بفرشاتك، وترسم لوحتك.
يقول
الكاتب فى صفحة 163: "لا شىء فى ظنى اسمه أن الواقع أكثر خيالاً من الفن، لأن
الفن قادر على جعل الحياة، أكثر جمالاً، والأهم: أكثر احتمالاً"، ثم يطرح
تفسيرًا: "ربما يبدو الاحتفاء بما يتناوله الفن، رغم وجود مثيل له فى الواقع،
جوابًا على من يقولون أن الحياة صارت أكثر غرائبية من الواقع"، وهو يقدِّمه أيضًا
كتفسير محتمل لأسئلة أخرى حول الفن والكتابة.
فى
الفصل الأخير من الرواية: "سيارة"، رحلة غريبة يقوم بها "بيبو"
داخل سيارة مسرعة داخل نفق مظلم، يقودها بنفسه رغم أنه لم يقُد واحدة من قبل، معه الببغاء
"تأبط شرًا"، وقد تحوَّل "سامى" مُجفِّف الفراشات، والمملوك الذى
نجا من مذبحة محمد على، وهما شخصيتان ظهرتا فى الفصول القصيرة، ذات الأرقام
اللاتينية، تحوَّلا إلى ملاكين على كتفى "بيبو"، الذى يقوم بمحادثة هاتفية
مع "ميرڤت" تستمر لأيام، ثم يبحث عن مؤلفه كى يُخرجه من مأزقه، وحبْسَته
داخل السيارة، وعندما يصل إلى بيته، يناديه، لكن المؤلف لا يجيب، ويسمع
"بيبو" دقات أصابع على الكيبورد، ويتوقع أن مؤلفه يحدد مصيره الآن،
فيحاول الخروج من السيارة، ولا يستطيع، يقود من جديد، ويبدأ فى التصرف لإنقاذ نفسه،
وفى النهاية، يفتح سقف السيارة، فيطير الببغاء، وتختفى كل الأشياء تباعًا، بما فيها
المؤلف، ثم يطير سقف السيارة، يفك "بيبو" حزام الأمان، يترك جسده لأعلى،
عيناه مفتوحتان بارتياح، وفى ذهنه تتردد جملة وحيدة ربما سمعها فى فيلم أو قرأها: "حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب
رواية"، التى تبدو وكأنها جملة يقولها المؤلف لنفسه، وهو الذى قال داخل
روايته أنه يُفضِّل كونه شاعرًا، يؤكد هنا أنه، عندما يكتب رواية، ويمارس كل
ألاعيبه، ويطرح أسئلته وأفكاره عن الكتابة والفن، فإنه يفعل هذا، بقلب شاعر.
...............
نشر في مجلة روزاليوسف
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق