في تاريخ القصيدة العربية مفاصل أساسية، لا يمكن تتبع تاريخ الشاعرية
العربية دون أن نمر بها، مفاصل بدأت بالمعلقات السبع، ومرت برموز ديوان العرب
العمودي من أمثال المتنبي والبحتري وأبوفراس وأبو نواس، ثم من شاركوا في إحياء الشعر العربي أوائل
القرن الماضي، ثم رواد قصيدة التفعيلة، وانتهاء بمن كانوا عتبتها على البوابة
الأكبر، قصيدة النثر، وهؤلاء يقف في مقدمتهم محمد الماغوط وأنسي الحاج.
لا يمكن المرور إلى قصيدة النثر العربية دون ذكر مجموعة "شعر"،
والحديث عن أنسي وعن الماغوط، ليس فقط لأنهما أول من كتبا قصيدة النثر العربية،
فهناك تجارب أقدم غير مؤثرة، بل لأنهما غيرا خارطة الشعر في العالم العربي كله.
ديوان "لن" هو ديوان مفصلي في القصيدة الجديدة، ليس لأنه أول
ديوان نثري، بل لأنه ديوان مؤسس، وكاشف عن موهبة عملاقة، هي موهبة أنسي الحاج.
بالنسبة لي، وكما كانت شاعرية الماغوط أنسي مفصلية في القصيدة العربية،
كانت مفصلية في كتابتي، أذكر نفسي الآن، عندما كان عمري 19 عاماً، قبل 15 عاماً،
وأنا أقطع الطريق من الغورية إلى مكتبة مبارك العامة ـ صار اسمها مكتبة الجيزة بعد
الثورة ـ لأكتشف دواوين أنسي الحاج ومحمد الماغوط، فأقرر أن أهجر قصيدة التفعيلة
والقصيدة العمودية إلى هذا اللون الجديد، المبهر بالنسبة لي، الذي به كل ما في
الشعر الذي أحبه والذي أريد أن أقرأه، وأكتبه، والأقرب إلى ذائقتي.
كان اكتشاف أنسي الحاج بالنسبة لي هو اكتشاف الشعر، في "لن"،
و"الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"، و"ماذا صنعت بالذهب، ماذا
فعلت بالوردة"، وغيرها من الدواوين التي مهدت طريقاً طويلاً لي، ولغيري،
نكمله، ونبني عليه، وننهل منه.
أنسي الحاج، بالنسبة لي ولغيري ولأجيال سابقة ولاحقة، أحد الآباء الروحيين،
الذين لا ننفك نذكرهم، ونحبهم، ونضعهم في مقدمة صانعي وصائغي الشعربية الجديدة،
أنسي الحاج هو حامل شعلة الدهشة التي أبداً لا تنطفئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في الأخبار بمناسبة رحيل أنسي الحاج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق