مجدى عبد الرحيم
محمد أبو زيد شاعر ماهر ينحت قصيدته ببراعة واقتدار، ودربة بمكنونها وجوهرها وأبعادها النفسية والبصرية والحسية ، فيمنحك قصيدة تكاد تشعر بمفرداتها تتأوه بين يديك وتستعذب أنينها ووجعها وألمها، ويقدم لك أبيات رائقة صافية عذبة نقية مورقة بلا تصنع أو تكلف أو تعالٍ، وعلى الرغم من غوصه بك في منافى الغربة والوحدة والفراق والشجن فهو يهبك الحياة والخضرة والماء الرقراق والنبع الفياض.
قصيدته مراوغة مناورة لا تمنحك نفسها بسهولة ويسر فهي تحتاج منك إلى إعادة القراءة المرة تلو الأخرى حتى تتكشف لك مكنوناتها وتمنحك مفاتيح عوالمها ودروبها وما خفي من دهاليز أبياتها وسراديب مفرداتها وأعتاب غموض حروفها.
قصيدة أبوزيد مؤلمة حزينة داهشة مدهشة تتسلل إلى جوانح النفس البشرية وخفايا الروح فتعريها وتفضحها وتحرضها على واقعها المرير .
والمتتبع لرحلة أبو زيد الإبداعية، بداية من ديوان "ثقب في الهواء بطول قامتي"، مروراً بأعماله "قوم جلوس حولهم ماء"، " نعناعة مريم" ،" مديح الغابة"، "طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء"، ورواية "أثر النبي"، و"مدهاماتان"، يلحظ أننا أمام مبدع واع يملك أدواته الفنية ولديه لغة رائعة معبرة ومفردات تخصه وتميزه تجعله يقبض على اللحظة الشعرية بمقدرة، فهو لا يكتب قصيدته لمجرد الكتابة أو إفراغ شحنة حماسية فقط، بل إننا أمام شاعر لدية مشروع ومنجز إبداعي يعكف على إتمامه لا يحيد عنه قيد أنملة.
وفى ديوانه الصادر حديثاً عن دار شرقيات بعنوان "مقدمة في الغياب" يقدم لنا تجربة الغربة بكل أبعادها ومشاعرها وأحاسيسها كأنها أمر حتمي ملازم للإنسان أينما استقر، غربة داخل حدود الوطن يحياها بين الأهل والأحباب والأصدقاء وغربة أشد قسوة بعيداً عن الوطن وعن كل مسببات الفقد والوجع، فتشعر أن الذات الشاعرة تتحسر حتى على ما كان يزيد من عذابها في القرب بين جنبات وأحضان أرض المهد وهوائها ومائها وكل ما عاشه من ذكريات البدايات.
أغلب قصائد أبوزيد لها خصوصية فهو يكتب نفسه، لا يقلد أحداً وهناك سمات بارزة في شعره منها الصدق والإخلاص والبساطة والبراءة والعمق والسذاجة والطيبة والأحاسيس والمشاعر الفياضة والمفارقة الداهشة المدهشة في نهايات القصائد والحكمة والسخرية المريرة الموجعة التي تجعلك تضحك من فرط البكاء، وما يميز الديوان استخدام تقنية التكثيف بصورة لافتة للنظر فلا حشو ولا عبارات مجانية مستهلكة لا تفيد الهدف.
الديوان يحوى أربعة أقسام هي: كهلٌ يسير إلى الحافة، لاي ؤنس الغريب غير ذاكرت ، من يتذكر الغائب؟ ، من يعرف ماذا يفعل الآن؟، اسمي محمد أبو زيد.
أولى قصائد الديوان بعنوان "ما لا أستطيع تذكره" يقول: بعد 20 عاماً من السفر/ لم أعد أشعر بالغربة/ لا تحتفظ عيناي/ إلا بملامح مشوشة للوطن، هكذا يضعنا في داخل الحالة مباشرة فهو لا يتوانى أن يلقى بنا في خضم الأحداث منذ البداية، ويقول: أسير في شوارع لا أعرفها/ مثل ماكينة تتحرك في المصنع/ وتُسقِط الصدأ/ لا مشاعر في صدري/ لا أغنية تهز لسان المزمار، تأمل الوصف الغريب بماكينة صامتة بلا مشاعر، ويقول: حتى في اللحظة التي/ أمطرت السماء جليداً/ لم أكتب قصيدة جديدة كما تمنيت صغيراً / وضعت الثلج في فمي/ كي لا يسمع أحد أنفاسي / خلعت قميصي/ وسرت صامتاً، يا لروعة الكلمات المنسابة في رقة ووجع ودهشة.
وفى قصيدة "7 حي السفارات" يقول: المباني القصيرة الواسعة/ في الزمالك وجاردن سيتي/ التي ترفرف أمامها أعلام بألوان غريبة/ التي كنت أعتقد/ أن بداخلها/ أناساً يصنعون الشاي/ ويعدون أرجل النمل،/ الآن فقط../ أعرف معنى لون جدرانها/ وملمس حيطانها الباردة/ والروائح المنبعثة من داخلها/ رغم أن أحداً/ لم يدعني لشرب الشاي/ أو للاستفادة من خبرتي/ في علم الجبر. قصيدة مراوغة توحى بالكثير مكثفة ومختزلة تكاد تفضح عالمنا وواقعنا بما أوحت إليه ولم تصرح به، وفى قصيدة "ما يتركه الأرق على جلدي" يقول: خلف هذا الحائط/ توجد عائلة سعيدة/ تصلني قهقهاتهم بالليل/ وهم يشاهدون مسرحية/ أتمدد أمامها على الكنبة/ والكآبة تُجعّد وجهي/ يلاعبون أطفالهم/ فيما أحرق أصابعي/في طاسة المكرونة الساخنة/ لا أفهم ما يقولون/ لكن سعادتهم تُحرّك / ستارة النافذة، يصل الشاعر إلى هدفه من أقصر الطرق فلا زيادة ولا حشو في النص ويستطيع أن ينقلك إلى إحساس الوحدة التي تحياها الذات الشاعرة المغتربة وحولها الناس سعداء، وتأمل المفارقة الداهشة في نهاية النص حين تحرك السعادة الستارة، وفى قصيدة "الصمت" يقول: على المقهى/ تجلس لهجات كثيرة/ تتشبث بمقاعدها جيداً/ حتى لا تسقط/ ثلاث لهجات جلست على الكنبة/ المطلية بالأصفر في المدخل/ تدفع كل منها الأخرى/ لتأخذ حيزاً أكبر/ أقدم القهوة للجميع/ دون أن أنطق، هنا ملمح من السخرية على واقعنا الأليم من فرقة واختلاف أصاب كبد الحقيقة .
ومن أمتع قصائد الديوان قصيدة "كتاب الأجنبي" يقول: الأجنبي / يطفئ الأنوار/ يضع القلوب المنهكة أماكنها/ ويوصد عليها بإحكام/ يختار الملابس، يقرأ الأوراق / يحبس الذكرى في الدولاب / يرسل عينيه تودعان كل التفاصيل الصغيرة/ في المطار/ يشد الباب خلفه جيداً، والأجنبي هنا ليس الشخص القادم من الغرب كما هو متعارف عليه، بل هو كل شخص مغترب ترك بلده من أجل لقمة العيش، ويقول أيضاً: الأجنبي / يتعرف إلى غربته/ في صالة المطار/ بين الألسنة المختلفة والوجوه الملونة/ حين يصبح كل ما فعل طوال عمره/ مجرد حقيبة، ورقم رحلة/ صالة انتظار وميعاد وصول، فتأمل وصف الشاعر أحواله وحركاته وسكناته ببراعة ودقة متناهية وكيف يكون يقظاً في كل تصرفاته حتى لا يقع تحت طائلة قانون البشر، كما يقول: الأجنبي / لا يعرف الحب/ يعرف النظرات العابرة/ وحكمة الميت/ الذي يتفرج على العلاقات / مثل طفل في متجر ألعاب كبير، ما أروع التشبيه ودقته ودلالته، ويقول: الأجنبي/ لا يأكل إلا ما يعرف/ لأنه لا يأمن جهله/ لا يصدق إلا معدته / التي تخذله / طوال الوقت، الأجنبي / صديق نادل المقهى/ صاحب الدراي كلين/ عاملة مطعم الوجبات السريعة، أجاد الشاعر وصف حال كل مغترب ببراعة ثم تتوالى الابيات فيقول: الأجنبي أصلاً / بلا أصدقاء/ الأجنبي / لا يتكلم كثيراً/ الأجنبي / لا يتحدث / إلا مع سائقي التاكسي/ يربط الحزام/ ويسند رأسه إلى الوراء/ ينصت إلى كلام لا يفهمه ، ويقول : الأجنبي/ يعرف قيمة "سكايب" متأخراً، حقا لقد أصبح العالم الافتراضي وما به من تكنولوجيا الاتصالات هو ما يربطنا بمن نعرف ومن نحب، وبل وأصبح التصاقنا بتلك الآلات أقوى وأهم من البشر.
وفى قصيدة "مثل ليمونة في بلد مصابة بالقرف" يقول: يضع القصيدة في جيب الحقيبة، ويقول: ـ نويت أسافر إن شاء الله/ في المطار يكتشف أنه نسي الحقيبة/ في غرفة الفندق لا يجد وجهه/ في الشارع يفقد صوته/ في الأيام التالية يصبح أرقاً يتحرك في الليل/ لا يرغب فيه أحد، الشاعر ينجح فى تكثيف ظاهرة الاغتراب والشعور بالمرارة والوجع ، وفى قصيدة " قبل أن تحط الطائرة" يقول : صوت الطائرات المارقة/ جوار شرفتي/ يذكرني بغربتي/ وبإصلاح الكالون التالف/ لكنني لا أجيد الكلام/ أسأل نفسي:/ ـ ماذا أقول للبائع؟/ كيف أشير له إلى ما أريد؟، رغم بساطة الكلمات إلا أنها تتميز بالعمق والوجع والإحساس بالوحدة القاتلة، ويقول أيضاً: بعد أيام يصبح الصوت أكثر ألفة/ مثل صوت قطار/ كان يمر جوار قريتي/ فيهزها/ كأنه يهدهد طفلاً في سريره/ مثل صوت وابور الطحين/ الذي يضحك من العامل/ الغارق في غبار الدقيق، سخرية مريرة من واقع مؤلم، ويضيف قائلاً: مع الوقت/ أتسلى بالنظر إلى الطائرات القريبة/ ومقارنة ألوانها المختلفة/ أحدق في نوافذها البعيدة جيداً/ علّي ألمح/ أحداً أعرفه، وهنا تكمن المفارقة مع اعتياد الغربة وانتظار سراب يعرف جيداً أنه لن يأتي، وفى قصيدة "طريق العودة" يقول: أجمل الطرق../ طريق المطار/ وأنت تحاول أن تحتفظ في عينيك/ بلقطة أخيرة للمدينة/ لو كانت عيناك كاميرا/ لصورت اللحظة الأخيرة للحياة،/ قبل أن تدخل صالة المغادرة/ لو كان بإمكانك اصطحاب الطريق/ لوضعته في الصالون/ ليتفرج عليه جيرانك/ وتحكي لأحفادك بعد سنوات/ أنك مررت من هنا/ وتصف للعائدين الطريق/ ثم تُطرق:/ ـ امممم.. الغربة تغيرت كثيراً، ما أروع الوصف، كأنك أمام صورة مشهدية لعين خبيرة مدربة على التقاط أدق تفاصيل اللحظة .
وفى قصيدة "قصيدة تنتظر نهاية العالم" وهى مقسمة إلى عشر مقاطع منها: لم أعد أذكر متى استيقظت/ وحيداً مثل كلب ضال/ ببنطلون واحد ممزق/ وحقيبة كتف متسخة تخزن ذكرياتي/ وسحابة بوجه مومياء تظللني/ وديناصور أمتطيه إلى العمل، هكذا تسير القصيدة ضائعة شريدة غريبة، ويقول أيضاً: في عيد الأم أرسم قصيدة/ وفي يوم اليتيم أكتب لوحة/ وهكذا تسير الحياة/ مرتبكة مثل حب المراهقين/ أعد خسائري وأنا أنظف المنزل/ أزيحها جانباً وأواصل طريقي، رغم قسوة الكلمات وسخونتها لا نملك إلا التفاعل معها، ويقو: يمتلك أصدقائي ذكريات كثيرة يحكونها لمقاعد المقهي/ لكنني مثل الحوائط أفضل الاستماع/ فقط أراقب الجير يتساقط مني/ أخبئ سري: أنني بلا ذكريات ، اللغة جذابة والشاعر يعزف على أوتار غربتنا بصدق يمتلك القلوب ويتغلغل فى خفايا الروح والنفس البشرية.
جميع قصائد الديوان تستحق التوقف أمامها كثيرا ومنها قصيدة "قبل 4 مايو 1980 بالتحديد" التى يتحدث فيها عن نفسه قائلاً: قبل 1980/ لم يكن هناك شيء اسمه محمد أبو زيد/ لكن كان مارلون براندو يبتسم/ ويسلم على الناس في الشارع/ ويختتمها قائلاً: قبل 1980/ كانت الحياة أجمل، قصيدة تتميز بالمكاشفة والصدق الفنى والنفسى، وهناك الكثير من القصائد منها قصيدة "أسطورة القطط والحمير" وقصيدة "بيان الثورة رقم صفر" التى ينحاز فيها إلى الشعراء وربما أغضبت منه كتاب الرواية، وقصيدة "غريق ينظر للسحابة "وقصيدة "القصيدة العارية" وقصيدة "قبل الموت" وقصيدة "الحقيقة" التى يقول فيها: أنا لست محمد أبو زيد/ أقصد لست ذلك الشاعر الذي قرأتم له من قبل/ وابتسمتم أو شتمتم، وفى قصيدة "ضحكة ساخرة لا تخرج إلا من ميت" يقول: أضع القلم في الثلاجة، والأوراق على البوتاجاز/ وأقول: ما الذي يريد أن يقوله محمد أبو زيد هذه المرة.
وفى آخر قصائد الديوان والتى يبدو عنوانها طويلاً جداً لكنه معبر "تجرحني الضحكة فتتناثر دمائي على أفواهكم المفتوحة أمامي" يقول: أكتب قصيدتي الأخيرة/ وأنا مستغرق تماماً/ غير آبه بالعالم الذي يشتعل في الخارج بالحرب/ عند آخر حرف سأتنهد/ تنهيدة تحدث شرخاً في الجبال/ وتفزع الطيور/ وتسقط البحارة من أعلى السفينة/ للماء/ أتمشى بعدها قليلاً/ والوردة تنام خلف أذني/ كقلم نجار ماهر/ غير عابئ بأوراق القصيدة/ التي تطايرت في الريح .
وفى نهاية الرحلة مع ديوان "مقدمة فى الغياب" لمحمد أبو زيد نقول إنه ديوان الحالة والصدق والشفافية والإبحار مع الذات المغتربة فى عالم زائف أحداثه متلاحقة متواصلة تقسو كثيراً وتعطف قليلاً كما عبرت قصائد الديوان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة التحرير
محمد أبو زيد شاعر ماهر ينحت قصيدته ببراعة واقتدار، ودربة بمكنونها وجوهرها وأبعادها النفسية والبصرية والحسية ، فيمنحك قصيدة تكاد تشعر بمفرداتها تتأوه بين يديك وتستعذب أنينها ووجعها وألمها، ويقدم لك أبيات رائقة صافية عذبة نقية مورقة بلا تصنع أو تكلف أو تعالٍ، وعلى الرغم من غوصه بك في منافى الغربة والوحدة والفراق والشجن فهو يهبك الحياة والخضرة والماء الرقراق والنبع الفياض.
قصيدته مراوغة مناورة لا تمنحك نفسها بسهولة ويسر فهي تحتاج منك إلى إعادة القراءة المرة تلو الأخرى حتى تتكشف لك مكنوناتها وتمنحك مفاتيح عوالمها ودروبها وما خفي من دهاليز أبياتها وسراديب مفرداتها وأعتاب غموض حروفها.
قصيدة أبوزيد مؤلمة حزينة داهشة مدهشة تتسلل إلى جوانح النفس البشرية وخفايا الروح فتعريها وتفضحها وتحرضها على واقعها المرير .
والمتتبع لرحلة أبو زيد الإبداعية، بداية من ديوان "ثقب في الهواء بطول قامتي"، مروراً بأعماله "قوم جلوس حولهم ماء"، " نعناعة مريم" ،" مديح الغابة"، "طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء"، ورواية "أثر النبي"، و"مدهاماتان"، يلحظ أننا أمام مبدع واع يملك أدواته الفنية ولديه لغة رائعة معبرة ومفردات تخصه وتميزه تجعله يقبض على اللحظة الشعرية بمقدرة، فهو لا يكتب قصيدته لمجرد الكتابة أو إفراغ شحنة حماسية فقط، بل إننا أمام شاعر لدية مشروع ومنجز إبداعي يعكف على إتمامه لا يحيد عنه قيد أنملة.
وفى ديوانه الصادر حديثاً عن دار شرقيات بعنوان "مقدمة في الغياب" يقدم لنا تجربة الغربة بكل أبعادها ومشاعرها وأحاسيسها كأنها أمر حتمي ملازم للإنسان أينما استقر، غربة داخل حدود الوطن يحياها بين الأهل والأحباب والأصدقاء وغربة أشد قسوة بعيداً عن الوطن وعن كل مسببات الفقد والوجع، فتشعر أن الذات الشاعرة تتحسر حتى على ما كان يزيد من عذابها في القرب بين جنبات وأحضان أرض المهد وهوائها ومائها وكل ما عاشه من ذكريات البدايات.
أغلب قصائد أبوزيد لها خصوصية فهو يكتب نفسه، لا يقلد أحداً وهناك سمات بارزة في شعره منها الصدق والإخلاص والبساطة والبراءة والعمق والسذاجة والطيبة والأحاسيس والمشاعر الفياضة والمفارقة الداهشة المدهشة في نهايات القصائد والحكمة والسخرية المريرة الموجعة التي تجعلك تضحك من فرط البكاء، وما يميز الديوان استخدام تقنية التكثيف بصورة لافتة للنظر فلا حشو ولا عبارات مجانية مستهلكة لا تفيد الهدف.
الديوان يحوى أربعة أقسام هي: كهلٌ يسير إلى الحافة، لاي ؤنس الغريب غير ذاكرت ، من يتذكر الغائب؟ ، من يعرف ماذا يفعل الآن؟، اسمي محمد أبو زيد.
أولى قصائد الديوان بعنوان "ما لا أستطيع تذكره" يقول: بعد 20 عاماً من السفر/ لم أعد أشعر بالغربة/ لا تحتفظ عيناي/ إلا بملامح مشوشة للوطن، هكذا يضعنا في داخل الحالة مباشرة فهو لا يتوانى أن يلقى بنا في خضم الأحداث منذ البداية، ويقول: أسير في شوارع لا أعرفها/ مثل ماكينة تتحرك في المصنع/ وتُسقِط الصدأ/ لا مشاعر في صدري/ لا أغنية تهز لسان المزمار، تأمل الوصف الغريب بماكينة صامتة بلا مشاعر، ويقول: حتى في اللحظة التي/ أمطرت السماء جليداً/ لم أكتب قصيدة جديدة كما تمنيت صغيراً / وضعت الثلج في فمي/ كي لا يسمع أحد أنفاسي / خلعت قميصي/ وسرت صامتاً، يا لروعة الكلمات المنسابة في رقة ووجع ودهشة.
وفى قصيدة "7 حي السفارات" يقول: المباني القصيرة الواسعة/ في الزمالك وجاردن سيتي/ التي ترفرف أمامها أعلام بألوان غريبة/ التي كنت أعتقد/ أن بداخلها/ أناساً يصنعون الشاي/ ويعدون أرجل النمل،/ الآن فقط../ أعرف معنى لون جدرانها/ وملمس حيطانها الباردة/ والروائح المنبعثة من داخلها/ رغم أن أحداً/ لم يدعني لشرب الشاي/ أو للاستفادة من خبرتي/ في علم الجبر. قصيدة مراوغة توحى بالكثير مكثفة ومختزلة تكاد تفضح عالمنا وواقعنا بما أوحت إليه ولم تصرح به، وفى قصيدة "ما يتركه الأرق على جلدي" يقول: خلف هذا الحائط/ توجد عائلة سعيدة/ تصلني قهقهاتهم بالليل/ وهم يشاهدون مسرحية/ أتمدد أمامها على الكنبة/ والكآبة تُجعّد وجهي/ يلاعبون أطفالهم/ فيما أحرق أصابعي/في طاسة المكرونة الساخنة/ لا أفهم ما يقولون/ لكن سعادتهم تُحرّك / ستارة النافذة، يصل الشاعر إلى هدفه من أقصر الطرق فلا زيادة ولا حشو في النص ويستطيع أن ينقلك إلى إحساس الوحدة التي تحياها الذات الشاعرة المغتربة وحولها الناس سعداء، وتأمل المفارقة الداهشة في نهاية النص حين تحرك السعادة الستارة، وفى قصيدة "الصمت" يقول: على المقهى/ تجلس لهجات كثيرة/ تتشبث بمقاعدها جيداً/ حتى لا تسقط/ ثلاث لهجات جلست على الكنبة/ المطلية بالأصفر في المدخل/ تدفع كل منها الأخرى/ لتأخذ حيزاً أكبر/ أقدم القهوة للجميع/ دون أن أنطق، هنا ملمح من السخرية على واقعنا الأليم من فرقة واختلاف أصاب كبد الحقيقة .
ومن أمتع قصائد الديوان قصيدة "كتاب الأجنبي" يقول: الأجنبي / يطفئ الأنوار/ يضع القلوب المنهكة أماكنها/ ويوصد عليها بإحكام/ يختار الملابس، يقرأ الأوراق / يحبس الذكرى في الدولاب / يرسل عينيه تودعان كل التفاصيل الصغيرة/ في المطار/ يشد الباب خلفه جيداً، والأجنبي هنا ليس الشخص القادم من الغرب كما هو متعارف عليه، بل هو كل شخص مغترب ترك بلده من أجل لقمة العيش، ويقول أيضاً: الأجنبي / يتعرف إلى غربته/ في صالة المطار/ بين الألسنة المختلفة والوجوه الملونة/ حين يصبح كل ما فعل طوال عمره/ مجرد حقيبة، ورقم رحلة/ صالة انتظار وميعاد وصول، فتأمل وصف الشاعر أحواله وحركاته وسكناته ببراعة ودقة متناهية وكيف يكون يقظاً في كل تصرفاته حتى لا يقع تحت طائلة قانون البشر، كما يقول: الأجنبي / لا يعرف الحب/ يعرف النظرات العابرة/ وحكمة الميت/ الذي يتفرج على العلاقات / مثل طفل في متجر ألعاب كبير، ما أروع التشبيه ودقته ودلالته، ويقول: الأجنبي/ لا يأكل إلا ما يعرف/ لأنه لا يأمن جهله/ لا يصدق إلا معدته / التي تخذله / طوال الوقت، الأجنبي / صديق نادل المقهى/ صاحب الدراي كلين/ عاملة مطعم الوجبات السريعة، أجاد الشاعر وصف حال كل مغترب ببراعة ثم تتوالى الابيات فيقول: الأجنبي أصلاً / بلا أصدقاء/ الأجنبي / لا يتكلم كثيراً/ الأجنبي / لا يتحدث / إلا مع سائقي التاكسي/ يربط الحزام/ ويسند رأسه إلى الوراء/ ينصت إلى كلام لا يفهمه ، ويقول : الأجنبي/ يعرف قيمة "سكايب" متأخراً، حقا لقد أصبح العالم الافتراضي وما به من تكنولوجيا الاتصالات هو ما يربطنا بمن نعرف ومن نحب، وبل وأصبح التصاقنا بتلك الآلات أقوى وأهم من البشر.
وفى قصيدة "مثل ليمونة في بلد مصابة بالقرف" يقول: يضع القصيدة في جيب الحقيبة، ويقول: ـ نويت أسافر إن شاء الله/ في المطار يكتشف أنه نسي الحقيبة/ في غرفة الفندق لا يجد وجهه/ في الشارع يفقد صوته/ في الأيام التالية يصبح أرقاً يتحرك في الليل/ لا يرغب فيه أحد، الشاعر ينجح فى تكثيف ظاهرة الاغتراب والشعور بالمرارة والوجع ، وفى قصيدة " قبل أن تحط الطائرة" يقول : صوت الطائرات المارقة/ جوار شرفتي/ يذكرني بغربتي/ وبإصلاح الكالون التالف/ لكنني لا أجيد الكلام/ أسأل نفسي:/ ـ ماذا أقول للبائع؟/ كيف أشير له إلى ما أريد؟، رغم بساطة الكلمات إلا أنها تتميز بالعمق والوجع والإحساس بالوحدة القاتلة، ويقول أيضاً: بعد أيام يصبح الصوت أكثر ألفة/ مثل صوت قطار/ كان يمر جوار قريتي/ فيهزها/ كأنه يهدهد طفلاً في سريره/ مثل صوت وابور الطحين/ الذي يضحك من العامل/ الغارق في غبار الدقيق، سخرية مريرة من واقع مؤلم، ويضيف قائلاً: مع الوقت/ أتسلى بالنظر إلى الطائرات القريبة/ ومقارنة ألوانها المختلفة/ أحدق في نوافذها البعيدة جيداً/ علّي ألمح/ أحداً أعرفه، وهنا تكمن المفارقة مع اعتياد الغربة وانتظار سراب يعرف جيداً أنه لن يأتي، وفى قصيدة "طريق العودة" يقول: أجمل الطرق../ طريق المطار/ وأنت تحاول أن تحتفظ في عينيك/ بلقطة أخيرة للمدينة/ لو كانت عيناك كاميرا/ لصورت اللحظة الأخيرة للحياة،/ قبل أن تدخل صالة المغادرة/ لو كان بإمكانك اصطحاب الطريق/ لوضعته في الصالون/ ليتفرج عليه جيرانك/ وتحكي لأحفادك بعد سنوات/ أنك مررت من هنا/ وتصف للعائدين الطريق/ ثم تُطرق:/ ـ امممم.. الغربة تغيرت كثيراً، ما أروع الوصف، كأنك أمام صورة مشهدية لعين خبيرة مدربة على التقاط أدق تفاصيل اللحظة .
وفى قصيدة "قصيدة تنتظر نهاية العالم" وهى مقسمة إلى عشر مقاطع منها: لم أعد أذكر متى استيقظت/ وحيداً مثل كلب ضال/ ببنطلون واحد ممزق/ وحقيبة كتف متسخة تخزن ذكرياتي/ وسحابة بوجه مومياء تظللني/ وديناصور أمتطيه إلى العمل، هكذا تسير القصيدة ضائعة شريدة غريبة، ويقول أيضاً: في عيد الأم أرسم قصيدة/ وفي يوم اليتيم أكتب لوحة/ وهكذا تسير الحياة/ مرتبكة مثل حب المراهقين/ أعد خسائري وأنا أنظف المنزل/ أزيحها جانباً وأواصل طريقي، رغم قسوة الكلمات وسخونتها لا نملك إلا التفاعل معها، ويقو: يمتلك أصدقائي ذكريات كثيرة يحكونها لمقاعد المقهي/ لكنني مثل الحوائط أفضل الاستماع/ فقط أراقب الجير يتساقط مني/ أخبئ سري: أنني بلا ذكريات ، اللغة جذابة والشاعر يعزف على أوتار غربتنا بصدق يمتلك القلوب ويتغلغل فى خفايا الروح والنفس البشرية.
جميع قصائد الديوان تستحق التوقف أمامها كثيرا ومنها قصيدة "قبل 4 مايو 1980 بالتحديد" التى يتحدث فيها عن نفسه قائلاً: قبل 1980/ لم يكن هناك شيء اسمه محمد أبو زيد/ لكن كان مارلون براندو يبتسم/ ويسلم على الناس في الشارع/ ويختتمها قائلاً: قبل 1980/ كانت الحياة أجمل، قصيدة تتميز بالمكاشفة والصدق الفنى والنفسى، وهناك الكثير من القصائد منها قصيدة "أسطورة القطط والحمير" وقصيدة "بيان الثورة رقم صفر" التى ينحاز فيها إلى الشعراء وربما أغضبت منه كتاب الرواية، وقصيدة "غريق ينظر للسحابة "وقصيدة "القصيدة العارية" وقصيدة "قبل الموت" وقصيدة "الحقيقة" التى يقول فيها: أنا لست محمد أبو زيد/ أقصد لست ذلك الشاعر الذي قرأتم له من قبل/ وابتسمتم أو شتمتم، وفى قصيدة "ضحكة ساخرة لا تخرج إلا من ميت" يقول: أضع القلم في الثلاجة، والأوراق على البوتاجاز/ وأقول: ما الذي يريد أن يقوله محمد أبو زيد هذه المرة.
وفى آخر قصائد الديوان والتى يبدو عنوانها طويلاً جداً لكنه معبر "تجرحني الضحكة فتتناثر دمائي على أفواهكم المفتوحة أمامي" يقول: أكتب قصيدتي الأخيرة/ وأنا مستغرق تماماً/ غير آبه بالعالم الذي يشتعل في الخارج بالحرب/ عند آخر حرف سأتنهد/ تنهيدة تحدث شرخاً في الجبال/ وتفزع الطيور/ وتسقط البحارة من أعلى السفينة/ للماء/ أتمشى بعدها قليلاً/ والوردة تنام خلف أذني/ كقلم نجار ماهر/ غير عابئ بأوراق القصيدة/ التي تطايرت في الريح .
وفى نهاية الرحلة مع ديوان "مقدمة فى الغياب" لمحمد أبو زيد نقول إنه ديوان الحالة والصدق والشفافية والإبحار مع الذات المغتربة فى عالم زائف أحداثه متلاحقة متواصلة تقسو كثيراً وتعطف قليلاً كما عبرت قصائد الديوان.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة التحرير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق