أحمد علي عكة
يقول تشارلز ديكنز
"تتكون الحياة من لحظات رحيل كثيرة واحدة تلو آخرى" ، ومحمد أبوزيد يقدم
في ديوانه الجديد " مقدمة في الغياب " تجربة رائعة عن فقدان الأحبة والوطن
برحيله الدائم والذي لايتوقف، الغربة في هذا الديوان ليست غربة مكانية حيث اغتراب الشاعر
وبعده عن وطنه بل هي غربة نفسية لفقد الشاعر الأحبة والخلان وفقدان معنى الوطن، فمن
هم في الوطن يعانون من نفس الغربة والفقدان.
محمد أبو زيد الذي
نشر له من قبل خمسة دواوين وديوان للأطفال ورواية، دائما مايقدم نصوصا مختلفة عما يقدم
في قصيدة النثر فهو صوت شعري مميز ومختلف، القارئ والمتابع لكل ماكتبه أبوزيد سيعرف
انه يعمل على مشروع أدبي متكامل وليس دواوين كل منها يعبر عن حالته فقط ، فستجد أن
خطوطا عريضة تربط بين أعمال الشاعر وتشعر أن كل ديوان من دواوينه هو خطوة على الطريق
تضيف لما قبلها وتمهد لما بعدها.
الرابط الأول بين
أعمال الشاعر هو الفقد ففقدان الشاعر لوالدته في الرابعة من عمره له تأثير كبير على
كل مايكتبه ابتداء من ديوانه الأول " ثقب في الهواء بطول قامتي " وانتهاء
بديوانه الأخير " مقدمة في الغياب " ويضاف إلى فقد الأم فقد الجد والجدة،
كما ستجد فقدان أيام الطفولة وقريته الصغيرة في سوهاج، ويتضح هذا في قصيدة " إلقاء
تحية الصباح على الموتى " والتي يقول فيها :
قبل قرون
أخذت دراجتي
قاصداً الحدود
ودّعت قبر أمي وسرت
بكيت على قبر جدتي،
ومشيت
لوّحت لقبر جدي وطرت
قلت لهم: صباح الخير
فلم يرد أحد.
وفي قصيدة "
قصيدة تنتظر نهاية العالم " حالة آخرى من حالات فقد الأم فيقول فيها أبوزيد :
وأنا صغير، حلمت أن
يشق الملائكة صدري. فجاءت الكائنات الفضائية ووضعت زجاجة مولوتوف مكان قلبي وأخذت أمي.
طرت في الجنازة فوق رءوس المشيعين، أخطف أغطية رءوسهم لأصنع بها كفناً لي.
الرابط الثاني بين
أعمال أبوزيد هو الموت والذي يتطور منظور الشاعر له من ديوان إلى آخر فكل ديوان من
دواوين محمد أبوزيد يقدم الموت بشكل جديد وعلاقة مختلفة بينه وبين الموت فأحيانا يصادقه
وأحيانا يواجهه وأحيانا يهرب منه، لكن ماقدمه أبو زيد من رؤية للموت كانت أكثر فلسفية
عما سبق، ويظهر هذا في قصيدة " طريق ممتد بين عطارد ونبتون " يقول فيها
:
في جيبي صور للموتي
الذين أحبهم
جدي وجدتي
وشخص لا أعرفه
مشيت في جنازته بالصدفة
ربما يكون أنا.
ويقول في قصيدة
" عصفور يقف على الشوك ويغني: عش أنت ":
قابلت الموت ثلاث
مرات من قبل
كل مرة كنت أضحك
أضربه على كتفه، وأقول:
ـ لا تنس أن تأخذ
الباب في يدك وأنت خارج.
أو:
ـ عندي عمل صباح غد،
سأضطر أن أستأذن
وأتركه وحيداً على
الكوبري
يرتجف من البرد
أنا أكذب عليكم
في المرة الأولى كنت
طفلاً
في الثانية كنت نائماً
في الثالثة كنت غريباً
لم يواجهني أبدا رجلاً
لرجل
يغافلني ثم يأخذ جزءاً
من جسدي
فلا أعرف ما الذي
تبقى
حياً مني
أما الرابط الثالث
فهو الغربة، والغربة بدأت لدى الشاعر منذ أن فقد والدته فصار غريبا في قريته التي شعر
فيها بالقسوة والمرارة فكان طريقه الذي قرر أن يسير فيه إلى الآن، وهو الهروب من الغربة
بالغربة فحضر للدراسة في القاهرة، وتحقيق ذاته كشاعر وتلمس خطوات البدايات،كل يوم تزداد
الغربة وتتسع لتصير غربة الفقد وغربة الاحباط من العالم وغربة الوطن الذي لم يعد كما
كان بل أصبح مشوشا وحزينا أكثر مماينبغي ويعبر أبوزيد عن هذا في قصيدته "مالا
أستطيع تذكره " :
الآن
بعد 20 عاماً من السفر
لم أعد أشعر بالغربة
لا تحتفظ عيناي
إلا بملامح مشوشة
للوطن
بيوت وطرق
ومارة في جلابيب واسعة
لا أتذكر أسماءهم
وفي قصيدة "
أوغاد مثلكم " يقول أيضا :
وقلت في السفر 3 فوائد
1ـ الوحدة
2ـ الوحدة
3 ـ الوحدة
فلا تزعجوني بضجيجكم
بعد اليوم
دعوني أواصل السير
على المياه
ربما أضل الطريق.
الرابط الرابع بين
دواوين محمد أبوزيد هو " ميرفت عبد العزيز " في هذا الديوان ربط محمد أبوزيد
بين ميرفت عبد العزيز وهو الاسم الكامل لحبيبة افتراضية دائما مايخاطبها الشاعر ويخاف
عليها من الأشرار وبين الغربة فكان عنوان القصيدة الرائع " الغريب قابل ميرفت
عبد العزيز " ويقول فيها أبوزيد:
بالأمس
قابلت فتاة تشبهك
تريد السفر إلى كوكب
آخر
فأعطيتها تذكرتي
سرنا معاً بطول درب
التبانة
نتحدث عن قارئي الكف
وجثث سائقي الحافلات
المسرعة.
بالأمس
قابلت قطاراً يشبهك
له نفس الابتسامة
وأذني الطاقية في
رأسه
كأنهما شارة النصر.
الرابط الخامس الذي
يربط بين دواوين محمد أبو زيد هو البحث في ماهية الكتابة والصراع بين ألوان الكتابة
المختلفة، وظهر هذا في الدواوين السابقة كما فعل الشاعر في ديوانه الماضي " مدهامتان
" حين قدم نصوصا شعرية بين القصيدة العمودية والتفعيلة والنثر وكأنه يريد أن يقول
أن النص الجيد هو الذي ينتصر دائما مهما كان نوعه ومهما كانت طريقة كتابته وعرضه، واستكمالا
لهذا انتصر محمد أبوزيد في هذا الديوان لشاعريته برغم انه كتب الرواية إلا انه يدافع
عن الشعر وينتصر له في قصيدة " بيان الثورة رقم صفر " والتي يقول فيها :
" في البدء كان
الشعراء. الشعراء وحدهم، فقرروا أن يصنعوا العالم، مرة على شكل قلب تسيل منه المشاعر
كشلال، ومرة كقصيدة عمودية تغلق بابيها على الأطفال من البرد وغبار الحرب. بعضهم تسلل
بعيداً واختار السرد، فنفتهم الآلهة، حولتهم إلى قصاصين صغار، يراهم الناس في الشارع
فلا يبتسمون في وجوههم، وتحذر الأمهات أطفالهن من مصيرهم الأسود إذا لم يشربوا اللبن.
كبر القصاصون وصاروا
روائيين، لم ينسوا جرحهم القديم، فحوَل كل روائي قرطاسه إلى خنجر، ينظر إلى عيني الشاعر
ويقول: "البقاء لله"، فيرد الشاعر "البقاء للأصلح"، ثم تذوي عينه،
كلما ذوت عين ، اختفت سحابة في السماء، كلما مات شاعر نقص لون في قوس قزح."
الفكرة الرئيسية التي
طرحها الشاعر في ديوانه بجانب فكرة الغياب هي فكرة نهاية العالم وظهرت هذه الفكرة بقوة
في الديوان لغاية الخلاص من شرور هذا العالم، الذي يسحق البسطاء ويقهر الضعفاء ولا
يرحم العجائز والأطفال، وقد أظهر أبو زيد هذا في العديد من قصائد الديوان منها قصيدة
" إلقاء تحية الصباح على الموتى " ويقول فيها :
حتى وصلت إلى نهاية
العالم
بدا مثل سور قصير
أملس
يدفعنني كأنني كرة
مضرب
خلفه هوّة بلا نهاية
لم أرغب في العودة
حيث لا صديق ولا وطن
فوقفت هناك متأملاً
ساقيّ اللذين فقدتهما
وقلبي الذي تهدم
أفكر في رد على
"نهاية العالم":
ـ لماذا تأخرت؟
وقصيدة " قصيدة
تنتظر نهاية العالم " ويقول فيها :
" الموت الذي
انتظرته في موقف الباص تأخر ساعتين، حتى برد النسكافيه وجاء الشتاء. الموت الذي ربيته
خذلني من أجل من يدفع أكثر. كنت أريد أن أموت مبكراً هذا الأسبوع. حدقتاي تتحركان مثل
سمكة مجنونة في حوض، أزحزح الأهرامات من فوق صدري وأنهض، أفتح القفص الصدري مثل جناحين
وأطير. من قال إن المستقبل خلفنا؟ ليس ثمة مستقبل من الأساس. وليس هناك ديناصور أيضاً."
وفي قصيدة "
عودي يا هاميس.. عودي عند الفجر " يقول أبوزيد :
الآن
أتمدد على السرير
في كامل ملابسي
وأنتظر أن يطفئ العالم
أنواره
وفي قصيدة "
حكاية لتسلية الموتى " والتي يقول فيها :
من يعطيني ألواناً
أخرى
فأضيف قليلاً من الأسود
من يمنحني يداً
فأنقل المد والجزر
من رأسي إلى الماء
من يعيرني قلماُ
فأكتب The end
وفي قصيدة "
السماء تمطر في الخارج " والتي تقول :
في موقف الباص
انتظرت نهاية العالم
في ساحة المسجد
ـ وأنا منهمك في الدعاء
ـ
ترقبت اللحظة الأخيرة
في غرفتي الصغيرة
على يساري دب تعيس
وأمامي فيلم سخيف
أنتظر تَفحُّم الكتاب
في يدي.
وفي قصيدة "
أعتذر فقط للأطفال، أما أنتم... " يقول الشاعر:
عندما يهوي النيزك
الذي سيدمر الأرض،
الذي ينتظره العلماء
منذ سنوات
الذي يقول للمنجمين:
ـ كم كنتم صادقين
النيزك الذي سينهي
الخلاف
بين امرأة وحماتها
على رائحة البصل في
المطبخ
الذي سيريح عاشقاً
خذلته حبيبته
الذي سيحل أزمة أب
لا يستطيع دفع ثمن
حذاء طفلته
الذي سيضع حداً لأسرى
الحرب
وموتى المجاعات وأطفال
الشوارع
والقصائد السخيفة
ماقدمه محمد أبوزيد
في ديوانه " مقدمة في الغياب " يدل على انه شاعر مطبوع بعيدا كل البعد عن
التكلف والتصنع يمتلك أدواته الشعرية جيدا من لغة وصور وأساليب تجعله مختلفا ومتفردا،
كما أن قصيدة النثر عند محمد أبوزيد قصيدة شديدة الذاتية تعالج قضايا عامة تخص الانسانية
بأكملها وليس الشاعر فقط ، استمتعت كثيرا بقراءة هذا الديوان كما استمتعت بكل ما كتبه
محمد أبوزيد وانتظر الجديد منه دائما سواء كان الجديد ديوان شعر ينتصر فيه لشاعريته
أو رواية يصالح بها الروائي بداخله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة القاهرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق