أحزنني خبر أن مسيرة "دار شرقيات"
قد وصلت إلى نهايتها بعد أكثر من ربع قرن في عالم النشر.
كنت أهاتف صاحب الدار حسني سليمان، بالصدفة،
عندما فاجأني أنه ينهي إجراءات غلق الدار. وعندما رآني مصدوماً، قال لي إن لكل شيء
نهاية، وأن القطار قد وصلت إلى محطته الأخيرة، وأنه كبر في السن وتعب.
كنت ألمح المرارة في صوته، تلك التي حاول
إخفاءها خلف ضحكات قصيرة مقتضبة، مرارة إحساسه بأن الجميع تخلى عنه، من المثقفين
إلى المؤسسات الثقافية المختلفة، إلى مئات الكتاب الذين ينتمون إلى أجيال مختلفة،
ساهمت دار شرقيات في صناعة اسمهم وعرفت الكتاب بهم.
سبب صدمتي وحزني، أن "دار شرقيات"
واحدة من دور النشر المصرية القليلة، التي تحظى باحترام شديد، وشهرة كبيرة مصرياً
وعربياً، ويكفي أن تذكر اسمها أمام أحد الكتاب العرب، حتى يشيد بالكتب الصادرة
عنها، والمنتقاة بعناية، ويكفي أن ترى كتاباً صادراً منها حتى تتأكد أنه سيكون
جيداً، حتى لو لم تكن تعرف اسم الكاتب.
بدأت دار "شرقيات" النشر في مصر في
بداية تسعينيات القرن الماضي، وقدمت جيل التسعينيات إلى القراء، فالأعمال الأولى
لعدد كبير منهم صدرت منها، بداية من إيمان مرسال ومصطفى ذكري، كما قدمت أعمالاً
لأجيال أخرى من المبدعين مثل جمال الغيطاني وخيري شلبي وإدوار الخراط ومحمد عفيفي
مطر ولطيفة الزيات، وقدمت ترجمات متميزة من روائع الأدب العالمي مثل "البحث
عن الزمن المفقود" لمارسيل بروست، والأحمر والأسود لستاندال، ومؤلفات بورخيس،
ورباعية مارسيل بانيول وصورة شخصية في السبعين لسارتر ومدار بوفاري لفلوبير،
ومؤلفات وليم بليك وآني إرنو وكونديرا وكافكا وإيتالو كالفينو وسودرجران، فضلاً عن
مئات الكتاب المصريين والعرب من أجيال مختلفة مثل ميسون صقر وجورج طرابيشي وعلي
منصور وعلاء خالد ورنا التونسي وطارق إمام وغيرهم.
أصبحت دار شرقيات على مدار أكثر من 25 عاماً
جزءاً من ذاكرة الثقافة المصرية، لا يمكن حذفها أو الاستغناء عنها، برغم كل
المصاعب التي قابلت الدار خلال السنوات الأخيرة، وبرغم المشاكل المتعلقة بصناعة
النشر والتوزيع في مصر الآن، وعدم استطاعة صاحب الدار التأقلم معها إلا أنه ظل
محافظاً على كونه من أفضل الناشرين من حيث كونه قارئاً جيداً للأعمال التي ينشرها،
وصادقاً في مواعيده ـ وهو أمر قلما نجده في أي دار نشر أخرى ـ وحريصاً على احترام
مهنته بإصدار كتب جيدة غاضاً الطرف عن أي إغراءات تستجيب لها دور أخرى.
لا زلت أذكر تجربتي الأولى معه في النشر عام
2006، وهي الحكاية التي لا أمل من تكرارها وحكيها للتدليل على دقة المواعيد، عندما
ذهبت إليه بديواني "قوم جلوس حولهم ماء"، ولم يكن قد صدر لي وقتها إلا
ديوان واحد من هيئة قصور الثقافة، وبعد أن
قرأ الديوان، هاتفني ليخبرني بموافقته على النشر. ولأني كنت أعرف أن كل دور النشر
تتأخر في النشر لسنوات، وتعطي وعوداً مكذوبة كثيرة، سألته متردداً عن موعد صدور
الديوان، فقال لي إنه سيصدر بعد ثلاثة شهور، مضيفاً: "تستطيع أن تأتي يوم 25
أغسطس لاستلامه"، وطبعاً ظننته وعداً كغيره من الوعود التي خبرتها من طول
عملي في الصحافة الثقافية. لكنني فوجئت به يهاتفني يوم 25 أغسطس ليسألني:
"لماذا لم تحضر لاستلام كتابك؟". هذه التجربة الصغيرة، وهي واحدة من
فضائل الدار، جعلتني حريصاً على نشر كل كتبي اللاحقة لديها، وأظنها تكررت مع
الكثيرين غيري من الكُتّاب.
إغلاق دار نشر، يشبه إغلاق مدرسة، يشبه فتح
سجن. والتغيير الثقافي والتنوير الذي أحدثته دار "شرقيات" بالكتب التي
أصدرتها حري بنا أن نتوقف ونسأل، هل سنسمح بالاستغناء عن هذه "العلامة
التجارية" المميزة، عن كل هذه الكتب التي أصدرتها أو الترجمات التي تمتلك
حقوق نشرها. ربما تعاني الدار من مشاكل في الترويج والتوزيع، لكنها تستحق من كل
كاتب أصدرت له كتاباً أو قرأ شيئاً منها غيّر أفكاره، أن يحول دون ذلك، وربما على
المؤسسات الثقافية الرسمية ـ إن كان يعنيها ذلك ـ أن تفكر أيضاً في أن جزءاً من
"ذاكرة الثقافة المصرية الحديثة"، وقوتها الناعمة يضيع، كما ضاعت أشياء
كثيرة من قبل.
ربما علينا أن ننقذ "شرقيات"، قبل
أن يغيب "نهار" آخر.
هناك 6 تعليقات:
اقترح علينا ايه اللي ممكن نعمله... إزاي ترجع شرقيات لتفردها؟ هل ممكن نحفز نفسنا واصحابنا عشان ينشرو فيها، بس ده مش كفاية.. الدار محتاجة جهد عشان ترجع لسابق عهدها في التوزيع والتواجد .. عموما أنا معك في أي مقترح ..وأنا أول المتطوعين
أعتقد يا أستاذ محمد الحل الأول إننا نقنع الأستاذ حسني سليمان إنه ما يقفلش، ع الأقل بإننا نروح نتكلم معاه ـ على حدة أو جماعات ـ ونقنعه بأهمية الاستمرار ، ربما ساعتها ممكن يحس بأهمية إنه يفضل يكمل، بعد كده ممكن تكون فيه خطوات تاني، زي إن حد يساعده في التوزيع، إن الدار تفضل فاتحة ليل ونهار، لإنه بيقفل الساعة أربعة. إن حد يساعده في إدارة الدار. فيه حلول كتير. لكن البداية بإننا نتكلم معاه إنه يكمل وإنه يقتنع بأهمية ده.
أحزننى الخبر اغلاق دار نشر فى وقت نحن بحاجة الى العشرات لنشر الثقافة اشبه باعلاق باب الامل فى وجه الاجيال الجديدة لتتعلم خارج مناهج الوزارة العقيم ..
اعتقد ان فى ظل امية متضخمة فى وطن اخترع الكتابة وشعب يقرأ سورة اقرأ يوميا دون ان يفهم قيمة العلم ويقدره ، تحتاج دور النشر الى دورا اكبر .. لمحو امية هؤلاء المتعطشين للعلم ومحرومين منه فى كل ربوع مصر ..
نحن بحاجة الى ثورة حقيقية فى نشر الثقافة ..
لا ادرى كيف يترجل هذا الفارس مبكرا هكذا وكيف يتخلى على حلمه مهما كانت المعوقات ..
اخاف ان يكون اغلاق دار بهذا الحجم والوعى بداية لانفراط عقد التنوير ..
لا اعرف حقا الوسيلة المثلى لمساعدة هذا الرجل لكن من الؤكد ان هناك وسيلة ...
تحياتى ..
ابحث عن الصديق الاستاذ حسني سليمان فقد تكرم بنشر ثلاث دواوين شعرية بداره العامرة والان انا اكثر الناس حزناً لسماع هذا الخير المحزن. هل هنالك من يدلني على رقم هاتفه
إرسال تعليق