أصبح من المعتاد
كل عام، في معرض القاهرة الدولي للكتاب، أن نسمع عن ظاهرة جديدة. مرة عن كتب
"غريبة" تتصدر قوائم الأكثر مبيعاً، ومرة عن طوابير ممتدة للحصول على
توقيع مغن أصدر كتاباً قال إنه شعر، ومرة ـ كما حدث هذا العام ـ يتداول رواد مواقع
التواصل الاجتماعي، مقاطع من كتاب ـ قال صاحبه إنه شعر أيضاً ـ واستغل البعض هذا
لوصم الشعر المصري، والثقافة كلها بأنها في طريقها للانحدار، إن لم تكن قد انحدرت
بالفعل.
ولسنا هنا في موضع
تقييم هذا الكتاب، أو غيره، وإن كانت الضجة الغريبة التي أثيرت حوله، ساهمت في
الترويج له، لكني أود أن أطرح سؤالاً: هل يمكن للظواهر ـ الغريبة ـ التي تشهدها
الساحة الثقافية، أن تكون مقياساً للحكم عليها؟، ربما يمكن الإجابة على هذا بكم
الظواهر، التي لمعت واختفت طوال السنوات الماضية، والتي اندرج بعضها تحت ما يسمى بالـ
"بوب آرت"، أو "الأدب الشعبي"، أو "الأكثر مبيعاً"،
أو تلك التي ظهرت في مواسم سياسية، مثل مئات الكتب التي ظهرت بعد ثورة 25 يناير، تحت
تصنيفات الأدب أو المذكرات أو السياسة، أو تلك التي ظهرت بعد هوجة صعود المدونين،
وتحولهم من التدوين إلى النشر الورقي، وتحويل مدوناتهم إلى كتب.
قبل حوالي عشرين
عاماً ـ تقريباً ـ شهدت شوارع القاهرة ظاهرة "أديب الشباب"، وهي ظاهرة يذكرها أي شخص مر في شوارع العاصمة
تقريباً، حيث امتلأت الجدران بكتابات وإعلانات ـ على غرار دعاية معلمي الدروس
الخصوصية ـ تدعو إلى قراءة مؤلفات شخص اسمه محمود عبد الرازق عفيفي، ومنح نفسه لقب
"أديب الشباب"، وحملت كتبه التي كانت تباع على الأرصفة عناوين مثيرة
تجتذب المراهقين في الأساس.
اختفى "أديب
الشباب"، ولم يعد أحد يذكر عنه شيئاً ولا عما كتبه، ولا عن اللقب الذي منحه
لنفسه، لكن لم تختف "السلالة"، التي تخط "نوعية الكتابة"
نفسها، أو التي تستعمل الدعاية ذاتها، لكن بدلاً من أن نشاهد الإعلانات على جدران
الشوارع، أصبحنا نراها على "جدران" فيس بوك، وتويتر، هي دعاية حقيقة وكبيرة،
حتى لو اكتست بطابع الاستنكار أو السخرية أو الاستهزاء.
هذه
"السلالة" ستستمر، طالما ظل هناك كُتّاب يستسهلون النشر السريع، ويبحثون
عن الشهرة، ويكتبون لـ"الوجاهة الاجتماعية" ويصدقون الدعاية المضللة
التي يصنعونها بأنفسهم، وطالما ظل هناك ناشرون ينشرون أي شيء، لكن المهم أن يقبضوا
المقابل أو يروجود لكتب لجذب جمهور مغرر به، وطالما ظل هناك قراء يفضلون الكتب
السريعة، التي يمكن أن يقرءونها وهم ممددون على حمامات السباحة، أو أمام البحر، أو
ظل هناك مراهقون يبحثون عن كتب خفيفة، ينقلون منها "سطوراً" لمحبوباتهم،
لكن كل هذه ظواهر ما تلبث أن تختفي، نعم سيظهر غيرها، لكن يعرف كل دارس لتاريخ لأدب
أن مصيرها النسيان.
هذه ظاهرة عالمية،
وموجودة على مر التاريخ، ويمكن الرجوع ببساطة إلى إصدارات القرن الماضي في دار
الكتب، أو الذهاب على الأقل إلى سور الأزبكية، وتصفح عشرات الكتب المشابهة التي لم
تعد تجد قارئاً، لأنه تشبه الفقاقيع، التي ما تلبث أن تنفجر لتختفي.
لم يعبر
"أديب الشباب" عن عصره، كما لا تعبر الكتب التي يتداول البعض أسماءها
اليوم عن العصر الحالي، فالحقيقة هي أن هناك حركة شعرية جادة بدأت في السنوات
الأخيرة، وهناك أسماء شابة بارزة في قصيدة النثر والرواية تشكل مشهداً سيتبلور في
صورته الكاملة خلال سنوات قلائل.
لا أعتقد أن
"الاحتفاء" أو "السخرية" من بعض "الكتابات" التي
تظهر كل عام في معرض الكتاب، سيعطي أي قيمة مضافة لهذه الكتابات، ربما يمنحها فقط
بعض الترويج، لكنها ستلحق مثيلاتها في طي النسيان، ولن يتبقى إلا الأدب الحقيقي،
وهو موجود بالفعل، فقط، سلّطوا الضوء عليه.
*نشر في "المصري اليوم"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق