رغم أنني أكتب قصيدة النثر الفصحى، فإنه عندما يسألني أحدٌ عن أقرب الشعراء إليَّ، يكون اسم الشاعر الكبير الراحل فؤاد حداد دائمًا في المقدمة.
فؤاد حداد الذي تحلُّ ذكرى ميلاده هذه الأيام، أطلق على نفسه: «والد الشعراء»،
وقد كان كذلك بالفعل، لجيله الذي عاصَرَه، وللجيل الذي اقترب منه ونهل من شاعريته وكتَبَ
على طريقته، أو للأجيال التي تلَتْهُ وما زالت تقرؤه، وتقف طويلًا أمام شاعريته المذهلة:
أنا الأديب وابو الأُدَبا
اسمي بإذن الله خالد
وشعري مفرود الرقبَهْ
زي الألف
ورقم واحد
والساعة ٦ في العتبَهْ.
يتجاوز فؤاد حداد فكرة «شاعر العامية»؛ فقد كان شاعر عاميَّةٍ أقرب للفصحى،
وشاعر فصحى أقرب للعامية، وشاعر قصيدةٍ عموديةٍ أقرب للتفعيلة، وشاعر تفعيلةٍ أقرب
للنثر. جمَعَ كلَّ ما يُمكن جَمْعُه في قصيدته التي لا تفارقها الدهشة في بيتٍ واحدٍ
منها:
أنا عندي يا ولاد الحلال حدوته
أنا والدي هو اللي عاشها
ولا حد قبلي نقشها
في حجر ولا مخطُوطْ
كان والدي بالطبع زيي
أراجوز ولكن حزايني
وانا كنت واد قطقُوطْ
الخالق الناطق دماغي دماغه
الخالق الناطق كما الشمُّوطْ
كان صوته، الله يرحمه، صُفَّارَهْ
وجسمه رايح جاي زي الفارَهْ
وعظمه يا نجارين بيلق في الزعبُوطْ.
كانت شاعرية فؤاد حداد المتدفِّقَة تدفعه لأن يكتب «النص الديوان»؛ أي
إن الديوان وحدة واحدة، وليس قصائد متفرِّقة تَمَّ تجميعُها، وهو ما نلاحظه في أسماء
الدواوين وفي موضوعها، وربما لهذا لا يمكن اقتناص فؤاد حداد في قصيدة واحدة، أو في
ديوان واحد. لا يمكن اختزاله في أغنية يُردِّدها الجميع ويُحِبُّونها دون أن يعرفوا
مَنْ كَتَبَها. حتى الشعراء الكُثر الذين حاولوا تقليده، حبًّا في شخصه أو غرامًا في
تجرِبته، يدركون صعوبة ذلك. لا بدَّ من قراءته كاملًا لتكتشف وجوهه المتعددة: الشيوعي
الذي يكتب للثورة رغم أنه قَبَعَ في سجونها طويلًا، وابن الطبقة المتوسطة الذي درس
في الليسيه لكنه كتب عن الفقراء وانحاز لقضاياهم أكثر من أيِّ شاعر آخر، والشامي الذي
عَرَفَ دقائق اللهجة المصرية وزادها جمالًا بقصائده، والمسيحي الذي كتب أجمل ما يُغَنِّيه
المسلمون كل رمضان «المسحراتي» وأصبح جزءًا من الذاكرة الجَمعية العربية، والمسلم الذي
كتب أجمل قصائد المديح والتصوف في ديوانه «الحضرة الذكية»:
أنا طالب القُرب من وحوي فى إياحَهْ
قَمَرَه … على خدها زغاريد وتفاحَهْ
قالوا لي تكبر عليك أنا قلت بالراحَهْ
دي أبوها سلطان لكن البنت فلَّاحَهْ.
تبدو اللغة في يد فؤاد حداد ليِّنة طرية، مثل عجينة الصلصال التي يُشكِّلها
كما يريد، فيُفاجَأ القارئ به وهو ينحت كلماتٍ جديدةً، ويدخل من الفصحى ليخرج من العامية
في مرونة شديدة، ويستفيد من كلِّ الموروث العربي البلاغي من محسِّنات بديعية، من جناس
كامل وناقص وطباق وسجع وموازنة:
بكيت مسحت دموعي
بامسح دموعي بكيت.
يا حضرة الباشا فاكر يامَا سحَّرتَكْ
ودمعي تحت القمر بالليل مسح حارتَكْ
وقلت لك خلِّي قطفه لك وقطفه لي
وربنا يخلِّي أطفالك وأطفالي
وجمال هذا المقطع يبدو في الجناس الكامل بين «قطفه لك وقطفه لي» و«أطفالك
وأطفالي»، لدرجة أنه لا بدُّ أن تقرأها حتى تعرف الفارق بين البيتين؛ وهو الأمر الذي
يتكرر كثيرًا في قصائد حداد. لكن لا يتوقف الأمر عند فؤاد حداد على «التلاعب اللغوي»
الفَذ، بل في الصُّوَر المبتكرة الجديدة المدهشة طوال الوقت، والتي تجعل القارئ واقفًا
على أطراف أصابعه وهو يقرأ منتظرًا الصورة الجديدة المدهشة، والمفاجَأة الشعرية القادمة.
وربما تبدو قصيدته «الحلزونة» هي الأقرب والأشهر كمثال لهذا:
ولَّع سيجارهْ والَّا مش حتولَّعْ
راجع لي بعد المدرسهْ تدَّلَّعْ
دخانك اسودْ يبقى قلبك شايِلْ
لكن حسيب حضني في حضنك مايِلْ.
وأجمل ما في هذا المثال هو بساطته الشديدة، لكنها بساطة «السهل الممتنع»
كما قلت، خاصة في قوله: «دخانك اسود يبقى قلبك شايِلْ»؛ وهو ما يمكن ملاحظته في جميع
أبيات القصيدة:
ردِّيت كإني من بعيد مش سامعْ
يا لابسه من تحت الوَدَع تنُّورَهْ
معسِّلَهْ زي القمر في الشمسْ
يا ام الليالي الهاطلهْ المشمُورَهْ
يا ريتني أعمى أشربك باللَّمسْ
والَّا أشمك من بيار الأمسْ!
قالت حتِقْلب جدِّ يا مسكِينْ
قلت لها أستاهل حدود الموتْ
أنا الحرامي سارق السكِّينْ.
كانت قصائد فؤاد حداد الشيوعي المسيحي المسلم غارقة في الأيديولوجية، لكن
رغم ذلك لم تقلِّل من شاعريتها، بل يبدو أن تلك الأيديولوجية منحَتْها أَلَقًا متزايدًا؛
لدرجة أن أول دواوينه حمل اسم «أفرجوا عن السجناء السياسيين: أحرار وراء القضبان»،
وهو اسم يبدو أقرب لعُنوان منشور سياسي، وليس ديوان شعر. ويمكن ملاحظة ذلك في عناوين
دواوين أخرى له؛ مثل: «استشهاد جمال عبد الناصر»، و«حنبني السد»، و«بقوة العمال وقوة
الفلاحين»، و«قال التاريخ أنا شعري أسود: ديوان فيتنام»، و«كلمة مصر»، و«الحمل الفلسطيني».
حتى في البرنامج الإذاعي الذي كتَبَه وغنَّاه سيد مكاوي «من نور الخيال وصنع الأجيال
في تاريخ القاهرة»؛ الذي كتَبَه ردًّا على النكسة، وهي الأعمال التي كَسَرَ فيها القاعدة
التقليدية عن عَلاقة الشعر بالأيديولوجيا؛ ليؤسِّس قاعدةً جديدةً، تقول إن البقاء للأجمل،
والأجمل هو كلُّ ما كتَبَه عن مصر في ثورتها وهزيمتها ونصرها، وعن فلسطين ولبنان، وقصيدته
الشهيرة التي تحوَّلَتْ إلى أيقونة يُردِّدها كلُّ الباحثين عن التحرُّر والثائرين
ضد الطغيان:
ازرع كل الأرض مقاومَهْ
ترمي في كل الأرض جدُورْ
إن كان ضَلْمَهْ تمد النُّورْ
وإن كان سجن تهد السُّورْ
كُونِ البادئ كُونِ البادِئْ
كُل فروع الحق بنادِقْ
غير الدم محدش صادِقْ
من أيام الوطن اللاجِئْ
إلى يوم الوطن المنصُورْ.
معنى فؤاد حداد أكبر من تأثيره في جيله أو الأجيال التالية له، وفي كل
التيارات الشعرية، سواء من كتبوا الفصحى أو العامية، أو العمودي أو التفعيلة أو قصيدة
النثر، أكبر من كونه أول من كتب قصيدة العامية المصرية، وقصيدة النثر العامية، أكبر
من شعره العروبي والوطني والقومي والإنساني، بل في حكاية سمعتها أنه عندما كان الفنان
الراحل «علي الشريف» معتَقَلًا ذات مرة مع فؤاد حداد، وكان حراس السجن يجلدون حداد
أمامه، كان علي الشريف يصرخ فيهم: «إنتو بتضربوا مصر يا ولاد الكلب؟!» وأعتقد أن هذا
هو المعنى الحقيقي لفؤاد حداد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق