يجلس
الصحافي على المقهى أمام الكاتب، وبينهما فنجانَا قهوة وجهاز تسجيل، ثم يسأل: لمن تكتب؟
يصمت الكاتب قليلًا، يرفع عينيه إلى السماء، ثم يهبط بهما إلى مقدمة حذائه، ثم يجيب
في حكمة: أكتب لنفسي.
الإجابة
السابقة لا تَخُصُّ أحدًا بعينه، لكنها الإجابة التي تتناثر بتشكيلات لُغوية مختلفة
في حوارات عددٍ من الكُتَّاب، ربما أكون منهم. وكأنَّ من العار أن يكتب الواحد لقارئ،
كما أن الحديث عن هذه الإجابة ليس تكذيبًا لهؤلاء الكُتَّاب الذين يقولون ذلك بكل صدق،
وإنما استدعاءٌ لإشكاليات متعدِّدة، ربما تبدأ بالتصوُّر النظري للكتابة، ولا تنتهي
عند ظاهرة "البيست سيلر".
الإجابة
السابقة تطرح أيضًا القضية الأكثر إشكالية، وهي «الكتابة الشعبوية» التي تبحث عن قارئ،
والكاتب الذي يكتب لِفِئَة محدَّدة وينظر إلى الباقين من عَلٍ، رافضًا الهبوط إليهم
من بُرجه العالي. الجملة السابقة أيضًا لو فُسِّرت بحروفها وكلماتها فقط، لكانت حقًّا
يُراد به باطل؛ فليس كلُّ كاتب شعبوي جيدًا، وليس كل كاتب (يكتب لنفسه) يجلس في برج
عاجيٍّ، والكتابة لجمهور ليست تُهمةً، كما أن الكتابة لفئةٍ معينةٍ من القُرَّاء ليست
سُبَّةً أيضًا.
تيد
كوزر (وُلِدَ عام ١٩٣٩م) هو أحد أبرز الشعراء الأمريكيين المعاصرين، ينشر صُوَرَهُ
على أغلفة دواوِينِه وهو يرتدي زيَّ عامل أو مُزارِع، وقصائده تدورُ في هذا الإطار
أيضًا: نصوص من الواقع المَعِيش عن مشاهدات يومية من دون أن تقع في التسطيح والخفَّة،
وهو ما جعل النُّقَّاد يعتبرون شعره شعبيًّا، لا بالمعنى الجماهيريِّ، بل بالارتباط
بيوميَّات الناس العاديِّين من دون «التفلسُف» عليهم أو عرض عضلات لُغَوِيَّة أو تباهٍ
بصعوبة تُعجِز القارئ، كما يرى بعض من ترجم شعره.
والحقيقة
هو كذلك بالفعل؛ فتيد كوزر يعيش في مزرعته مع زوجته وكلبيه، ولا عَلاقة وثيقةَ له بعالَم
المثقَّفين وأصحاب القرار المؤثِّرين في ذائقة الناس. ومع ذلك استطاع أن يحوز شهرةً
حين عيَّنته مكتبة الكونجرس عام ٢٠٠٤م «شاعر أمريكا المتوَّج»، قبل أن يثبت موقعه على
الساحة الأدبيَّة بنَيلِه جائزة «بوليتزر» عام ٢٠٠٥م.
ما
الذي يعنيه هذا؟ يعني أن القارئ الذي يتوجه إليه «شاعر أمريكا المتوَّج» تيد كوزر،
موجود بالفعل في مخيِّلة الكاتب، وأن إقراره بذلك — بأنه شاعرٌ شعبويٌّ — لم يقلل من
شاعريته أيضًا، بل إنه في قصيدته «إلى قارئة» يعترف بأنه يكتب والقارئ الفقير — الذي
يُفَضِّلُ شراء الخبز على شراء كتاب — في باله.
الأصل
في الأشياء أن ثَمَّةَ عَلاقَةً أزلية بين المبدع والمتلقي؛ ولهذا كان شعراء المعلقات
في العصر الجاهلي يعلِّقون قصائدهم على الكعبة — ولهذا سُمِّيت المعلقات — حتى يقرأها
الناس. الأمر في جزء منه هو بحث عن القارئ بقواعد ذلِك الزمن، وافتخار ﺑ «البيست سيلر»
بقواعد ذلك الزمن أيضًا.
كان
سوق عكاظ يُقال فيه الشعر: الرديء والحسن منه، وعلى المستمع/القارئ/المتلقي أن يحكم،
وكان الشاعر هو المتحدِّث الإعلامي باسم القبيلة، يفتخر بها وبأنسابها وببطولتها، ويُغِيرُ
على الأعداء «شعرًا». إذن بدأ الشعر/الأدب شعبويًّا ينطلق من فَمِ الشاعر إلى أفواه
وآذان المتلقين. بالتأكيد تَطَوَّرَ التلقي فيما بعدُ كما تَطَوَّرَ الشعر، ولم يَعُدْ
هناك خليفة يمنح الشاعر صُرَّة من الدنانير كي يزيد من مدحه. تغيَّرت أغراض الشعر والإبداع
عمومًا، لكنه لم يَفقِد عَلاقَتَه بالمتلقي الذي يسعى إليه، فحتى أكثر الكُتَّابِ نخبوية
يسعى إلى طباعة كتبه وتوزيعها بيده إذا لَزِمَ الأمر، وصارت هناك فنون تعتمد في وجودها
على وجود جمهور بالأساس، كالمسرح والسينما، وحتى الراوي الذي كان يدور في المقاهي القديمة
ليحكي السِّيَرَ الشعبية.
إذن
الإشكالية هنا ليست في المتلقي بقدر ما هي في أدوات السوق وأذواقِه التي صارت أكثر
رداءة وسعيًا للربح السريع على حساب الجَوْدة، والتي أثَّرَت في أذواق بعض المتلَقِّين
فجعلتهم لا يميزون الغَثَّ من السمين، والجَيِّدَ من الرديء، وصار هذا البعض يفضِّل
كتب الإثارة على الروايات التي تقدم إبداعًا حقيقيًّا، ولهذا أسبابٌ كثيرة تتعلق بمُعْطَيَات
العصر وغياب الدور التثقيفي للدولة، وانهيار التعليم، وعشرات الأسباب التي تحتاج إلى
مقالات كثيرة لمناقشتها.
تحكي
الشاعرة المصرية إيمان مرسال أنها كانت طَوال الوقت تعتقد أنها تكتب لنفسها فقط، حتى
جاء يوم كانت تبحث فيه عن مجموعةِ قصائدَ لها غير منشورة — على «فلاش ميموري» — ولم
تجدها، ولحظتها أدركت مرسال الحقيقة، فلو كانت فعلًا غير مهتمَّة بما تكتبه أو غير
مهتمة بإيصاله إلى قارئٍ ما، وأنها تكتب لنفسها فقط، أو لإفراغ الشحنة الشعورية؛ لما
كانت ستهتم أبدًا بضياع قصائد قديمة.
لكن
رغم ذلك يجب علينا ألَّا نخلط الأوراق فيما يخص القارئ، فإذا سلَّمنا بضرورة وجود المتلقي
في المعادلة، ففي هذه الحالة علينا أن ندرك ما الذي سنقدمه له، وهنا الفارق الحقيقي
بين الكاتب النخبوي المبتعد في عليائه، وبين الكاتب النخبوي الذي يسعى إلى تغيير ذائقة
القارئ، وفَتْح مجالٍ جديدٍ للتَّلَقِّي، وسحب القارئ معه إلى فضاء أرحب وأوسع، وهذا
هو ما يقصده فلاديمير نابوكوف بقوله: "إن كان القارئ — على أيَّة حال — يخلو من
العاطفة والصبر؛ صبر العالِم وشغف الفنان، فمن الصعب عليه أن يستمتع بقراءة الأدب العظيم".
يقول
ساراماغو في حوار معه نشرته «باريس ريفيو» إن «المواضيع المفرطة بالجدية بطبيعتها لا
تجذب القارئ، وإنه لأمر محيِّر أنني أحظى بمراجعات ممتازة من الولايات المتحدة.» إذن
ربما يستسيغ البعض الكتابة السهلة التي يمكن ببساطةٍ بيعُها، لكن الأصعب بالفعل هو
أن تُجْبِرَ القارئ على شراء كتاب لم يتعوَّدْ على قراءته.
هذا
المقال ليس دفاعًا عن ظاهرة البيست سيلر، فكثير من الكتب التي تُوضَع تحت هذا التصنيف
رديئة وتقع في الاستسهال، وبعضها يصبح هكذا لأنه يتم التسويق جيدًا لها، لكن هذا ليس
مبرِّرًا لاستباق نجاح أيِّ عمل ناجح باتهامه بالسقوط في الشعبوية؛ فالشعبوية ليست
عدوَّ الجودة، كما أن الجودة ليست نقيض الانتشار، وفي ظني أن ثالوثًا مقدَّسًا يدير
أيَّة عملية إبداعية بأكملها: «العمل الفني، والمبدع، والمتلقي» كلُّ واحد منهم يقوم
بدورٍ تحفيزيٍّ للآخر؛ لا نستطيع أن نُسقط أحد هذه الأضلاع الثلاثة من المعادلة ونقول
إنها كاملة. الكاتب يحتاج إلى أن يرى عمله في كتاب/فيلم/أغنية/رقصة/موسيقى؛ لكي يستطيع
أن يُقَدِّم عملًا آخر، بل إن وجود القارئ هو أحد أسباب استمرار وتطوُّر العملية الإبداعية؛
إذ يقوم بعمل المحفِّز والمقوِّم طَوال الوقت، فبدون نصوص سابقة، لم يَكُنْ من الممكن
أن نرى نصوصًا أكثر تطوُّرًا، لتستمر تروس الآلة الإبداعية في الدوران والتجديد.
عزيزي
الكاتب … كلنا قُرَّاء.
هناك تعليق واحد:
جميل.. شكرا على هذا الاثراء
إرسال تعليق