في
فيلم «زهرة القاهرة القرمزية» للمخرج الأمريكي «وودي آلان»، يَخرُج بطل الفيلم من
شاشة السينما إلى صالة العرض؛ ليقابل إحدى المُشَاهِدَاتِ الدائمات له، رافضًا
العودة مرة أخرى إلى الفيلم الذي عجز باقي أبطاله عن إكماله؛ بسبب غياب أحد
الأدوار الرئيسية فيه.
يبدو
هذا الفيلم الأكثرَ تعبيرًا عن عَلاقة السينما بالناس، والعكس، وما يمكن أن
تُغيِّره السينما في حياتهم وتضيفه من جماليات إلى الواقع الصعب، وهو ما نجده في
أفلام كثيرة مثل فيلم «قط أبيض، قطة سوداء» للمخرج اليوغوسلافي «أميركوستاريتشا»،
عندما جعل سقف المنزل في النهاية يطير بمن عليه. وهو ما قدَّمتْه من قبلُ «ألف
ليلة وليلة» كحلول خيالية لواقع الفقراء.
هذا
المزيج من التداخُل بين عالَمَي السينما والواقع الذي قدَّمه وودي آلان في فيلمه
الجميل، من الممكن أن يدُلَّنَا على سؤال مُهِمٍّ عمَّا أخذته السينما من الواقع،
وما أخذه الواقع من السينما، وكيف استفاد كلٌّ منهما من الآخر.
من
يتابع جميع أفلام الكوارث، وأفلام «أيام القيامة» والخيال العلمي الأمريكية، خلال
العقد الأخير — على غرار «٢٠١٢»، و«ستار تريك»، و«إكس مِن»، وجميع أفلام شركة
«مارفل» — فسيجد أن مشهد انهيار المباني يشبه بالضبط مشهد انهيار برجَيْ مركز
التجارة العالمي في ١١ سبتمبر ٢٠١١، وهو المشهد الذي بدا لنا وقتها بالفعل كأنه
جزء من فيلم هوليوودي يُذاع على الهواء مباشرة.
سبقت
مشاهد «١١ سبتمبر» كل ما قدمته السينما الأمريكية من عنف ورعب ومشاهد للتدمير؛
المبنى الذي سقط في مكانه في مشهد أسطوري، الناس وَهُمْ يطيرون في الهواء،
الموظفون وهم يهرولون في الشارع. لم يكن المُشَاهِدُ الأمريكي — الذي هَيَّأَتْ له
هوليوود لسنوات طويلة أنه بانتظار حرب كونية وغُزَاةٍ من كوكب آخر (فيلم يوم
الاستقلال على سبيل المثال) — يعتقد أن الأمر سيكون أكثر رعبًا ممَّا صورته
هوليوود؛ فأدَّى ذلك إلى أن تحولت كل مشاهد الانهيارات والتدمير في الأفلام
الأمريكية منذ تلك اللحظة إلى صورة للمشهد الواقعي الذي رَأَوْهُ في ذلك اليوم،
ولم ينجُ من ذلك أحد، من مخرج كبير في حجم «جيمس كاميرون»، إلى فيلم رديء فنيًّا
مثل «جي آي جو» الذي قَدَّمَ مشهدًا لقصف «برج إيفل» يشبه إلى حَدٍّ كبيرٍ ذلك
المشهد.
إذا
كان هذا ما أخذته هوليوود من الواقع، فإنها حاولت أن تقدِّم للواقع أشياءَ أخرى،
مختلفة عن صورتها الحقيقية، سواء وضعها الداخلي أو بنيتها المجتمعية التي تناولتها
أفلام قليلة مثل «الجمال الأمريكي»، كما قدمت ما يمكن اعتبارُه غسيل سمعة لأجهزتها
الأمنية في أفلام كثيرة بعضها حصل على جائزة الأوسكار مثل فيلم «أرجو» الذي أخرجه
وقام ببطولته «بن أفليك»، وأعلنت فوزه «ميشيل أوباما» قرينة الرئيس الأمريكي
بنفسها، في دلالة سياسية لا تخفى على أحد، وهو الفيلم الذي يحكي قصة عملية
استخباراتية لتحرير رهائن أمريكيين عقِب قيام الثورة الإيرانية في عام ١٩٧٩،
وأيضًا «القبطان فيليبس» الذي ترشح للأوسكار وقام ببطولته «توم هانكس»، ويحكي قصة
تحرير سفينة وقعت في قبضة قراصنة صوماليين، وسبقه أيضًا فيلم «٣٠ دقيقة بعد منتصف
الليل» الذي أخرجته وأنتجته «كاثرين بيجلو»، والذي يروي كيف «اصطادت» المخابرات
الأمريكية «أسامة بن لادن» في مخبئه، وطبعًا يمكن أن نعود على أفلام أقدم مثل فيلم
«عدو الولاية» الذي قام ببطولته «ويل سميث»، ويتناول كيف يمكن للأجهزة الأمنية
الأمريكية أن تصل لمكان أي شخص على الأرض، وتحدده، وتحصل عليه، أو فيلم «المملكة»
الذي يحكي الدور الأمريكي في القضاء على القاعدة في السعودية.
هذه
الأفلام التي تقدم صورة شديدة الوضوح ﻟ «قوة» الأمريكي، يبدو وجه العملة الآخر لها
مشوَّشًا قليلًا، فلأنها تُقَدَّمُ باعتبارها تعتمد على وقائع حقيقية؛ فهي تعكس
إذن صورةً للقوة الأمريكية بشكلها الأعم، وهي القوة التي لم يلحظها
المتابع/المشاهد في كثير من الأحداث الواقعية مثل ذبح رهينتين على يد «داعش» في
العراق مثلًا، أو مقتل السفير الأمريكي في ليبيا، وغيرها.
يحضُرُني
هنا ما ذكره الروائي «مصطفى ذكري» في مقال له من أن «فرانز كافكا» كتب روايته
الشهيرة «أمريكا» دون أن يزورها ولو لمرة واحدة؛ لأنه أدرك أن أمريكا لا داخل لها،
وأنه يكفي رؤية بعض الكروت السياحية لكتابة الرواية، وكأنه بهذا يسخر من الصورة
الأمريكية المصنوعة، ويؤكد أنه يمكن الكتابة عنها كصورة، كما تُفضِّل دائمًا أن
تُقَدِّمَ نفسها أو كما تمنح نفسها للواقع سينمائيًّا.
يقول
المخرج «كوينتن تارانتينو» في حوار معه: «كونك أمريكيًّا تصنع فيلمًا عن ماضي
أمريكا يمكن أن يكون قاسيًا». قال هذا بعد فيلمه الأخير «دجانجو طليقًا»؛ لأن «مِن
أكبر التحديات التي تواجهنا في صناعة هذه الأفلام هي حقيقة أنه لا يوجد الكثير من
هذه الأفلام». رغم اهتمام هوليوود بكشف كل ماضٍ للدول الأخرى، ولاهتمامها بالأساس
برسم صورة أشبه بقناع لها.
الأمر
يتجاوز آلاف الحروب التي تدور في الفضاء، والوحوش التي تغادر كهوفها، والعلماء
المجانين الذين يريدون السيطرة على الأرض، والروبوتات التي تمردت، والديناصورات
التي ستعود، والحروب التي ستدمر الأرض ومَن عليها ولن يبقى عليها إلا أمريكي أخير،
يتجاوز محاولة قولبة الخيال إلى قولبة الواقع، ورسم صورة خارجية تُجَافِي الداخل.
الأمر يعيدنا إلى سؤالنا الأول مرة أخرى، عن العلامات الفارقة بين ما تأخذه
السينما من الواقع والعكس، وهل يمكن أن يتم صنع دولة أو قارة بأكملها من الخيال؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق