12‏/01‏/2007

يسير العاشقون فرادى


حروف مكتوبة بأيد مرتعشة فوق أسوار كوبري قصر النيل ، عبارة " للذكرى الخالدة " ، قلب مرسوم بقلم أحمر فلوماستر يشقه سهم ، في كل جهة اسم ، وتحته بخط بناتي " أحمد ومنى .. إلى الأبد " ارتعاشة من الشتاء ، ودفء قلب لم تجرحه تدابير الحياة بعد ، باعة الورد والياسمين ، وأغنيات تنطلق بصوت طارق الشيخ من مركب يمر بالأسفل ، باعة لب وسوداني ومياه غازية، أولاد يشوون الذرة ، وبنات تبيع المناديل، وعشاق يمشون بخطى وئيدة على كورنيش النيل ، ينظرون إلى المباني العلية المقابلة ولا يعلقون .
رصيف الكورنيش غني عن التعريف يعرفه كل عاشقي النيل، بل كل من كوى صدره العشق، خاصة العشاق الذين لا يملكون ثمن الدخول إلى الأماكن المغلقة، الأماكن التي بها نادل يبتسم ابتسامة دبلوماسية وهو يمرر في آخر الجلسة ورقة بها مبلغ قد يفزع منه العاشق، وقد يفرق بينه وبين حبيبته. لذا فهو يحتمل ضجيج باعة اللب والفول السوداني وباعة الورد الذي يصرون «وردة للهانم يا بيه» وباعة الياسمين وباعة الكوكاكولا الساخنة.
رصيف الكورنيش أيضا لا يقتصر فقط على العاشقين به أيضا الأسر التي تخرج لتشم الهواء، أب وأم، وطفل رضيع، عندما يكبر فلا شك أن ن الأب حتما سينشغل في أن يجمع له ثمن الدروس الخصوصية وسينسي تماما فكرة الخروج والتمشية علي الكورنيش ربما فقط سيتذكر مع زوجته ذات ليلة «أيام زمان» وعندما كان الكورنيش هادئا، وقبل أن يقتل الزحام الرحمة في قلوب الناس ثم يتنهد قائلا «هيه.. دنيا».
رصيف الكورنيش به المهمشون الحقيقيون في مصر، الذين يبحثون عن موطئ قدم لهم في العاصمة، هنا باعة لا أماكن لهم يبيعون فيها بضاعتهم سوى هنا ولا توجد دكاكين لعرض بضاعتهم، باعة الذرة الشامة ومؤجرو المراكب وباعة الياسمين والفل والترمس
على أرصفة كورنيش النيل تولد يوميا عشرات قصص الحب ، وتموت المئات ، ربما لا يوجد عاشقان لم يمرا من هنا ، لم يسيرا فوق أرصفته ، لم يرمقا بائع الفل وهو ينادي " فل للآنسة يا أستاذ " ، لم تبدأ قصتهم من هنا ، وهنا أيضا تموت عشرات القصص بعد أن تجهضها طلبات الأهل ، والرقابة المجتمعية ، وعيون الناس .
العاشق ، الذي يعطي للشارع ظهره، أمام مبنى ماسبيرو، على الكورنيش ينقل نظره بين الفتاة التي تجلس بجواره، والنيل أمامه، يلجأ إلى كورنيش النيل هربا من أسعار الكافيتريات الملتهبة في وسط البلد ، فهنا يستطيع أيضا أن يتناول الشاي والكولا لكن بأسعار «مهاودة»، وإن كان الباعة يلحون بشكل مرعب ، ربما يكون أكثر ما يضايقه هو العيون المتطفلة والتي تنظر إليه وإلى التي معه بإلحاح وكأنهما يرتكبان إثما، لكنه سيتعود على ذلك حين يدرك أن مصر كلها تأتي إلى أرصفة الكورنيش «عشان تحب».
العين المتفحصة لأرصفة كورنيش النيل تجد العشاق يسيرون معا، قلة من الشباب من كانوا يقفون وحدهم، يتطلعون إلى النيل، إلى برج القاهرة من الناحية الأخرى، وفندق الماريوت ومبنى الاوبرا ثم ينقلون عيونهم إلى مياه النيل، قلة من يأتون لكي يروا النيل ويستمتعون بجماله ، هناك أيضا فئة من الذين يأتون للبكاء على الأطلال إن صح التعبير ،من يأتون لكي يقفوا ويتذكروا حكاية قديمة مرت بهم من هنا ، لكنها تركت في القلب جرحا غائرا . الذين يأتون فرادى لكي يبكوا على الأطلال كشف لي عنهم، مطاوع، العامل في أحد المراكب الموجودة على النيل لتقل من يريد أن يتنزه في النيل من العشاق، او الزائرين القادمين من أماكن بعيدة، وأحيانا بعض السياح الاجانب مقابل جنيهين للدورة الواحدة، مطاوع قال لي: نحن لا نتعامل إلا مع مثل هؤلاء، وهناك وجوه مألوفة بالنسبة لنا، منهم من يأتي لوحده، وفي المرة الثانية يأتي مع أحد آخر، مطاوع لا يؤمن بالحب الذي يولد على كورنيش النيل، ويرى أنه ينتهي بمجرد أن تمر أي عاصفة أمامه. يعرف مطاوع أيضا العاشق الحقيقي من هيئته، ولكن قصصهم معظمها تنتهي بالفشل، بعد أن يكتشفوا أن الحياة أعقد من «مجرد كلمة حلوة على الكورنيش، معظم هؤلاء طلبة جامعة، وبمجرد أن يتخرج الواحد منهم، ويكف عن أخذ المصروف من أبويه تجده توقف عن المجيء إلى هنا ويبدأ في البحث عن وظيفة لن يجدها، لتنتهي قصة الحب التي لم تكتمل».
ما قاله مطاوع رغم أنه قاس قليلا، إلا أنه واقعي تماما. هناء التي كانت تنتظر بجوار أسد كوبري قصر النيل، وتنظر في الساعة بين حين وآخر، ورفضت الحديث معي، إلا بعد أن أتى شخص آخر، قالت لي إنه زميلها في الجامعة، وأنهما اتفقا على الزواج بعد انتهائهما من الدراسة، من معها قال إنه يعمل فترة بعد الدراسة، ولا يأخذ راحة إلا يوم الجمعة، وهو اليوم الذي يخرج فيه معها، وأضاف أيضا أن أسرته وأسرتها لا يعلمون أنهما يلتقيان هنا «وسط البلد كبيرة ما حدش عارف حد فيها ، وكل واحد هنا مشغول في اللي معاه ، كمان إحنا من حتة بعيدة ما حدش فيها بييجي هنا».
العاشقان الفقيران اللذان هربا من الرقابة المجتمعية، ومن البطالة للكورنيش ، قد تنتهي قصتهما على خير إذا حدثت معجزة، كأن يجدا عفريت مصباح علاء الدين الذي سوف يحضر لهما المهر والشبكة والشقة والعمل الذي سوف يكفي لإعالتهما. ، و إلا فإنه على هذا الرصيف سوف تنتحر قصتهما ، كما انتحرت أحلام كثيرة من قبل . باعة الفل والبطاطا واللب والكولا على رصيف كورنيش النيل يحفظون قصصا كثيرة ماتت مبكرا، لكن العشاق يكرهونهم لإلحاحهم، أحد باعة عقود الفل قال لي نحن نعلم أن الولد سيصاب بالإحراج من إلحاحنا وسيشتري فلا للبنت التي معه وإلا اتهمته بالبخل، وأضاف: نحن أيضا ليس لنا مورد رزق إلا هذا ولا توجد طريقة لكسب العيش إلا بهذه الطريقة. كورنيش النيل الذي يبدو جميلا مرحا، يخفي الكثير من الأحزان خلفه، ويضم أيضا إلى جوار العشاق من كانوا عشاقا وتزوجوا فيما بعد.
الأولاد الذين يلبسون بنطلونات جينز، ويمسكون في أيديهم علب سجائر من النوع الرخيص، و يغرقون شعرهم بالجل ، والبنات اللائي يرتدين حجابا صغيرا، أسفله بودي ذا لون فاقع لا يسر الناظرين ، وبنطلون استرتش يلمع من كثرة الكي حتى يبدو جديدا ، ويخفين وجوههن بالنظر إلى كورنيش النيل، يحملون حتما قلوبا تدق، أو ربما تجرب الخفقان لأول مرة، لكن أمامهم يقف عائق الرقابة المجتمعية، والبطالة التي جعلتهم يأتون إلى هذا المكان لأنه الأرخص ، باعة الورد يبيعون لهم حتما مع ورودهم شوك الفراق الذي سوف يأتي يوما ما، حينما تصدمهم حقيقة الواقع ، حقيقة الرصيف ، وعندها ، عندها سيسر العاشقون فرادى .

ليست هناك تعليقات: