12‏/01‏/2007

رصيف نمرة 11

أبناء الجنوب فقط يعرفون هذا الرصيف ، فحين قدومهم إلى القاهرة للدراسة أو العمل ، أو لتأدية خدمتهم العسكرية لابد أنهم مروا عليه ، وقفوا عليه طويلا ، ولا بد أنهم في عودتهم انتظروا عليه ، مارسوا الحزن والتأمل ، قبلوا أصدقاءهم ، وودعوهم ، اشتروا جرائد ومجلات قديمة من باعتها المنتشرين على طوب الرصيف ، اشتروا شريطا جديدا لياسين التهامي أو للعربي البلبيسي ، سمعوه ذات مرة عند أحد معارفهم ، يمدح فيه النبي وآل البيت ، من بائع هناك .
رصيف رقم 11 هو أكثر أرصفة باب الحديد تميزا بحزنه ، أكثرها شهرة بحكاياته المأساوية ، عليه تمر قطارات قادمة من الصعيد ، أو ذاهبة إليه ، تحمل عبق تلكم البلاد البعيدة الجميلة ، تستطيع أن تلمحه من أي مكان ، منه انطلق القطار الذي احترق منذ سنوات ، وعليه تتعلق آلاف الأحلام للقادمين ، الباحثين عن الحلم والمال والعلم ، عليه تصافح عيونهم لأول مرة القاهرة ،عليه يكتشفونها فيفزعون .
على القرب منه توجد أرصفة أخرى كثيرة ، بعضها أرستقراطي ، تمر عليه قطارات مكيفة ، وقطارات للنوم ،وبعضها عادي يحمل الطلاب في الجامعات إلى المحافظات القريبة،وحكاياتهم وقصص حبهم معه و .لكن رصيف 11 يحمل فوقه مغزى الحياة ، وصناعها ، عليه دموع سكبت في وداع حبيب أو صديق أو لقريب ، عليه عادت أحلام فشلت في إيجاد مكان لها ، عليه تفاصيل الحياة ، باعة ، وشحاذين وحمالين ، ونساء ورجال وطلبة وحب وكراهية .
رصيف رقم 11 هو رصيف باب الحديد ، محطة مصر، تعرفه من الوجوه السمراء المتعبة المجهدة الواقفة فوقه المنتظرة قطارا درجة ثالثة أرخص جنيهين ، كي توفرهما للأولاد .
أرصفة باب الحديد عامة هي أشهر أرصفة القاهرة، يعرفها كل من جاء مسافرا من محافظات القاهرة إليها، لم يأت إليها احد إلا ومر من خلالها، ووقف عليها، وانتظر قطارا، وودع أحبة، ذرف دموعا عليهم، ولوح لهم بمنديله، وقد يغني لهم «يا مسافر وحدك، وفايتني» ، عليها انهارت أحلام، وجاءت أحلام، وسقطت أخرى تحت عجلات قطاراتها الكثيرة
أرصفة باب الحديد حياة متكاملة صور جزءا منها المخرج يوسف شاهين في فيلمه الذي حمل نفس الاسم ولعب بطولته مع هند رستم. به كل وجوه مصر، صعيدها وريفها، ودلتاها وبحرها وشمسها وحدودها. لو ذهبت إليها ستجد وجوها جاءت من كل شبر.. به تلخيص للحياة الاجتماعية.. وحتى هذا الرصيف يقسمهم طبقات حسب القطارات، فركاب قطارات النوم يختلف تمام الاختلاف عن ركاب قطارات الدرجة الثالثة و«السبنسة»والاشتراك.
مرتادو رصيف رقم 11 غرباء ، يحملون بلادهم داخلهم ، حين تقتلهم المدينة سيقرءون شعرا عن هذا الرصيف ":
" أيها الغرباء
سأمهلكم قليلا
كي تستنشقوا أغاني قادمة
من الصحراوات البعيدة
كي تشموا عرق القطارات
كي تعانقوا الحقائب الراحلة
تحملونها بقبلاتكم
وبأحلام ميتة
للصغار " .

ليست هناك تعليقات: