24‏/01‏/2011

كل الذين أحبهم ماتوا


حين ماتت جدتي فقط شعرت أنني يتيم ، شعرت أن كل الذين أحبهم ماتوا ، رحلت أمي وأنا دون الخامسة ، ورحلت جدتي لأبي بعدها بعامين ، ورحل جدي الذي رباني بعدهما بأعوام قليلة ، في رحلة الحياة مات كثير ممن أحبهم ، من الأصدقاء والأهل ، واستمرت الحياة ، لكن حين ماتت جدتي فقط شعرت أنني يتيم ، شعرت بالعجز ، شعرت بالوحدة ، شعرت بكم هي سيئة هذه الحياة التي تتركنا وحيدين في صحراء جرداء بدون أحد معنا يدلنا على الطريق .
أسوأ إحساس في الحياة هو الفقد ، وأسوأ ما في الفقد حين تكون ضعيفا و لا تجد من تستند عليه في أزماتك التي لا تنتهي ، أنك لن تجد الدعم الذي تحتاجه ممن يعطونك الدعم ، ليس مهما أن يكون دعما ماديا ، ربما هو دعم نفسي أكثر ، أنك لن تجد من كانوا معك في أشد لحظاتك ضعفا ، في كل هزائمك ، من ربتوا على كتفك ، وساعدوك على النهوض لتكمل مواجهة الحياة ، من أحبوك واحتملوك بكل أخطائك وإخفاقاتك وجنونك وتمردك مرارة الفقد في أن في لحظات ضعفك القادمة لن تجد من يساعدك على النهوض ، ولا من يربت على كتفك ، ولا من يقول لك " انت ولد جيد ستستطيع أن تكمل " ، ولا من تنجح حتى تسعده ويكون سعيدا لسعادتك ونجاحك ، أسوأ ما في الفقد هو ذلك الإحساس بالمرارة الذي ينتابك بمدى تقصيرك ، هو ذلك الإحساس بالعجز ، هو تلك الغصة الهائلة التي تقف في حلقك .
يأتي الخبر عبر الهاتف ، فأترك كل شيء وأهرول ، هل كانت محاولة يائسة لمنع الرحيل ، ثماني ساعات يقطعها الميكروباص في الطريق ، أسترجع فيها مشاهد ربما هي رحلة حياتي ، حياتها ، حياتنا المشتركة ، أدرك أنني دائما من كان يأخذ وأنها دائما التي كانت تعطي ، تعطي بلا انقطاع ، تعطي بلا حاجة للأخذ ، تعطي بلا رغبة في الرد ، وآخذ أمنا وسلامة ومحبة ولا أعطي شيئا ، تجارة خاسرة تدركها لكنها لا تتوقف عنها ، منذ كنت صغيرا ضعيفا لا أقوى على شيء وهي قوية كبيرة تقوى وتساعدني في كل شيء، وحتى صرت كبيرا قويا أقوى على فعل كل شيء ، وصارت ضعيفة كبيرة السن لا تقوى على فعل شيء ، لكنها تستمر في العطاء في كلتا الحالتين ، وأستمر في الأخذ .
هل كنت تحتاج إلى وقت طويل لتعرف أن الذين يحبونك قد رحلوا ، الذين يحبونك دون أي هدف ، الذين يحبونك لأنك أنت ليس أكثر ، لا يريدون منك شيئا ، يريدونك أن تصير أفضل ، أفضل منهم ، يأخذون من أنفسهم ويعطونك ، الذين أخذوا بيدك حين كنت لا تستطيع أن تفعل شيئا ، حين كنت لا تستطيع أن تمد يدك لالتقاط كوب الماء ، ثماني ساعات أدركت خلالها كم كانوا رحماء بك ، وكم كنت ولدا عاقا .
مر على الرحيل أكثر من شهر ونصف ، لم أستطع أن أكتب إلا الآن ، لا أستطيع أن أجد طعما لشيء ، لا أستطيع تخطي مرحلة النسيان ، ، لا أريد أن أخطو تجاه النسيان ، لا أريد أن أودع عمري الذي مضى في الذاكرة وأمضي .
مع رحيل جدتي ـ فقط ـ أدركت أن كل الذين أحبهم ماتوا .