09‏/09‏/2011

صلاح عبد الصبور يرتدي جبة الحلاج

محمد أبو زيد

كلمة السر في مسرحية "مأساة الحلاج" للشاعر صلاح عبد الصبور، هي "الكلمة"، التي لا يملك الحلاج سواها، لمواجهة الفقر والسلطان والقاضي والتماهي مع الذات الإلهية، الكلمة التي جمعت حوله أتباعه، وفرقت بينه وبين الحاكم، ووصفت العلاقة بينه وبين محبوبه الأسمى، الكلمة التي قتلته "أقتلناه حقا بالكلمات .. أحببنا كلماته/ أكثر مما أحببناه / فتركناه يموت لكي تبقى الكلمات".

الهاجس الذي يؤرق عبد الصبور في المسرحية هي الكلمة ، كلمة الصوفي / المثقف، فالجميع يتكلم عنها، الحلاج يقول "لا يعنيني أن يرعوا ودي/ يعنيني أن يرعوا كلماتي"، لأن الكلمات هي التي تبقى "قد خبت إذن لكن ما خابت كلماتي / فستأتي آذان تتأمل إذ تسمع / تنحدر منها كلماتي في القلب / وقلوب تصنع من ألفاظي قدره / وتشد بها عصب الأذرع"، إذن فرهان الحلاج الذي يقدمه عبد الصبور على الكلمات، لكن الذين قتلوا الحلاج، كما يقدمهم عبد الصبور "أصحاب طريق مثله"، يمتلكون كلمات مثله، رغم أن القتلة يقولون" كنا نلقاه بظهر السوق عطاشا فيروينا / من ماء الكلمات/ جوعي / في طاعمنا من أثمار الحكمة/ وينادمنا بكؤوس الشوق إلى العرس النوراني"، الكلمات أيضا كانت سببا في صلبه "أبكانا أنا فارقناه / وفرحنا حين ذكرنا أنا علقناه في كلماته / ورفعناه بها فوق الشجرة"

مأساة الحلاج تتكون من فصلين ، أو جزءين كما سماهما، الجزء الاول: "الكلمة" والثاني "الموت"، ولذلك دلالة واضحة، ففي مقاطع كثيرة من المسرحية يبدو أن صلاح عبد الصبور هو الذي يتكلم وليس الحلاج، حالة التماهي بين الشاعر والصوفي، تكف مأساة الاثنين في علاقتهما بالسلطة، فالحلاج الذي صلب لأنه فكر، في السلطة الإلهية، والسلطة الدنيوية، يقابله عبد الصبور، الذي كان جزءا من نظام الحكم في مصر ، لكنه كان يقف على شفا حفرة من السلطة و الكتابة، الكلمة هي مأساة الاثنين.

إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة أزلية، لكن عندما يكون الأمر يتعلق بمستقبل الوطن الذي يسير نحو الضياع فالأمر محسوم، كانت مصر تقترب من نكسة 1976، لم يكن أحد يعلم بها، لكن المؤشرات كانت تؤكد ذلك، خاصة أن المسرحية كتبت قبل النكسة، مأساة صلاح عبد الصبور مع السلطة، التي كان جزءا منها، وحاول أن يتطهر منها بمأساة الحلاج، فجعل الحلاج شاعرا مثله، وأنطقه "مثلى لا يحمل سيفاً / لا أخشى حمل السيف ولكنى / أخشى أن أمشى به / فالسيف إذا حملت مقبضه كفٌّ عمياء / أصبح موتاً أعمى"،

المثقف/ الحلاج / الصوفي، في المسرحية كان ينزل إلى الشارع، يمشي في الأسواق، خرج على إجماع المثقفين / الصوفيين بأن يختبئ في عباءته، في برجه العاجي، مكتفيا بالعلاقة بينه وبين مولاه، لكن الحلاج ينزل إلى الشارع ، يخاطب الناس بلغتهم، فيلتفون حوله، والتفاف الناس حول الصوفي / المثقف، في عين السلطة / السيف، هو بداية الخراب لهم، لأن به تأليب على الحاكم، وتذكير للفقراء بفقراء، وبجوعهم، وعطشهم، وألمهم، وأن هناك رب أعلى من الحاكم، يمكن اللجوء إليه، وأنه يمكن الخروج على الحاكم، وتغييره.

هل يمكن أن ينظر للحلاج كرجل دين يدعو للإصلاح الديني، أم كمثقف يدعو للتغيير، المكفر والشاعر الهندي محمد إقبال (1877-1938) الحلاج يصور في ملحمته "جاويدنامه"، أي "كتاب الخلود"، الحلاج، مفكرا مبدعا حاول بث الحياة في معاصريه الموتى روحياً وفكرياً، أي حاول منحهم إيماناً حياً جديداً، وتحريرهم من التقليد واجترار القواعد المتوارثة الخالية من كل روح، ويضع عبد الصبور رجل الدين جانبا، ويركز على المثقف، ويورد فى مسرحيته ، على لسان أحد الصوفية "هل أخذوه من أجل حديث الحب ؟ / لا ، بل من أجل حديث القحط / أخذوه من أجلكمو أنتم / من أجل الفقراء المرضى ، جزية جيش القحط"، وما يورده عبد الصبور في آخر مسرحيته، عن ظروف كتابتها، والمراجع التي عاد إليها، فضلا عن الموجود في متنها، يؤكد أنه اختار أن ينحاز للكلمة، فمأساة الحلاج في رأي عبد الصبور هي الكلمة، كيف تخرج، ولمن تصل، حتى المسجون الذي يلقاه في سجنه، ويتبعه، كانت مأساته الكلمة في صغره، لكنه لم يستطع أن يكمل طريقه إليها، حتى التقى الحلاج فعاد إليها مرة أخرى، الكلمة قد تكون رداء رجل الدين، لكنها سلاح المثقف الأول، الذي يهدي به الناس، ويواجه به سيف السلطان.

انعزالية الصوفي / المثقف، يرفضها الحلاج / عبد الصبور، مع خلع خرقة/ انعزالية الصوفي "تعني هذه الخرقة / إن كانت قيدا في أطرافي / يلقبني في بيتي جنب الجدران الصماء / حتى لا يسمع أحبائي كلماتي فأنا أجفوها .. أخلعها يا شيخ/ إن كانت شارة ذل ومهانة / رمزا يفضح أنا جمعنا فقر الروح إلى فقر المال / فأنا أجفوها .. أخلعها يا شيخ" إذن فمكان الصوفي/ المثقف كما يقدمه عبد الصبور ، ليس بين أوراقه، وبرجه العاجي فقط، بل مع التغيير في الشارع ، التغيير الذي يحسه الأعرج فيقول "أحس إذا سمعت حديثه الطيب/ بأني قادر أن أثني الساق/ أن أعدو / وأن ألعب / بلي / أحس بأنني طير طليق / في سماواته" ، في حين يشكك الأحدب في دور كلمات الصوفي / المثقف "نعم / إني أحب الشيخ / ولكن أسائل نفسي الحيري / تري هل يستطيع أن ينصب ظهري / بعدما احدب".

قصة الحلاج ظهرت في كل الثقافات، وليس لدى عبد الصبور وحده، كتعبير عن أزمة الضمير لدى المثقف، وظهر أيضا لدى أدونيس وعبد الوهاب البياتي في الثقافة العربية، وأصبحت سنة 309 هجرية من أعظم السنوات حسماً وتحوُّلاً فى تاريخ التصوف، وبالتحديد : يوم الثلاثاء 24 من ذى القعدة، أحيث ُخرج الحسين بن منصور الحلاَّج من سجنه، فجُلد، وقُطعت يداه ورجلاه ، وشُوِّه، وصُلب، وقُطعت رأسه ، وأُحرقت جثته، مصيرا لمن يخرج على سلطة الحاكم، الذي يستخدم سلطة الدين ، لكي يشغل العامة، وربما حري هنا أن نتذكر حادث محاولة اغتيال نجيب محفوظ، من شاب لم يقرأه لكنه سمع أنه يشتم الذات الإلهية، ونفس ما حدث مع المفكر فرج فودة، وقريب منه ما تكرر مع المفكر حسن حنفي، ونصر أبوزيد ، وطه حسين من قبل، بل وسقراط منذ قرون، فإشغال العامة بالدين، وإيهامهم بأن فردا يتجرأ على الدين، كفيل بأن تكسب السلطة، المؤمنة في هذه الحالة، مساحة لدى العامة، ويخسر الآخر، حتى لو كان يدعوهم إلى التفكير ليس أكثر "قالوا : صيحوا .. زنديقٌ كافر / صحنا : زنديقٌ .. كافر / قالوا : صيحوا ، فليُقتل أنَّا نحمل دمه فى رقبتنا / فليُقتل أنا نحمل دمه فى رقبتنا / قالوا : امضوا فمضينا / الأجهرُ صوتاً والأطول / يمضى فى الصَّفِّ الأول / ذو الصوت الخافت والمتوانى / يمضى فى الصَّفِّ الثانى" وهكذا تحرك السلطة الجموع.

والحلاج هو أبو المغيث الحسين بن منصور الملقَّب بالحلاج، ولد فى حدود سنة 244 هجرية بقريةٍ قريبةٍ من بلدة البيضاء الفارسية، وتوفى مقتولاً ببغداد سنة 309 هجرية،مصلوباُ بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر، وقد نشأ الحلاج بواسط ثم دخل بغداد وتردد إلى مكة واعتكف بالحرم فترة طويلة وأظهر للناس تجلدًا وتصبرًا على مكاره النفوس من الجوع والتعرض للشمس والبرد على عادة متصوفة الزرادشتين، وانتقل من مكان لآخر يدعو إلى الحق على طريقته، فكان له أتباع في الهند وخراسان، وفي سركسان وبغداد والبصرة، قبض عليه بتهمة ادعاء النبوة فأنكر ما نسب إليه فوضعوه في السجن فترة ثم صلبوه حيًا صلب تشهير، ثم أعيد للسجن ثم أطلق فلم يرتدع عن طريقه،وفي يوم الثلاثاء 24 من ذي القعدة سنة 309هـ تم تنفيذ حكم الخليفة فيه بإعدامه، على مرأى من الناس.

المسرحية تلقي ظلالا على دور النخبة، النخبة التي يعتبرها عبد الصبور في حوار معه لا بد أن تقود المجتمع "وتزرع فيه القيم الجديدة، وتعوده بسلوكها عادات متقدمة من السلوك والتصرف. وقد خضع مجتمعنا العربي لفترة طويلة لنخبة المفكرين الذين علموه احترام العدالة والحرية والتفكير العلمي. ففي الفترة التي عرفناها في صبانا كان الدكتور طه حسين والعقاد وسلامه موسى وهيكل وغيرهم هم نخبة المجتمع وقد نختلف مواقعهم السياسية داخل الأحزاب المختلفة، ولكنهم جميعا يكونون أفقا سياسيا واجتماعيا يتحدث عن الديمقراطية والتفكير المنظم ، وشرع طريقهما للمجتمع، وقد سقطت قيادة المثقفين في عصرنا الحديث ، وكان المظنون أن تقوم مقامها قيادة التكنوقراطيين. ولكن هذه القيادة الجديدة لا تقوم إلا في مجتمع صناعي متقدم. وهنا سقط مجتمعنا في فراغ ، حاولت العشائرية السياسية استغلاله وملأه ولكن ثمن ذلك كله كان ثمنا باهظا . ولست في مجال الزهو بالنفس ، ولكن أريد أن أقول إني رأيت ذلك كله قبل 5 يونيو 1967م ، ووضعت يدي على قلبي خوفا منه فلما وقعت الواقعة انفطر قلبي ، ولعل هذا هو سر حزني وكآبتي"، وهو الأمر الذي يفسره بعض الباحثين بأن الحلاج رأي أن التغيير يجب أن يكون عن طريق الصفوة، وهو الأمر الذي تم مع الصوفي / المثقف/ الحلاج.

كتب عبد الصبور مأساة الحلاج، عام في العام 1964، و نال عنها جائزة الدولة التشجيعية عام 1966 ، وهي ثاني أعماله في المسرح الشعري بعد "بعد أن يموت الملك"، والمسرح الشعري لدى صلاح عبد الصبور يحتاج إلى وقفة طويلة، فهو سياسي في المقام الأول، كما رصد بدايات قصيدة التفعيلة في مصر، وربما كانت المسرح الشعري السابقة عليه قليلة، وربما يكون أبرزها مسرح أحمد شوقي، الذي كان عموديا، مقفى، على عكس مسرح عبد الصبور الذي اعتمد التفعيلة في مسرحه، وإن لم يعتمد على تفعيلة واحدة، بل استخدم تفعيلة الرجز، والوافر، والمتقارب، والمتدارك، مع ما يجوز فيها من تحويرات، كما تغلب على حقيقة أن "الحلاج" شاعر بالأساس، فلم ينطقه بمقوله، بل حورها لينطق بما كتبه عبد الصبور، وأسقطه على عصره.

مأساة الحلاج هي مأساة كل عصر، فنحن نتكلم في النهاية عن واقعة حقيقية، وشخوص حقيقيين، حتى لو أسقطها صلاح عبد الصبور على نفسه، ورأي أنها مأسساته، وهي تتكرر طوال الوقت، مع المثقف الذي يقرر أن يقترب من العامة، ويحذرهم من السلطان، ويذكرهم بفقرهم، ويطالبهم بالتغيير، فالسلطان والنظام الحاكم، إما أن يعامله كخارج عليه، أو خارج على الله،هي إشكالية المثقف والسلطة التي لن تحل، لأن الضمير لا يقايض، والكلمة لاتباع، وربما لهذا السبب يكون قد لقي نفس مصير المسيح عليه السلام.

ــــــــــــــــــــــــ

* نشر في جريدة القاهرة

أبو زيد: الأيديولوجيا تتسرب ولا تطغى على النص


عناية جابر
محمد أبو زيد شاعر مصري متميّز، له خمس مجموعات شعرية ورواية تحت عنوان «أثر النبي» صدرت في العام 2010، وتحمل هموم دواوينه الشعرية والإنسانية ذاتها، كشاب مصري عربي عاجز سوى عن التفرج على انكسارات وخيبات في مجتمعنا الكبير. الكتابة عند أبو زيد محاولته لإعادة ترتيب العالم حتى يصبح كما يروق له على ما يقول. معه كان هذا الحديث عن الكتابة، بالأخص كتابته الشعرية.
في قصائدك دائماً ذلك الشيء غير المتحقق، من هنا سر جاذبيتها؟
ـ التحقق هو النهاية، عندما أشعر بأنني قد وصلت سأجلس في بيتي، وأحادث أصحابي في فيس بوك وتويتر، وأتوقف عن الكتابة، الشاعر صوفي يبحث عن الله، عن الحقيقة، ويظل يبحث ويمضي العمر ولا يصل، الصوفي إذا وصل جن، أو كفر، أو مات، والشاعر إذا وصل فقد قدرته، لا يتبقى منه سوى كعب اخيل.
فيها أيضاً فن التعرية والتجريد من دون فقدان الوضوح المعماري للقصيدة على الصعيد الداخلي والخارجي؟
ـ كل ما كتبت منذ أول ديوان لي، وحتى آخر ديوان لي لا أعرف متى سيصدر، هو قصيدة واحدة، مختلفة المستويات، تتطور مع كل ديوان، قد تتكون هذه القصيدة من عشرة دواوين، ربما أكثر وربما أقل، أنا أعمل على «مشروع عمر»، أكتب وأنا أفكر في الدواوين المقبلة، والدواوين الفائتة، لذا فبعض شخوص الرواية موجودون في دواوين، مثل «عائشة»، أو «الشيخ أحمد عبد التواب»، وفي ديواني الجديد «مدهامتان»، الذي أعده للنشر قريبا، ستجدين إشارات لقصائد سابقة، وربما لاحقة، ما أريد أن أقوله هو أن لدي بناء معمارياً واضحاً لتجربتي الشعرية، أعمل عليه منذ ديواني الأول، أدرك أنني في كل عمل جديد أضيف لبنة جديدة فيه، عندما أضع آخر واحدة، سأتنهد ساعتها بارتياح وأقول: «حسنا يا رفاق، لقد انتهيت».
ما مصادر شعرك بمعنى ما هي قراءاتك ولمن من العرب والأجانب؟
ـ أقرأ لمن يكتب نصاً جميلاً، أحياناً أتمنى أن أستعيد مرحلة البدايات التي كنت أقرأ فيها كل ما يقع تحت يدي، من نصوص عربية أو مترجمة، لكن يبدو أنه مع الزمن وكثرة الإصدارات صار ذلك صعباً، لكن مع ذلك أحب دائما أن أقرأ النصوص الأولى لكتابها الشباب، دائما ما تكون ممتلئة بالطزاجة والبكارة، لكن قراءتي الأساسية، تبدأ من التراث العربي، وربما هذا ما يجعلني ألجأ كثيرا للتناص، أقرأ كثيرا في التراث الشعبي الإبداعي، أحب كتابة جيلي، وجيلي الثمانينيات والتسعينيات العربيين، أحب أدب أميركا اللاتينية، وأدب أميركا السوداء، أحب كثيرين، لكني أحب النصوص أكثر، النصوص هي التي تعرفني بالمبدعين.
المشهد متجمد
كيف ترى المشهد الشعري في مصر؟
ـ المشهد الشعري في مصر متجمد عند الخمسينيات، تمر الحياة ولا يمر، تجري السنون وهو واقف لا يزال يناقش قضايا انتهت منذ زمن، ما زلنا نناقش «هل هناك ما يسمى قصيدة النثر»، ما زلنا نتساءل «هل هي قصيدة أم نثر»، ما زلنا عندما نناقش ديوانا لشاعر نجد من يهب كعنترة وسط الندوة شاهرا سيفه في وجوهنا «تبت أياديكم، هل هذا شعر»، المشهد متجمد، ربما لأن الحياة نفسها متجمدة، ربما لأن التعليم يسحبنا إلى الخلف، ربما لأنه بعد ثلاثين عاماً من القهر لا زلنا نقف عند النقطة التي كنا نقف عندها، وربما لأن ناقداً خرج ذات يوم علينا بأن هذا زمن الرواية «فهرول الناس إلى الحواديت، وتركوا الشعر، ربما لأن أراوحنا صدئت ولم تعد تفهم الشعر، وربما لأن الشعر الذي يكتب لم يعد قادرا على إزالة كل هذا الصدأ عن الأرواح.
ثم هل تنقي الثورة الثقافة من شوائب عدة؟
ـ أعتقد أن الكتابة ستختلف بعد الثورة، أنا لا أستطيع أن أكتب بمعزل عن عالمي، والعالم تغير، العالم هو شارعي وجريدتي وقهوة الصباح و غرفة نومي وكتبي وجاري وضحكة طفلي وعبوس سائق الباص، كل ذلك تغير بعد الثورة، الثورة منحت العالم أسئلة جديدة لم يجب عنها أحد بعد، وأجابت عن كثير من الأسئلة التي كنا نطرحها من قبل، كان لدي نص طويل أعمل عليه قبل الثورة، لم أستطع استكماله بعدها، لأني شعرت بطاقة نور أضاءت النص كلها، وتركته معلقا، ربما يبقى على الثورة أن تنقي كما تقولين الثقافة من أمراضها، أن تخرج المثقفين من «الحظيرة» التي وضعهم فيها النظام السابق، على حد وصف وزير ثقافته فاروق حسني، أن تمنحنا الحرية في كتابة نصوص أكثر انفتاحا، من دون أسئلة تقليدية ظللنا ندور في فلكها خمسين عاما.
ماذا عن روايتك؟ لماذا الرواية؟
ـ لم أكتب الرواية عن قصد، وربما لن أكتبها مرة أخرى، في تعريفي على الرواية كتبت «شاعر مصري»، أقصد أنني شاعر كتب الرواية برؤيته، وهذا ليس انتقاصا من نوع معين من الكتابة، لكني أحب الشعر، ولذلك كنت أعطي الرواية لأصدقائي وأنا متردد وأقول لهم «أنا شاعر على فكرة يا جماعة».
هل تتيح المزيد من البوح الذي لا يتحمله الشعر؟
ـ الرواية لم تتح مزيدا من البوح بالنسبة إلي، بعض ما جاء في الرواية قلته في قصائد لي من قبل، لكن أريد أن أذكر بما قال الشاعر الإنكليزي «فيليب لاركن»، من أن الشعر يكتب الذات، والرواية تكتب الآخر، حسنا في الرواية كنت أريد أن أكتب الآخر، الرواية التي استغرقت كتابتها سبع سنوات، بدأتها في لحظة حاسمة في تاريخ الأمة العربية، وهي الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003، كنا نرى الحرب على الهواء، الأطفال والنساء والشيوخ يصرخون وتسيل دماؤهم على الشاشات أمامنا، ونحن لا نفعل شيئا سوى أن نشرب الشاي واليانسون على المقهى ونتفرج، نخرج في مظاهرات ندرك أنها غير ذات جدوى، فالحكام تآمروا كي تسقط بغداد، كتبت همي هذا في قصيدة اسمها «يقول محمد: نقية لدرجة أنه من المؤكد اسمها مريم»، في ديوان مديح الغابة، لكنني في الرواية أردت أن أكتب هم الآخرين، الذين كانوا حولي، كان الهم أكبر مني، ومن الآخرين، الذين رأيتهم يشيخون، لأن العجز أقعدهم عن فعل أي شيء سوى الفرجة ووضع الخد على اليد، وستجدين عالم القصيدة والديوان عالما واحدا، بل ستجدين الشخوص واحدة أيضا.
«الدوغما»
هنا سؤال يرتبط بوجود الأيديولوجيا في الرواية لديك، ألم تخش من الاتهام بالمباشرة؟
ـ أقول دوما إنه لا أدب بدون أيديولوجيا، حتى الذي يكتب رواية ذاتية، فهو في ظني يكتب أيديولوجيته الخاصة، وجهة نظره وإبداعه، نحن في عالم عربي تزيد السعادة فيه في متوالية عددية، فيما يزيد الشقاء في متوالية هندسية، كما قال ماركس، في ظل هذا يكون من الصعب أن تنخلع عن عالمك، ربما تسخر، ربما تخبئ أيديولوجيتك، لكنك لا يمكنك أن تخلعها تماماً، ولا يمكنك أيضاً أن تشهرها في وجوه الناس، شعرة معاوية التي بين الاثنين هي التي يمكن أن تنقذ النص، أعمال ماركيز ويوسا وكونديرا والليندي وساراماغو وبوليستر لا تخلو من الأيديولوجيا حتى لو بدت كذلك، القضية كيف ينتصر الإبداع على الأيديولوجيا في النص، لا أن يقتله تماما، وفي الرواية كنت أتناول حدثاً مهماً، وملهماً وهو الاحتلال الأمريكي للعراق، تناولته من خلال تأثيره في مجموعة من الشباب يعيشون في عالم مغلق، تحاصره قيود الأمن والفقر والعوز والوحدة، فهل سيهتم هؤلاء المشغولون بقضايا وأحلام بسيطة، بالقضايا الضخمة، كان هذا أحد أسئلة الرواية.
هل هذا يعني أنك تكتب أدبا في خدمة الأيديولوجيا؟
ـ هناك فارق بين أن تكون لدي أيديولوجيتي الخاصة، وبين أن أكتب أدبا أيديولوجيا، بالنسبة إلي أفضل فكرة المثقف المستقل، البعيد عن أي حزب، أو تيار سياسي، فحزبه وتياره هو إخلاصه لإبداعه وإنسانيته، أرفض تماما فكرة «الدوغما» في السياسة، والأدب والحياة، لكن هذا لا يعني أن الأديب لا يحمل وجهات نظر في الحياة، وجهة النظر هذه هي التي تجعله يكتب نصه، كل شيء وجهة نظر، هذه الإجابات وجهات نظر، وأيديولوجيا، الشيء الثاني أنني أرفض تماما فكرة أن يكون الأدب في خدمة الأيديولوجيا، لأنه في هذه الحالة لن يصبح أدبا، لكن ما أريد أن أقوله، هو أن الكاتب في لحظة الكتابة يتخلى عن هذه الأيديولوجيا لكنها تتسرب إلى نصه لأنها أفكاره، المهم ألا تطغى الأيديولوجيا والمباشرة على النص فيفقد فنيته، أنت لا تستطيعين نزع الشاعرية من محمود درويش أو محمد الماغوط رغم أيديولوجيتهما الواضحة، لا تستطيعين نزع الفنية من صنع الله إبراهيم أو إبراهيم الكوني أو رشيد الضعيف أو أمين معلوف أو عبد الرحمن منيف لمجرد أنهم كتبوا نصا يحتمل التأويل، المهم ألا يزعم الأدب أنه يقدم الأيديولوجيا، الإشكالية عندنا في العالم العربي، أننا لا نرى إلا جانبا واحدا من العملة، ولا نصدق أن هناك جانبا آخر، ونريد من الجميع أن ينظر من جهتنا نحن فقط، فنفي الآخر هو أسهل ما نمارسه.
ــــــــــــــــــــــ