26‏/11‏/2011

وسعوا من وش العقلاء..في العباسية


لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر "يخلع"، قيصر جديد. المجلس العسكري ما زال يسير على خطى مبارك، الذي تربى في كنفه، بالمسطرة، رئيس وزراء من عهد مبارك، ومظاهرة لتأييده من أنصار مبارك أيضا.
لا تحلموا بمجلس عسكري يأخذ قرارات ثورية أو يحل الأزمات بطريقة حاسمة، فالعسكري قرر أن يحل أزمة حكومة الإنقاذ الوطني بأن جاء بكمال الجنزوري، رئيسا للوزراء من على الرف الذي تركه مبارك، رافضا أن يأتي بالبرادعي الذي طلب صلاحيات "رئيس وزراء" حقيقية، لا أن يكون مجرد "سكرتارية" للمجلس.
المجلس العسكري ما زال يسير على خطى مبارك، ليس في قتل المتظاهرين، أو اختيار وزراء مبارك رؤساء لوزاراته فحسب، وإنما في حشد أنصاره، ليعلن أن له مؤيدين، لكنه قرر أمس أن ينقلهم من ميدان مصطفى محمود، إلى ميدان العباسية، بما يحمله ذلك من معان، ربما لقربه من المنشآت العسكرية، التي تواجهها عددا من المباني الحكومية، منها على سبيل المثال لا الحصر، مستشفى العباسية للأمراض النفسية.
المفارقة التي تؤكد أن المجلس العسكري يسير على خطى مبارك، هي أن من كانوا يؤيدون مبارك، أصبحوا يؤيدون العسكري الآن بدلا منه، ف"نزلاء" ميدان العباسية أمس، الذين رفعوا شعارات "إحنا آسفين يا عسكري"، لم يختلفوا كثيرا في عددهم الضئيل عن الذين رفعوا قبلهم، شعارات "إحنا آسفين يا ريس"، هي نفس الوجوه التي كانت تدين بالولاء لمبارك، ولكنهم قرروا هذه المرة أن ينقلوا أماكن تواجدهم من "شقة واحد صاحبهم"، ومن ميدان مصطفى محمود إلى ميدان العباسية، صغير المساحة ، والذي لا يصل حتى إلى نسبة 5 في المائة من مساحة ميدان التحرير.
هذه المساحة الصغيرة، والعدد الضئيل "لمرضى" الحكم العسكري، في "العباسية"، لم تشفع للتليفزيون المصري حتى يقول الحقيقة هذه المرة أيضا، بل أصر على مواصلة انحنائه لمن يملك، وتزييفه للحقيقة، حيث قسم الشاشة إلى نصفين، نصف للتحرير بدت فيه الصورة بعيدة غير واضحة المعالم، ونصف للعباسية، قامت الكاميرات بتقريبه، حتى يبدو عدد مريدي "العسكري"، كبيرا وواضحا، ومهولا.
الأمر لم ينته عند الصورة التي ينقلها التليفزيون المصري، فالمتحدثون والمراسلون، ظلوا يتحدثون عمن في العباسية، وكأنهم صوت العقل، الذي يريد الاستقرار، وهو ما يستدعي إلى الأذهان أوبريت العقلاء، في فيلم إسماعيل ياسين الشهير، الذي يقول "وسعوا من وش العقلاء".
ورغم العدد الضئيل لمحبي "العسكري"، في العباسية، فقد تردد، أن عددا كبيرا منهم، ما هم إلا بعض الجنود والمتقاعدين من العسكر الذين يرتدون زيا مدنيا، الذين يسكنون، بالمناسبة أيضا، في عمارات "الجيش"، القريبة من العباسية، وهو ما يذكر بما يفعلونه أيضا في مباريات طلائع الجيش، التي يرتدي فيها الجنود، ملابس مدنية، ويجلسون في المدرجات لتشجيع "زملائهم".
المشهد الذي بدت عليه مصر أمس، في ميداني التحرير، والعباسية، وأصر التليفزيون المصري على تأكيده، يؤكد أن مصر تسير إلى انقسام، بدأه المشير طنطاوي حين أكد في خطابه أنه قد يدعو إلى استفتاء حتى يرحل عن الحكم، واكتمل المشهد أمس بانقسام مصر إلى فريقين، واحد في "التحرير"، والثاني في "العباسية". وربما يكون لكل ميدان نصيب من اسمه.

25‏/11‏/2011

"مش فاضل حاجة" .. عدودة في رثاء الحياة

محمد أبو زيد

مثل عدودة جنوبية محملة بالحزن والفقد والألم، يأتي ديوان الشاعر محمود فهمي الأخير "مش فاضل حاجة"، الصادر أخيرا عن "دار العين"،عدودة للحياة، يرثي فيها الطفولة، والعمر، والأصدقاء، والذات، والحلم.

فكرة العدودة تتبدى أول ما تتبدى في الدلالة التي يعطيها اسم الديوان، الانتهاء، لا شيء متبق، قد يكون الذي انتهي هو العمر، قد يكون هو الذكريات، والحنين لزمن ماض يراه الشاعر جميلا، قد تكون الطفولة التي لم يتبق منها سوى قصائد يكتبها الشاعر، "مش فاضل حاجة"، قد تشمل أيضا "مش فاضل حد"، فتبرر وحدة الشاعر في قصائد الديوان، وربما يكون الذي قد انتهى هو أغنيته، التي تشبه ما ضاع منه كما يستدل بفؤاد حداد، فالشاعر الذي يعاني من الوحدة والانعزالية، يكتبها في قصائده، وربما تكون امتدادا لديوانه الأول الصادر قبل سبعة أعوام باسم "لوحدك"، حالة الديوان التي رصدها الديوان الأول، استمرت في الديوان الثاني وإن كانت بنضج أكبر، فالشاعر الذي يواجه العالم، الذي لم يتبق منه شيء، يواجه منفردا وحيدا، بقصائده، كفارس يحارب منفردا طواحين الهواء

يشعر قارئ الديوان من الوهلة الأول أن كاتب الديوان رجل في آخر أيام عمره، يترك مرثيته لهذا العالم، في قصيدة، وفي قصيدة أخرى يتشبث بالطفل الذي كان بداخله، لينقذه، لينقذ أحدهما الآخر، بل هو يتلبس هذا الطفل، عبر حالة من الحنين ، والشجن المؤلم.

الديوان قسمان، الأول اسمه "ريحة البن اللى جايه م الماضى"، يبدو فيه الشاعر كعجوز في غرفة مظلمة، يبحث فيها عن مخرج بالذكريات "ماسك فى ديل الطفولة، خايف تروح منى"، الطفولة هنا، ليست مجرد مخرج، بل هي الذاكرة التي تشعره أنه لا زال حيا، الطفولة هي الأم، التي يمسك في ذيل ثوبها، تماما كما يفعل الطفل مع أمه في سوق كبير يخاف أن يضيع منها، بالضبط تبدو حالة الشاعر هنا، تمسكه بالحياة ذاتها هو تمسكه بتفاصيل هذه الطفولة، بحلوها ومرها، الطفولة هي التفاصيل التي لا تنسى، العالقة في الذاكرة كشمس تطل من السماء فتنير "فرحان بمنظر لمة الكتاكيت/ على السطوح / والشمس فى يناير/ والراديو داير ع الاغانى /وصوت/عبد الحليم طالع من المنور/ماتغرقينى فى دنيتك اكتر" هذه الغنائية الجميلة في هذه القصيدة تكشف عن مدى فرحة الشاعر باستعادة هذه التفاصيل، هذه الطفولة، والغناء لها.

الذكريات التي يسترجعا محمود في القسم الأول من الديوان يدرك في الجزء الثاني منها أنها انتهت ، وإنه "مش فاضل حاجة"، كما يسمي القسم، الذي يبدأه بقصيدة غاية في الإيجاز، والتكثيف و الجمال "ليه /دايماً باحس بغربه / والمترو / بيسيب الرصيف/ وبيبعد"، فليست الطفولة وحدها هي التي تترك الشاب العجوز، بل هو المترو، الذي قد يكون محملا بالذكريات، والصورة التي يرسمها محمود بهذه القصيدة، هي صورة شخص واقف في محطة المترو، ولا أحد سواه، فيشعر بالغربة، الغربة تجاه هذا العالم الذي تركه وحيدا، وانصرف، العالم الذي بلا طفولة ولا ذكريات حقيقية، هذه الذكريات التي ضاعت في قصيدة أخرى" بعد مااتشال مترو مصر الجديدة / واتشالت محطة القياده المشتركة / ومعاها / أكوام من الذكريات/ اللى سبناها عليها".

الذكريات في القسم الأول، تتحول إلى إغراق في التفاصيل في القسم الثاني، وإقامة علاقة مع هذهالتفاصيل ، حتى لو كانت كلمة مكررة مثل "مساء النور"، مثلما في قصيدة مطلوب فتاة العمل، وانسحاب تفصيلة من هذه التفصيلة، قد يهدم كل تفاصيل الحياة التي غزلها، والصورة التي التقطها.

يركز محمود على تفاصيل الحياة الصغيرة، يرسم عالما ومكانا قبل أن يبدأ الكتابة ، فأنت ترى تفاصيل المنزل الذي يسكنه، أو تسكنه الروح الطفلة، أو تسكنه شخوص النصوص"الاوضة الضلمة / اللى فى بير السلم / يخبى جواها الكشاكيل"، والسينما "الدرجة التالتة / اللى بتعرض اربع أفلام"، و "وانت داخل من باب الشقه / هتلاقى على شمالك أوضتين/ سيبك م الاوضه الاولانيه / الاوضه المقفوله ع الصالون المدهب / خليك فى الاوضه التانيه/ الاوضه الصغيرة / اللى فيها بلكونه / فى ركن منها هتلاقى الزرع"، هو يسحب القارئ من يده ليدخل معه عالمه الخاصة، ويحذره بحميمية "ماتقعش / بسبب سلمه مكسورة /مابين الدور التالت والرابع / متهيألى / انك / حفظت أماكن القطط/ اللى نايمين ع السلالم / فبلاش تقلقهم"

محمود قد لا يكتفي بأن يلتقط صورة، ويغزل منها عالمه الشعري، أحيانا يخلق هذه العالم ويرسمه كما في قصيدة " لوحة ناقصة"، حيث "رسمت شارع / وميدان واسع / ورصيف طويل / مشيت عليه بنات حلوين جداً / وقعدت على القهوه اعاكس فيهم / لحد ما واحده منهم ابتسمت لى / نسيت احاسب الجرسون / وفضلت ماشى / ماشى / ماشى / لحد ما خلصت الصفحه".

وفي القصيدة التي تحمل اسم الديوان، يتأكد هذا المعنى، فالبيت القديم ، الذي يحمل ذكريات الطفولة يتحول إلى شاهد قبر، وحكاية الحب القديمة، وكل التفاصيل الصغيرة التي يرويها لا يتبقى منها سوى "سور حديد لجنينه اتردمت "، والحديقة التي تعبر كلاسيكيا عن عالم جميل ، تم ردمها، تماما كميت يدفن، ثم يغطى بالتراب.

الديوان في مجمله يبدو قصيدة حب غير مكتملة، لحبيبة غائبة تماما، يراها الشاعر ويتحدث معها، لكنها لا تتحدث أبدا، يصفها الشاعر في قصائده، لكنها لا ترد، لا تظهر، لا تتحرك، "جوه بحور العطر من صوتك/ حتى سكوتك /يشبه الاحلام"، لكنه يعيش هذه الحالة من الحلم الدائم في قصة الحب غير المكتملة، التي تبدو من طرف واحد في كثير من الأحيان، "ليه بسمة البنت الجميله/ الصبح/ ربكتنى ؟؟/ خلتنى أبدأ نهار / ماهوش معقول"، لكن هذا الطرف الآخر لا يتحرك إلا في الحلم، فيتحول هو إلى حالة الثبات "باحلم على حجرك انام/ وتفردى شالك غطا/ وتفردى كفك يمام/ شدينى من وسط الزحام/ ودينى دنيا بتبتدى بيكى الربيع"، هذه الحالة من التشبث بالحبيبة، بالوطن، بالطفولة بالأم، يبررها في نهاية قصيدة جنة الحواديت "انا مش هاضيع/ لوحضنك الدافى الوسيع/ بيضمنى وقت البكا".

الحبيبة لدى محمود "بنوته تشبه للقمر / بنوته تشبه للصباح/ تفتح ضلام الشباكين/ تطلق عصافير الغنا"، والحب يرتبط بالحنين إلى الماضي، بحكايات ناقصة "انا اللى سرحت روحى/ مع ريحة البن اللى جايه م الماضى"، وربما هو الإحساس بالعمر الذي يضيع، وينفلت من اليد "صوت خطوة البنت ع الاسفلت/ خلانى لـيه انشـغلــت/بلحن لغنوه منسية"، قصة الحب ليست لفتاة واحدة فهو "واقف ع الرصيف/ استنى البنات / اللى خارجين م المدرسه الثانوى/ يمكن تكون فيهم بنت / بتشبه لايناس"، و "البنت / اللى باتعمد اسيب كل الاماكن /اللى فى المترو/ واقف قدامها/وهى بتتكلم مع صاحبتها / وبتحاول تهرب بعنيها / من نظراتى".

الاحتفاء بالحب بهذا الشكل في الديوان، يكشف عن شعور عارم بالوحدة في بقية الديوان، وهذه الوحدة، ترتبط بحالة البرودة، والاحتفاء بالشتاء في معظم القصائد" ازاى راح اوصف ؟/ طعم الصباح الدافى/ فى نص يناير البردان"، فالشاعر المهزوم، الذي يقف بردانا تحت مطر يناير، إذا وجد حبيبته قد تتغير القصيدة، قد تتحول العدودة إلى غنائية "شعرك/غطايا/دفايا /حضنك بيت"، لذا فهو يوجه لها سؤالا "شايفك ندى / حاسك خضار / باحلم دفا / وقنديل ودار / سايبانى/ ليه تحت المطر ؟؟"، والشتاء هو الجو المناسب للموت والانتحار أيضا "نطيت مابين /مية مطر / بيغرق الدنيا / وف ثانيه / لقيتنى ع الكوبرى القديم / بافرك ايديا/ وبانتظر / لو لحظه تيجى تشدنى / أصبح غريق"، أو قوله : " طعم المراره جوا قلبى بينكسر/ وانا باستمع صوت المطر"، البرد يحضر في قصيدة ديسمبر، مع الأسئلة المريرة، ومع اكتشاف الشعر أنه هرم فجأة، فيحاول عقد مقارنة بينه وبين صوره طفلا فلا يستطيع، لأنه أصبح شابا عجوز، لا يفعل شيئا سوى أن يكون "واقف فى البلكونه/ لوحده / فى عز البرد"

واللافت هنا هو أن نهاية الشتاء، ونهاية المطر، تعني عند الشاعر عودة الحياة، ونهاية حالة الوحدة والرغبة في الموت والانتحار "سكت المطر / رجعت أغانى البياعين / والايدين / رجعت تدوَّر ع الايدين / والفوانيس نورت / وبينفرط عنقود دموع / على حافة الكوبرى الحديد"،

الشاعر في هذا الديوان صعلوك يسير في الشوارع، في "يناير البردان"، يتفقد شارعه القديم ، يقف في محطة الاتوبيس، يسير في الشارع، يذهب إلى العمل، لكنه في كل هذا يصف الناس، علاقته بالناس وبالأشياء من منطق الرؤيا، عيناه كاميرا فوتوغرافيا تقيم العلاقات مع الناس من هذا المنطق، وتصف المشاعر، وتقيمها بناء على هذه الصور التي تلتقطها عيناه طوال الوقت، حتى أحاسيس الخيانة والحب، قائمة على هذه الصور الملتقطة طوال الديوان

مع هذه العلاقات غير المكتملة، تتولد فكرة الخيانة، " شايفك هناك / بتواربى فى الشباك / وبتضحكى لغيرى"، فالخيانة هنا تتقاطع مع فكرة الحبيبة غير المكتملة، وقصص الحب القائمة على الرؤية، وهي العين الموجودة طوال الديوان، لترصد وترى، وتكتب، لكن فعل الخيانة كما أراد له عنوان القصيدة أن يكون هو مواربة الشباك، والذي يعني غياب الرؤية، والنظر، والضحك للآخرين، و الثلاثة أفعال الموجودين في الديوان يكشفان طبيعة العلاقة "عاشق لا يفعل سوى النظر، وحبيبة توارب الشباك / تكاد أن تغلقه في وجهه/ وتفتحه في اتجاه أحد آخر، والفعل الثالث هو الضحك لآخر.

في الديوان دائما بيت قديم، وهناك دائما نافذة، والنافذة لدى محمود في هذا الديوان تفصل بين زمنين، وبين حالتين، حالة الحب والخيانة كما في قصيدة "خيانة"، وحالة الصبا والطفولة، كما في قصيدة "تحت شباك الحنين"، "من هنا عدى الولد، من هنا عدى الحنين/من هنا عدى الشجن، الضرفتين مش مفتوحين، متعفرين ليه بالتراب، البنت راحت بس فين"، لكن الإحساس بالزمن يسقط ويصبح العمر يومين فقط، حين يرتد إلى الطفولة مرة اخرى، قبل أن يدرك الحقيقة "دى لسه كانت من يومين / دى لسه كانت من سنه / دى لسه كانت من سنين"، وقوله "فى الدور التانى / بنت / باشوفها واقفه فى الشباك / ومواربه الشيش / أنا فاكر /مره ابتسمت لى / ودخلت من غير ماتقفل الشباك"

يحضر الأب كقوة قاهرة في قصيدة اللحظة المناسبة، حيث يبدو على اعتبار أنه ربما النقطة التي تجعل الشاعر يفاضل بين حاله وطفولته " يرجع / بيجر ف أحزان الحب الاول / وبيجهز نفسه / لعصاية ابوه النايمه / تحت سرير / باربع عمدان"، هذا القهر يتبدى في قصيدة الأوضة اللي ما بقتش بتاعتي، فهو يحكي بحميمية شديدة عن كل تفاصيل غرفته، وكأنه يعيش فيها، ويحكي كل تفاصيلها، الزمانية والمكانية ، قبل أن يكتشف القارئ "إنه الإوضة دي " خلاص / مابقتش بتاعتى / من يوم ماطردنا ابويا من البيت /المكتب بعته / مالوش مكان فى الشقه التانيه / والسرير / مارضيش يسيبه / واداه لابنه"، هذا الإشكالية تحضر، مرة أخرى في قصيدة "حاجة ما اعرفهاش ، حث يتحدث عن علاقة مثالية بين أب وبنته وابنه، ثم نكتشف في نهاية القصيدة أن "كل الحاجات دى / ويمكن اكتر / هتحصل / لما يبقى عندى ولد وبنت / يمكن ساعتها اعرف / شكل العلاقة اللى مابين أب واولاده / العلاقة اللى ما اعرفهاش / مع انى ماكنتش يتيم".

الحياة طفولة يعقبها موت، والموت ربما لا يكون موتا حقيقيا بقدر ما هو موت معنوي، لكنه يقدم مبررات هذا الموت في قصيدة انتحار، فالشاعر يترك مبررات هذا الموت في قصيدة أو "جواب على حافة المكتب / ونازل"، ربما ليبحث عن الماضي ، وربما لهذا يبحث عن اسمه على مقعد المترو "بقالى اكتر من 13 سنة/ باحاول الاقى الكرسى /اللى كتبنا عليه اسامينا/ فى أخر يوم/ فى امتحان الثانوى/ وكإننا بننقش/ على شاهد قبر / لدنيا بتروَّح"، وربما يكون هذا هو التعبير الأمثل، فالشاعر يفتش عن الماضي كمن ينبش قبرا بحثا عن شيء يدرك أنه لن يجده، وابتعاد الطفولة هو المرادف للموت لديه، ومن ثم الموت الفعليفي قصيدة العيال "يا عيال انتوا فين يا عيال /انا قلبى مال للحزن وانتوا بعيد".

الشيء الوحيد الذي يمكن أن يقف أمام هذا الحزن وهذا الموت، أن يعود إلى طفولته مرة اخرى "أرجع ولد / بيلم أمطار الغنا / ويا العيال / والامهات م الشبابيك القدام / تنده لنا"، سر التمسك بهذه الطفولة تكشفه قصيدته التي يصبح العمر فيها غاربا، بينما تتواري الطفولة وذكرياتها بعيدا " الدنيـا وش غــروب / ولاعــادش فيها سطوح /ولاعــادش فيها جيران / ولا كحك ولا بسكوت / عالـم برىء بيغــيب / عالـم برىء بيمــوت"، فغياب هذا العالم ، الذي يصفه مرتين بالبراءة، يعني الموت".

ربما يبدو السؤال الأكثر إلحاحا هنا : لماذا ينحاز محمود إلى عالم الطفولة لهذا الحد ؟، لأن عالم الأطفال به "عيال كتير/ وبيضحكوا / وبيفرشوا الشارع غنا /وبيرسموا الحواديت جنان / ولا أى شىء بيهمهم / غير ماتش كوره فى الميدان / ولا عرفوا ايه معنى الالم / ولا عرفوا طعم الحزن ايه / ولا يعنى ايه بتكون وحيد / فى ركن منسى من الزمان"، في هذا المقطع يجيب الشاعر عن كل الأسئلة التي يطرحها الديوان، وربما يصف حالته الآن المكونة: من الوحدة ، والحزن كما يقارن بين العالمين.

قصيدة العيال، يقدمها ببيت شعر دال لرجب الصاوي " مليانه يادنيا العيال بالهنا"، وفيها يكشف الشاعر، أو يكشف المأزق الحياتي له ولجيله بأكمله" انا محمود الجديد / اللى مايشبهش محمود القديم خالص / نزلوا العيال يلعبوا / وانا كنت ماشى ع الرصيف بانهج / حاطط ايديا فى جيوبى / واقف اتفرج / واعدل النضاره / انا لسه واقف على أول الحاره / صبح يوم العيد / لكنى خالص مش سعيد"، هذه القصيدة الجميلة المليئة بالشجن تلخص حالة الديوان بالكامل، حالة الصراع بين محمود الطفل، ومحمود الذي كبر مع الحياة، لكنه ما زال يبحث عن طفولته، لذا فهو لا يشعر بالسعادة يوم العيد، يستعيد كل تفاصيل الطفولة، لكنه لا يستطيع أن يستعيد ذاته.

هذه القصيدة تجرنا للحديث عن الموسيقى في ديوان محمود، فمحمود يكتب قصيدة التفعيلة والنثر، لكنه يبدو أكثر انحيازا لقصيدة التفعيلة، وربما لأنه صدر ديوانه بمقطع لفؤاد حداد يقول "غنوتى شكل اللى ضاع منى"، والذي يعبر كثيرا عن مضمون الديوان، فهو قد كشف عن غير قصد عن حرصه على الغنائية في ديوانه، الغنائية التي قد تصل إلى حالة العدودة، في بعض القصائد، وإلى الغناء الراقص في بعض القصائد.

يرفض محمود ارتداء عباءة فؤاد حداد، التي ارتدتها أجيال كاملة تأثرت بحداد، لكن محمود يفضل أن يكون له صوت الخاص، في لغة عذبة سلسة، بسيطة، تحمل في مضمونها طاقة شعرية هائلة، وتختصر صورها البسيطة حالات شعورية كاملة.

يمتزج الغناء بالسرد، تماما كما يفعل المعني الشعبي، لكن محمود يقبض على نهايات الحكايات، ويترك قارئه يفكر في النهاية، التي يدرك بعدها، إنه مش فاضل حاجة، تنتهي الحكايات حكاية وراء اخرى، كأن الحياة تنتهي "بتخلص الحواديت / كإنى بانزل سلالم/ وبارد باب البيت"، الحكاية جنة في رأي الشاعر، لأنها تعيده طفلا مرة أخرى "ماتدخلينى جنة الحواديت، وترجعينى طفل من تانى"، وفي قصيدة حواديت زمان، التي يبدأها بلزمة الحكي، المرتبط بعالم الطفولة، يكشف محمود عن مأزق السرد لديه "كان ياما كان / ليه القصيده بتبتدى بحواديت زمان؟"

هذا الغرام بالتفاصيل والذكريات يبدو واضحا جدا في قصيدة "الاوضه اللى مابقتش بتاعتى"، التي تبدو مرثية لعمر مضي، الديوان كله يبدو مرثية لمحمود فهمي، ولجيله بأكمله، مرثية جميلة، وحزينة، تجعلك تعيد قراءة الديوان مرة ومرة، مرثية تكشف عن شاعر حقيقي ، وديوان جميل.

ــــــــــــــــــــــــ

*نشر في أخبار الأدب

كراكيب نهى محمود..تحيا الحياة

محمد أبو زيد

1

يعرف من يقرأ مدونة "نهى محمود"، أنها أمسكت أذن الحمار ـ يا للعجب ـ وركبت الجمل ـ كما نشرت صورا لها وهي تعتلي سنامه ـ عندما زارت أسوان والأقصر، يعرف أنها ذهبت إلى سوهاج لزيارة زينب، وفتيات من قارئاتها من هناك، يعرف أنها تكره البطيخ، وتعتقد أن شكله الأخضر المزيف يخفي خلفه أسرار مجرم حرب هارب من الحرب العالمية الثانية، وإدمانها المطبخ، ويعرف أيضا أنها تكره الكاتشب بقدر ما تحب كاظم الساهر.

لن يكون القارئ بحاجة لأن يكون صديقا شخصيا لنهى حتى يعرف كل هذه التفاصيل، فزيارة مدونتها كفيلة بهذا، هذا لأن نهى تعتبر أن صديقتها الحميمة، وربما الوحيدة، هي المدونة، التي تبوح لها بأدق تفاصيل حياتها، بأسرارها، وأحزانها، وأفراحها، وجنونها، وهلاوسها أيضا، وأفلامها المفضلة.

من يريد أن يعرف نهى محمود جيدا، عليه فقط أن يدخل مدونتها، ليجد كل تفاصيل حياتها، ربما قبل أن يقرأ، سيكتشف أن شكل المدونة، يشبه غرفة مكتب خاصة بنهى، لون روز بناتي، صورها موجودة على سور المدونة، أغلفة كتبها الأربعة "نامت عليك حيطة"، " راكوشا"، "الحكي فوق مكعبات الرخام"، "كراكيب"، المقالات التي كتبت عنها، صورة كاتبتها المفضلة، قرينتها كما تحب أن تنادى، إيزابيل الليندي، روابط المقالات التي كتبت عنها وعن أعمالها، ولينك مدونتها الثانية "عالم صوفي"، وروابط مدونات أصدقائها في الكتابة والتدوين، وعداد زوار يقول إن عدد قرائها تجاوز حاجز ال125 ألف قارئ والذين تصفهم ب "المتلصصين"، فضلا عن بعض المقولات التي تحبها، تكشف عن أفكارها، واعتقاداتها، فلمدام دوستيل "الحب هو تاريخ المرأة وليس الا حادثا عابرا فى حياة الرجل"، ولفيويليتا بارا "الحب وحده بعلمه يعيدنا أبرياء"، وتضع تحت صورتها " ليه ترسمي الكون الوسيع صندوق ورق استسلمي واحلمي بكون جديد ومختلف اللي نلاقيه هوه المهم، وأي شئ بنخسره ماهوش مهم"، لكنها قبل هذا كله تضع تحت اسم مدونتها كلمة تخصها " الكتابة وردة روز في كتاب الحياة لا تذبل أبدا".

ما سبق هو تفاصيل غرفة فتاة، أو سطح مكتب الكومبيوتر الخاص بها، لكن نهى حولته إلى مدونتها الخاصة، التي يشاركها بهجتها أصدقاؤها، وقراؤها، وربما هو ما يفسر أيضا مغزى اسم المدونة "كراكيب"، ونسبة الكلمة إلى اسم نهى، يكشف عن أن المدونة هي كراكيب من عالم نهى الخاص، من تفاصيل حياتها، هكذا بدون ترتيب، تأتي بشكل اعتباطي، غير مرتبة، ولا مقصودة، بعضها قديم، وبعضها من الذاكرة، لكنه يأتي في شكل تدوينات جميلة.

هذا عن شكل المدونة الخارجي، لكن محتوى المدونة الداخلي لا يختلف كثيرا عن شكلها، ففيه تفاصيل أكثر عن نهى، عن حياتها، كتابتها، أصدقائها، ما يضحكها، ما يحزنها، أفلامها المفضلة، انكساراتها، وأعتقد أن المدونات في مصر لو حافظت على ما تتميز به مدونة نهى محمود من مصداقية، واقتراب من الذات، وتلامس معها، لم يكن لها أن تتراجع أمام الفيس بوك وتويتر، اللذين التصقا بالذات أكثر.

فقبل سبع سنوات عندما بدأت المدونات في غزو مصر، لم تكن كما هي عليه الآن، كان جزءا منها يقوم بدور سياسي وصحفي، مثل مدونة وائل عباس "الوعي المصري"، ولكن كان الجزء الأكبر منها يقوم بالتأريخ لمشاعر جيل افتقد الحرية، ووجد في المدونات ما يعبر عنه، فكتب عن كل شيء، لكن كان هو، أي هذا الجيل، في مقدمة الكتابة.

الفكرة الأساسية التي قامت عليها المدونات هو ما ذكرته سابقا، هو تدوين الذات، كتابة الذات، أن تصبح المدونة دفتر مذكرات للشخص، عن أهم مشاهداته، وتعليقاته، وحالته الوجدانية، أن ينتقل كشكول المذكرات الشخصية اليومية على الانترنت ليتشارك فيها مع الآخرين، أو لا يتشارك، وهو ما نجح الفيس بوك فيه في سحب البساط من تحت أقدام المدونات، فيما تحولت المدونات في جزء كبير منها إلى ما يشبه المنتديات، أو دور نشر لنشر الكتب والمقالات، أو بديلا للمواقع الشخصية، والمجلات لدى الكثيرين، ومع هذا ظل القلائل هم الذين يستطيعون الحفاظ على وجود مدوناتهم على حالها، وعلى تماسها مع ذواتهم، ومن هذه المدونات مدونة نهى.

منذ أربع سنوات تقريبا، بدأ موسم الهجرة الجماعي، من المدونين، إلى الفيس بوك، بدلا من مدوناتهم، بل وهجرة المدونات تماما مع كثير من الأشخاص، كان الفيس بوك عالما أكثر حميمية، التعرف وجها إلى وجه عن طريق الرسائل والشات والصور، والتعليقات القصيرة، بل والدخول إلى تفاصيل حياة الأصدقاء، بفرض صدقيتها، الأصدقاء الذين تم التعرف عليهم، غالبا على المدونات، عن طريق قراءة ما يكتبون، أو التعليق عليهم، وخلق عالم افتراضي سعيد، يقوم على العلاقة بين القارئ "المدون"، والكاتب "المعلق"، فقط، كسر الفيس بوك الهوة بين الاثنين، حطم ، لم ينجح موقع "فيس بوك"، كثيرا مع نهى في أن يحولها عن المدونة، كما فعل مع كثيرين، كان الفيس بوك يعني لها مزيدا من الفضفضة التي تحبها، والثرثرة العذبة، تماما كما تفعل في المدونة، لكن بشكل أكثر حميمية.

الكتابة وردة روز في كتاب الحياة، هكذا تتعامل نهى مع مدونتها ومع كتابتها، على اعتبار أنها وردتها التي لا تذبل أبدا، وتسعى للحفاظ عليها حية طوال الوقت، بكتابة صادقة، وطازجة في آن.

2

أول مرة التقي فيها نهى محمود، كان في كافيتريا على سطح فندق أوديون، في وسط البلد، بصحبة الصديقين الطاهر شرقاوي، وسهى زكي، والصغيرة نهى بكر، وأعتقد أن المناسبة كان احتفالا بعيد عيد ميلاد سهى، كانت نهى في ذلك اليوم منهارة تماما، فقد قررت أن تزيح جانبا كبيرا من حياتها جانبا، وأن تغلق مدونتها، دار النقاش، طوال ذلك الليل عن الأسباب والمبررات، وأهمية أن تظل المدونة موجودة، حتى لو قررت ألا تكتب فيها مرة أخرى، لأنها تؤرخ فيها جانبا من حياتها، وتفاصيل أيامها، لكن ما حدث في الليلة السابقة، كما حكت لنا نهى، أنها ظلت سهرانة تقرأ التدوينات التي كتبتها، تم تمسحها، تقرأ التدوينات ثم تمسحها، ومع آخر سطر في المدونة، كانت نهى قد ضغطت على آخر Delete لآخر "بوست" في المدونة، وأتت عليها كلها.

لم اكن أعرف نهى جيدا، فقد كنت أول مرة أقابلها، كنت أعرفها من خلال مدونتها، وتعرفني من خلال مدونتي، ونتبادل التعليقات على ما نكتب، ثم اكتشفنا أن بيننا أصدقاء مشتركين، لكنها كانت في تلك الليلة تبكي، ولم أكن أعرف لماذا، هل تبكي بسبب الموقف، الذي جعلها، وربما أجبرها، على حذف المدونة، أم تبكي لأنها مسحت مدونتها، وهي لم تكن تحتفظ بتلك التدوينات مكتوبة على الكومبيوتر لديها، لأنها كما عرفت فيما بعد، تكتب مباشرة على المدونة؟

ما حدث بعد ذلك يمكن وصفه بمظاهرة في حب مدونة "كراكيب نهى محمود"، قادها القاص طه عبد المنعم، حيث أنشأ جروبا على الفيس بوك باسم "محبي مدونة كراكيب نهى محمود"، كان الهدف الأساسي للجروب، هو دعوة نهى لإعادة فتح مدونتها، في أقل من ثلاثة أيام، كان أعضاء المجموعة قد تجاوزوا، المائة عضو، وامتلأ حائط المجموعة على الفيس بوك بعبارات تدعوها للإقلاع عن جريمتها النكراء، أول تعليق كتبه طه " كتبت نهى محمود، المدونة مغلقه لنفاذ الغرض منها، وكتب طه عبد المنعم: إيه معنى التهريج اللى أنت عاملاه على مدونتك،ولكنها لم ترد"، وكتب أحمد علي عبد النور " ايه يا نهى طبعا انا مش عارف ايه اللى حصل بس شكلك مزعله الناس منك وده عيب، صلى على النبى وشوفيهم عايزين إيه"، وبعد أن انضمت نهى للجروب، كتب الروائي نائل الطوخي معلقا " هي نهى محمود انضمت للجماعة التي تطالب نهى محمود بفتح مدونتها ولا أنا فاهم غلط يا جماعة؟،يعني نهى الآ، تشكل جزءا من طاقة الضغط على نهى؟، لكن يبدو أن كلام نائل كان يحمل جانبا كبيرا من الصواب، فنهى نفسها كانت تريد عودة المدونة، وفي يوم 5 ديسمبر 2007 ، وتحت عنوان يحمل دلالة واضحة "عودة الروح"، كتبت أول تدوينة جديدة لها في المدونة تقول " الكتابة هي الحالة الموازية للحزن في الحياة، وللحلم في النوم، وللحب في عالم موحش لا يسكنه بشر، الكتابة .. تلك المساحة المصبوغة بالدم..هنا تتجسد مشاعري واقعا ملموسا أستطيع أن أراه وأرقبه عن كثب، أقبله كإيمان أو أتبرأ منه، هنا حدود لعالم يعرفني وأطمئن له، أي غضب ذلك الذي سكنها لحظة أن قررت تشويه ذلك الجزء الحميم من عالمها ، وصمة القبح في تلك النقطة الرائقة من تاريخها المهووسة بكتابته على جدران المعابد كالفراعنة، المهووسين بدورهم بالخلود، أرادت ان تحفظ لحظة الغضب هذه تحديدا ان تجمدها، توقف خطوط الزمن وناموس النسيان بأن تدمر شئيا تحبه جد تدمره فتحمل وجع وخطيئة تكفيها مائة عام، لتتذكر ألا تسامح ،ربما تبدو اسباب الرحيل غامضة، لكن أسباب العودة واضحة تماما،أعتذر لكم جميعا وتعجز كلماتي عن وصف امتناني ومحبتي".

3

تحولت مدونة "كراكيب نهى محمود"، أو أجزاء منها، إلى كتابين، الأول بالاشتراك مع القاص والكاتب الساخر محمد فتحي باسم "نامت عليك حيطة"، والثاني باسم "كراكيب"، وفي الكتابين تتماس خيوط السيرة الذاتية مع الكتابة الأدبية، وهو أكثر ما يميز مدونة نهى محمود.

البعض لا يعرف الفارق بين الأدب والسيرة الذاتية، وكتابة المذكرات، لذا يقع قارئ مدونة نهى دائما في المساحة الفاصلة بين الخيال والواقع، أو كما تقول هي في روايتها الأخيرة، قد يلف حبل الحقيقة على المتخيل، تسحبه التفاصيل شديدة الواقعية، ليعتقد أن المتخيل هو الواقعي الأكيد، وشتان بين الاثنين، وربما لهذا كتبت نهى ذات مرة عن صديقة لها غضبت منها لأنها أفشت سرا بينهما على المدونة، دون أن تعي هذه الصديقة، فكرة مزج الخاص بالعام، التفاصيل الحياتية الصغيرة، بالتفاصيل المتخيلة الكبيرة، أن المدونة عند نهى هي عالمها الخاص، مرآتها التي لا تخجل منها، تظهر كل تفاصيلها، فلماذا يخجل أصدقاؤها ما دامت هي لا تخجل.

ما يعجبني في مدونة نهى أنها لا تخجل مما تكتب أيا كان، فهي تكتب كما لو كانت عند أب الاعتراف في الكنيسة، أو أنها تقف أمام الله وتقول له يا رب أنا فعلت كذا وكذا، نهى المدونة، والروائية تكتب ، بهذا الشكل الذي يقع في المسافة الوسطى بين الاثنين، لذا لا تستطيع في المدونة أن تحدد أين يبدأ الاعتراف، وأين تبدأ الكتابة الأدبية، لكن ما يميز الاثنين هو "نهى المندهشة على الدوام".

لكن الحيرة التي يقع فيها قارئ مدونة نهى هو الشخصيات الموجودة على الدوام في التدوينات، حتى لتشعر أنها تفاصيل حياة، تقلب صفحاتها، تدويناتها، يوما بعد يوم، فهناك الأب، شديد الطيبة، الذي يعامل الابنة بحنان من يدرك أنه لا أحد لها سواها، ولا أحد له سواها، ويوافق على كل نزواتها، ويتقبل بحنان جنونها، وهناك الأخ المشغول بعالم الكومبيوتر، ولا يبدو معجبا كثيرا بالطعام، هناك مقهى سوق الحميدية، والأستاذ سيد، والأصدقاء، وهناك الكتب ، وهناك إيزابيل الليندي التي تطل بين كل تدوينة وأخرى، هناك عالم السينما الحاضر بقوة، من خلال الأفلام التي تتناول عالم النساء، هناك المطبخ، وهناك شقتان، تركت إحداهما إلى الأخرى، مصطحبة طاسة كبيرة، وهناك الحبيب الغائب على الدوام، الملام دائما، النذل في كثير من الأحيان، الذي تخاطبه بشكل دائم في كثير من التدوينات، ما مضى وغيره تفاصيل عالم روائي، حياتي لو شئت الدقة، تكتبه نهى في مدونتها من خلال تدوينات، تقترب من المفهوم الأصلى للتدوين وهو كتابة الذات.

4

لأن نهى شعرت أن عالمها الخاص، تفضحه بالرغم منها غواية الكتابة، التي تجبرها على البوح بما لا تريد، فقد قررت أن تنشئ مدونة جديدة باسم "عالم صوفي"، ولا تنسبها إلى نفسها، لكن الطريف أن الذين دخلوا إلى المدونة الجديدة اتهموا صاحبة المدونة المجهولة بأنها تقلد كتابة نهى محمود، وتسرقها، وهو ما اضطرها لأن تعلن أن المدونة تخصها، وبعد كشف السر توقفت عن الكتابة فيها.

لماذا أذكر هذه الحكاية، ربما لأن نهى محمود استطاعت أن تخلق طريقة في القص، والكتابة في المدونة خاص بها، وهو ما يعطي المدونة خصوصيتها، ولغتها الخاصة، وأعتقد أن نهى من القلائل الذين دخلوا إلى الكتابة الإبداعية من باب التدوين، واستطاعوا أن يشقوا طريقهم فيه بخطى واسعة، ففي الأعوام الأخيرة تحول عدد كبير من المدونين من "أصحاب مدونات إلى أصحاب كتب"، دون أن يدركوا أن التدوين في حد ذاته إبداع قائم بذاته، فطبعوا تدويناتهم في كتب وكتبوا عليها أنها شعر أو قصة، وأقاموا حفل توقيع، ثم توقفوا عن الكتابة وعن التدوين.

نهى كان الأمر مختلفا بالنسبة لها، فعالم الأدب، فتح أبوابه لها بسبب مدونتها، التي أعتقد أنها مهدت لها الطريق إلى عالم الأدب، وعالم الرواية، واستطاعت نهى أن تستفيد كثيرا من طريقتها الخاصة في التدوين في بناء عالمها الروائي، تشكيلا، ولغة، واستطاع هذا العالم أن يتطور بسرعة، ويمكن ملاحظة ذلك بقراءة أول عمل لها "الحكي فوق مكعبات الرخام"، وعملها الأخير "تحت الصخرة المستطيلة"، ففي العمل الأول، كان التدوين يطل بقوة، لكن في العمل الأخير، هناك خبرات، وقراءات، ومشاهدات، بالإضافة إلى الاستفادة، من قوة التدوين، والحكي.

نهى محمود، تدون كما يجب أن يكون التدوين، تخلق عالما افتراضيا، موازيا للحياتي المعاش، بلغة مميزة، وكتابة طازجة.

ــــــــــــــــــــ

*نشر في مجلة الثقافة الجديدة