21‏/11‏/2012

الصعيد والموت.. قصة مسلسلة


يبدو أن الموت لا يعرف أحدا في مصر إلا الصعيد، يعرف أطفال الصعيد جيدا، ونساءه ورجاله وشيوخه، يتصيدهم أينما ذهبوا، يختارهم من بين مئات الوجوه، يعرفهم بالاسم، يطاردهم من العبارات الغارقة إلى القطارات المحترقة، إلى حافلات الأطفال المدهوسة بالقطارات.
يدفع الصعيد الثمن دائما وهو الذي لم يخطئ، لم يفعل شيئا يستحق كل هذا الموت، كأنها أنشودة للفناء يرددها دائما، وهو الذي كتب صفحات الخلود على معابد الفراعنة في جل محافظاته، يدفع الصعيد ثمن إهمال الحكومة، والنظام، يدفع ثمن الفساد، والفقر.
لا يعرف الصعيد ثورة أو غيرها، فشيئا منها لم يمر على المحافظات التي تدفع الثمن يوميا، يعرف الصعيد الفقر فقط، يعرف الدم، يعرف الموت، يعرف الفناء، يعرف الصبر الذي شارف على الانتهاء لتتبعه انتفاضة كبرى لا تبقى ولا تذر.
نفتح عيوننا في الصباح لتقتلنا الخبر مجددا: "تحطم أتوبيس أطفال في مزلقان بأتوبيس، ووفاة 40 طفلا"، تعودنا على أخبار الموت التي تأتي من الصعيد، لكنهم هذه المرة من الأطفال، أي ذنب جناه هؤلاء الأطفال، حتى يموتوا بهذه الطريقة، هم لم ينتخبوا مرسي أو شفيق، لم يقوموا بثورة لإزاحة نظام، لم يأتوا بنظام آخر، لم يكفروا أحدا، ولم يقتلوا أحدا، ولم يتاجروا بدينهم ودنياهم، لا يعرفون إلا اللعب، ومستقبل لا يرونه يحدثونهم عنه، أي ذنب جناه هؤلاء الأطفال حتى يدفعوا الثمن؟
بماذا كانوا يحلمون قبل أن يموتوا، بلعبة جديدة؟ بحرف جديد سوف يتعلمونه، بحلقة جديدة من "توم وجيري"، بامتحان آخر الشهر؟ هل غنوا "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي"؟ هل كانوا ذاهبين لتحية العلم في المدرسة؟ ماذا كانوا يريدون أن يصبحوا حينما يكبرون؟ أطباء، مهندسين، علماء، موتى؟
لم يكن هذا هو الموت الأول الذي يداهم الصعيد، فكل موت في مصر يدفع الصعيد ثمنه، الصعيد الذي يطرد أولاده في كل مكان، بحثا عن الرزق، وهربا من الفقر إلى حضن الموت، يموتون مغتربين، في حوادث القطارات، والطرق السريعة، وفي حوادث التفجير، وعلى الحدود.
قبل سنوات دفع المئات من أبناء الصعيد أرواحهم غرقا وبين أسنان أسماك القرش في حادث العبارة سالم إكسبريس،  حين غرقت بهم السفينة، وبعدها بسنوات، دفع الصعيد بالمئات من أبنائه في حادث غرق العبارة السلام 98، في كلتا الحالتين كان ذنبهم أنهم يبحثون عن رزقهم في مكان آخر، بعيدا عن بلادهم التي تضيق بهم وتضيق بالرزق، كل ذنبهم أنهم أرادوا أن يحضروا "كسوة للعيال"، ونقودا، يبنون بها بيتا يلم، أو يتزوجون بها أو يعالجون أمهاتهم المريضات.
قبل سنوات، نسي أبناء الصعيد معنى العيد والفرحة به، عندما احترق المئات منهم في قطار الصعيد، العائد من مدينة النسيان الكبرى، تلك التي تسمى القاهرة، كانوا مكدسين في القطار، يبحثون عن موضع قدم في القطار الرخيص، الذي قد يوفر لهم جنيها أو جنيهين تشترى خبزا لهم ولأولادهم وذويهم. كانوا في طريق العودة إلى قراهم الفقيرة ليقضوا فترة العيد بين أهلهم،  لكن الفرحة لم تكمل طريقها إليهم، وعم الحزن الصعيد كله، عندما احترق القطار بمن فيه.
قبل سنوات، مات عشرات من أبناء الصعيد في حادث سقوط صخرة الدويقة، حيث يسكنون في الأماكن الرخيصة، المحفوفة بالخطر، التي تكفي نقودهم القليلة بالكاد، قبل سنوات مات العشرات من أيناء الصعيد ممن يعلمون في شرم الشيخ أو دهب أو طابا في حوادث التفجير، وفي كل الحوادث السابقة، لم يقدم أحد إلى المحاكمة، ولم يشعر أبناء الصعيد أن أحدا اقتص لهم. يذهب دمهم هدرا، يدفعون الثمن على ذنوب لم يرتكبوها، كل ذنبهم أنهم يحلمون. فقط يحلمون بالخروج من خنادق الفقر والموت التي تحاصرهم. كل ذنوبهم أنهم يهربون من الفقر الذي يحاصر بلادهم، فيهرعون إلى الموت، أو يهرع الموت خلفهم. لا فرق.
هذه المرة قرر الموت أن يترك الكبار قليلا، ويحصد أرواح الأطفال، أطفال في الحضانة والسنوات الابتدائية الأولى، لا تتعدى أعمارهم العشر سنوات، استيقظوا صباحا، ارتدوا ملابس الدراسة، شربوا كوب اللبن، بعد ضغوط أمهاتهم، ابتسموا لغرفهم وألعابهم الملقاة ابتسامة أخيرة، تركوا بيوتهم للمرة الأخيرة، واتجهوا إلى الموت، الذي كان ينتظرهم عند مزلقان القطار.
استقالة رئيس هيئة السكك الحديدية لا تكفي، استقالة وزير النقل لا تكفي، فالإهمال سيستمر، والحادث ستتبعه حوادث أخرى، نحن أمام منظومة كاملة من الإهمال والفشل والتدليس والفساد، الشيء الوحيد الذي تم صناعته بإتقان هو الفساد، الفساد الذي يصبغ المستقبل بلون أسود قاتم لا نر بعده، الفساد الذي يحصد أرواح الأطفال والأبرياء بلا رحمة.
يدفع الصعيد الثمن دائما من أرواح أبنائه ورجاله والآن أطفاله، يدفعها بصبر قارب على النفاد،  ماذا يريد الموت من الصعيد. لا، ماذا تريد الحكومة من الصعيد؟

التاريخ المر
العبارة سالم إكسبريس.. الموت بين أسنان أسماك القرش
في الساعة الحادية عشرة والربع من مساء يوم 14/12/1991 وقعت الكارثة البحرية المفجعة حين اصطدمت العبارة "سالم إكسبريس" والتي ترفع علم دولة "بنما" والمملوكة لشركة "سما تورز" للملاحة بحقل للشعاب المرجانية على مسافة بضعة كيلومترات من ميناء سفاجا البحري وانشطرت إلي نصفين وغرقت وسط صياح من عليها من ركاب رغم محاولاتهم المستميتة للنجاة وسط الأمواج العاتية، أولي عمليات الإنقاذ بدأت في الساعة الثامنة صباح اليوم التالي، أي أن الركاب ظلوا في درجة حرارة مياه تصل إلي خمس درجات مئوية ليلا، تركوا أكثر من تسع ساعات كاملة معرضين للمياه الباردة والرياح العاتية مع عدم وجود أدوات إنقاذ (العبارة لم يتم إخلاؤها بالطريقة الطبيعية بنزول القوارب لكنها أحتكت بالشعاب المرجانية وتدفقت المياه داخلها ثم غرقت في أقل من ربع ساعة)، وكانت العبارة تحمل 624 راكباً، وحتى اليوم الخامس للكارثة كان المشهد الحزين يخيم على مدينة سفاجا وأكثر من 300 جثة تقبع داخل العبارة تحت المياه الباردة بين فكي القرش والباراكودا.
............................
قطار الصعيد.. الموت في العيد
تعد حادثة قطار الصعيد التي راح ضحيتها المئات من أبناء الصعيد ممن كانوا في طريق عودتهم لقضاء أجازة العيد مع ذويهم، الأسوأ من نوعها في تاريخ السكك الحديدية المصرية أي منذ أكثر من مئة وخمسين عاما. كان القطار رقم ‏832‏ المتوجه من القاهرة إلي أسوان‏، قد اندلعت النيران في إحدى عرباته الساعة في الثانية من صباح يوم 20 فبراير 2002 ، عقب مغادرته مدينة العياط عند قرية ميت القائد‏، وقال الناجون أنهم شاهدوا دخانا كثيفا ينبعث من العربة الأخيرة للقطار، ثم اندلعت النيران بها وامتدت بسرعة إلي باقي العربات الأخيرة‏، والتي كانت مكدسة بالركاب المسافرين لقضاء عطلة عيد الأضحى في مراكزهم وقراهم في الصعيد، وقام بعض الركاب بكسر النوافذ الزجاجية، وألقوا بأنفسهم خارج القطار‏ـ‏ مما تسبب في مصرعهم أو غرقهم في ترعة الإبراهيمية‏.‏ وقام قائد القطار بفصل العربات السبع الأمامية عن العربات المحترقة وواصل طريقه.
........................................
العبارة السلام 98.. الموت غرقا وحرقا واختفاء
عبارة السلام 98 هي عبارة تابعة لشركة السلام للنقل البحري، غرقت في 13 فبراير 2006 في البحر الأحمر، وهي في طريقها من ضبا المدينة السعودية العائدة من منطقة تبوك إلى سفاجا، راح ضحيتها أكثر من 1400 شخص، معظمهم من الصعيد ممن كانوا يعملون في السعودية، واشارت التقارير الأولية عن بعض الناجين من الحادثة إلى ان حريقا نشب في غرفة محرك السفينة وانتشر اللهيب بسرعة فائقة . وقال العديد من الركاب أن القبطان كان أول من غادر العبارة وأنهم شاهدوه يغادر العبارة على متن قارب صغير مع بعض معاونيه. وقد هرب وترك سفينتة والركاب مستخدما قارب صغير يسع ثلاثين شخص لوحده، وتم تداول القضية على مدى 21 جلسة طوال عامين، وتم الحكم في قضية العبارة في يوم الاحد الموافق 27 يوليو 2008، في جلسة استغرقت 15 دقيقة فقط تم تبرئة جميع المتهمين وعلى رأسهم ممدوح إسماعيل مالك العبارة ونجله عمرو الهاربان بلندن، قبل أن يتم الاستئناف.  
....................................
أتوبيس منفلوط.. الأطفال أحباب الله والموت
في صباح 17 نوفمبر 2012 استيقظ المصريون على خبر وفاة 40 طفلا في الحضانة والتعليم الابتدائي، بينهم 4 أشقاء، و3 أشقاء، كانوا في طريقهم لمدرستهم، البداية كانت مع قدوم القطار رقم 165 من أسيوط إلى القاهرة، وأمام مزلقان قرية المندرة، وحسب المعاينات الأولية، وشهود العيان نتيجة عدم وجود عامل المزلقان ويدعي سيد عبده رضوان قام سائق الاتوبيس ويدعي علي حسانين عبدالحميد بمحاولة تخطي المزلقان فاصطدم بالقطار مما نتج عنه مصرع 50 طالبا من بينهم سائق الاتوبيس ومدرستين مرافقتين وإصابة 15 آخرين.