26‏/12‏/2012

لماذا قالت الصناديق في الصعيد "نعم" للدستور؟


تاريخيا، كانت منطقة الصعيد بعيدة تنظيميا عن جماعة الإخوان المسلمين، حيث كانت هذه المنطقة واقعة تحت سيطرة الجماعة الإسلامية، بل إن الجماعة الإسلامية تأسست في الصعيد، وينتمي كل قياداتها إلى محافظات أسيوط والمنيا وسوهاج.
في المقابل، لم تكن جماعة الإخوان المسلمين، تراهن على الصعيد كثيرا، وكانت تفضل أن تتحرك في المنطقة الآمنة لها، وهي محافظات الدلتا، وظل هذا الأمر طويلا، حتى بعد المواجهات ما بين الجماعة الإسلامية والدولة في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، والتي انتهت بالقبض على كوادر وأعضاء الجماعة الإسلامية في الصعيد، إلى أن انتهى الأمر بمبادرة وقف العنف 1997، وبدء تفعيلها مع مطلع العقد الماضي.
ما الذي تغير إذن في المشهد السياسي، ولماذا انحازت الصناديق في الصعيد إلى صف الإخوان المسلمين في الاستفتاء على الدستور، ومن قبله في الانتخابات الرئاسية في المرحلتين الأولى والثانية، ومن قبلهما في الانتخابات البرلمانية 2011؟ ولماذا أصبح الصعيد أكثر "إخوانية" من محافظة الدلتا، ذات التاريخ الإخواني العتيد؟.
ثمة من يرمي الصعيد بالجهل والتخلف والأمية السياسية، لأنه اختار هذا، وهو اتهام مرفوض، ففي كافة الأحوال يجب احترام رأي من صوتوا، غير أنه في نفس الوقت يجب أن نعرف لماذا قرر الصعيد أن يفعل هذا. توجد إجابتان هنا: هو أن التيار الإسلامي بأكمله، اختار أن يصوت لصالح الإخوان المسلمين، أيا كان موقعه من هذا التيار (سلفي، جماعة إسلامية، إخوان)، والإجابة الأخرى، أن الذين خرجوا من المعتقلات وجدوا أن الانضمام إلى جماعة الإخوان المسلمين أقل وطأة وتشددا من الانتماء لحركات راديكالية مثل الجهاد أو الجماعة الإسلامية، رغم أنها تخلت عن ذلك، أو سلفية، وهو ما يحيلنا مباشرة إلى الأزمة الحقيقية التي تعاني منها الجماعة الإسلامية في الصعيد، هو عدم وجود كوادر شبابية في الجماعة التي كانت تسيطر على هذه المحافظات، كما أن المشهد الأبرز في الانتخابات البرلمانية السابقة، كانت اكتساح جماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفي، في حين تراجعت تماما الجماعة الإسلامية، لتأتي في مؤخرة الرابحين، وبالتالي المؤثرين في الشارع.
الإجابتان السابقتان قد نخرج منهما بانتشار جماعة الإخوان في الصعيد، على حساب التيارات الإسلامية الأخرى، لأسباب عدة، لكن هذا لا محمود حسين الأمين العام لجماعة الإخوان المسلمين يرى أن الأسباب التي جعلت أهالي الصعيد يصوتون بـ"نعم"، هي أن يكون المواطن الصعيدي قد قرأ الدستور جيدًا واقتنع به، وإما ثقة فى واضعي الدستور أنفسهم والثقة فى التيار الإسلامي، غير أن السبب الأقرب للصواب، والذي لم يذكره القيادي الإخواني، هو البحث عن الاستقرار، بل إن جل من صوتوا بالإيجاب، كان هذا سببهم الرئيس، حتى محافظات الصعيد "السياحية" فعلت ذلك، وهو ما يمكن تبريره بأنها تريد الاستقرار حتى تستأنف عملها مرة أخرى، فالصعيدي الفقير الذي يبحث عن عمل في العاصمة، يعرف أنه لن يجد هذا العمل إذا لم تستقر الأمور، كمان أنه لا يجد نفسه استفاد شيئا من المظاهرات التي تشتعل في البلاد طوال عامين، ولا يمكن أن نلومه في شيء هنا،  لأنه فعليا لم تحدث الثورة في الصعيد، ولم يروا ملامحها أو تأثيرها في أي ملمح من ملامح حيواتهم.
وهذا لا يعني أن الصعيد كله إسلاميون، فهناك أقباط، وهم كثر، لماذا إذن صوت الصعيد للدستور بنعم؟
تلعب العصبية دورا مهما في الصعيد، لذا كان متوقعا أن يصوت الصعيد ب"لا" على الدستور، خاصة مع المادة الموجودة في الدستور التي تمنع اعضاء الحزب الوطني "المنحل" من العمل السياسي، لمدة 10 سنوات، وهو ما يعني حرمان عدد كبير من العائلات الكبيرة من الترشح للبرلمان، وهو ما كان يعني أن هذه العائلات ستحشد أبنائها للتصويت ب "لا". غير أن المفاجأة أن ما حدث كان العكس تماما، حيث اكتسحت "نعم" الصعيد، وهو ما يكشف عن مفاجأة جديدة، وهي تغير التركيبة المجتمعية المؤثرة في الصعيد، وإذا كان يمكن أن نرد هذا إلى وعي سياسي جديد، رافض لفكرة العصبية والقبلية، ولعودة الفلول مرة أخرى، فإنه وعي يرى البديل الإسلامي أفضل من البديل "الفلولي"، لأن ليس ثمة بدائل أخرى موجودة، كما أن الصعيد أكثر تدينا بطبعه، وأكثر ميلا للمحافظة على القيم والمبادئ والتقاليد
لست مع من يلومون على الصعيد لأنه صوت ب"نعم"، فإذا كان الإخوان والسلفيون مارسوا مع هذه المحافظات لعبتهم الأثيرة، وغازلوا فقر الناس بإنشاء مراكز صحية ومستشفيات ومعاهد ووزعوا عليهم الزيت والسكر وأنابيب البوتاجاز، لكسر جزء من حدة فقرهم، فعلى القوى المدنية أن تجيب على هذا السؤال: ماذا قدمت لهؤلاء الفقراء، أم أنها اكتفت بالتظاهر في ميادين القاهرة، والظهور في الفضائيات، دون أن تكلف نفسها بإقامة ندوات توعية أو عقد مؤتمرات، أو حتى الوصول للقرى والنجوع.
لا أبرئ أحدا، من يساوم فقر الناس بالزيت والسكر، ولا من يتهم الناس بالجهل والفقر، دون أن يفعل شيئا. الجميع مدانون، ومذنبون، لأنهم لا يتذكرون الصعيد إلا في المناسبات فقط، وما دون ذلك، فهو كم مهمل  يشار إليه بإهمال، لذا لا تلوموا الصعيد. لوموا أنفسكم.

21‏/11‏/2012

الصعيد والموت.. قصة مسلسلة


يبدو أن الموت لا يعرف أحدا في مصر إلا الصعيد، يعرف أطفال الصعيد جيدا، ونساءه ورجاله وشيوخه، يتصيدهم أينما ذهبوا، يختارهم من بين مئات الوجوه، يعرفهم بالاسم، يطاردهم من العبارات الغارقة إلى القطارات المحترقة، إلى حافلات الأطفال المدهوسة بالقطارات.
يدفع الصعيد الثمن دائما وهو الذي لم يخطئ، لم يفعل شيئا يستحق كل هذا الموت، كأنها أنشودة للفناء يرددها دائما، وهو الذي كتب صفحات الخلود على معابد الفراعنة في جل محافظاته، يدفع الصعيد ثمن إهمال الحكومة، والنظام، يدفع ثمن الفساد، والفقر.
لا يعرف الصعيد ثورة أو غيرها، فشيئا منها لم يمر على المحافظات التي تدفع الثمن يوميا، يعرف الصعيد الفقر فقط، يعرف الدم، يعرف الموت، يعرف الفناء، يعرف الصبر الذي شارف على الانتهاء لتتبعه انتفاضة كبرى لا تبقى ولا تذر.
نفتح عيوننا في الصباح لتقتلنا الخبر مجددا: "تحطم أتوبيس أطفال في مزلقان بأتوبيس، ووفاة 40 طفلا"، تعودنا على أخبار الموت التي تأتي من الصعيد، لكنهم هذه المرة من الأطفال، أي ذنب جناه هؤلاء الأطفال، حتى يموتوا بهذه الطريقة، هم لم ينتخبوا مرسي أو شفيق، لم يقوموا بثورة لإزاحة نظام، لم يأتوا بنظام آخر، لم يكفروا أحدا، ولم يقتلوا أحدا، ولم يتاجروا بدينهم ودنياهم، لا يعرفون إلا اللعب، ومستقبل لا يرونه يحدثونهم عنه، أي ذنب جناه هؤلاء الأطفال حتى يدفعوا الثمن؟
بماذا كانوا يحلمون قبل أن يموتوا، بلعبة جديدة؟ بحرف جديد سوف يتعلمونه، بحلقة جديدة من "توم وجيري"، بامتحان آخر الشهر؟ هل غنوا "بلادي بلادي لك حبي وفؤادي"؟ هل كانوا ذاهبين لتحية العلم في المدرسة؟ ماذا كانوا يريدون أن يصبحوا حينما يكبرون؟ أطباء، مهندسين، علماء، موتى؟
لم يكن هذا هو الموت الأول الذي يداهم الصعيد، فكل موت في مصر يدفع الصعيد ثمنه، الصعيد الذي يطرد أولاده في كل مكان، بحثا عن الرزق، وهربا من الفقر إلى حضن الموت، يموتون مغتربين، في حوادث القطارات، والطرق السريعة، وفي حوادث التفجير، وعلى الحدود.
قبل سنوات دفع المئات من أبناء الصعيد أرواحهم غرقا وبين أسنان أسماك القرش في حادث العبارة سالم إكسبريس،  حين غرقت بهم السفينة، وبعدها بسنوات، دفع الصعيد بالمئات من أبنائه في حادث غرق العبارة السلام 98، في كلتا الحالتين كان ذنبهم أنهم يبحثون عن رزقهم في مكان آخر، بعيدا عن بلادهم التي تضيق بهم وتضيق بالرزق، كل ذنبهم أنهم أرادوا أن يحضروا "كسوة للعيال"، ونقودا، يبنون بها بيتا يلم، أو يتزوجون بها أو يعالجون أمهاتهم المريضات.
قبل سنوات، نسي أبناء الصعيد معنى العيد والفرحة به، عندما احترق المئات منهم في قطار الصعيد، العائد من مدينة النسيان الكبرى، تلك التي تسمى القاهرة، كانوا مكدسين في القطار، يبحثون عن موضع قدم في القطار الرخيص، الذي قد يوفر لهم جنيها أو جنيهين تشترى خبزا لهم ولأولادهم وذويهم. كانوا في طريق العودة إلى قراهم الفقيرة ليقضوا فترة العيد بين أهلهم،  لكن الفرحة لم تكمل طريقها إليهم، وعم الحزن الصعيد كله، عندما احترق القطار بمن فيه.
قبل سنوات، مات عشرات من أبناء الصعيد في حادث سقوط صخرة الدويقة، حيث يسكنون في الأماكن الرخيصة، المحفوفة بالخطر، التي تكفي نقودهم القليلة بالكاد، قبل سنوات مات العشرات من أيناء الصعيد ممن يعلمون في شرم الشيخ أو دهب أو طابا في حوادث التفجير، وفي كل الحوادث السابقة، لم يقدم أحد إلى المحاكمة، ولم يشعر أبناء الصعيد أن أحدا اقتص لهم. يذهب دمهم هدرا، يدفعون الثمن على ذنوب لم يرتكبوها، كل ذنبهم أنهم يحلمون. فقط يحلمون بالخروج من خنادق الفقر والموت التي تحاصرهم. كل ذنوبهم أنهم يهربون من الفقر الذي يحاصر بلادهم، فيهرعون إلى الموت، أو يهرع الموت خلفهم. لا فرق.
هذه المرة قرر الموت أن يترك الكبار قليلا، ويحصد أرواح الأطفال، أطفال في الحضانة والسنوات الابتدائية الأولى، لا تتعدى أعمارهم العشر سنوات، استيقظوا صباحا، ارتدوا ملابس الدراسة، شربوا كوب اللبن، بعد ضغوط أمهاتهم، ابتسموا لغرفهم وألعابهم الملقاة ابتسامة أخيرة، تركوا بيوتهم للمرة الأخيرة، واتجهوا إلى الموت، الذي كان ينتظرهم عند مزلقان القطار.
استقالة رئيس هيئة السكك الحديدية لا تكفي، استقالة وزير النقل لا تكفي، فالإهمال سيستمر، والحادث ستتبعه حوادث أخرى، نحن أمام منظومة كاملة من الإهمال والفشل والتدليس والفساد، الشيء الوحيد الذي تم صناعته بإتقان هو الفساد، الفساد الذي يصبغ المستقبل بلون أسود قاتم لا نر بعده، الفساد الذي يحصد أرواح الأطفال والأبرياء بلا رحمة.
يدفع الصعيد الثمن دائما من أرواح أبنائه ورجاله والآن أطفاله، يدفعها بصبر قارب على النفاد،  ماذا يريد الموت من الصعيد. لا، ماذا تريد الحكومة من الصعيد؟

التاريخ المر
العبارة سالم إكسبريس.. الموت بين أسنان أسماك القرش
في الساعة الحادية عشرة والربع من مساء يوم 14/12/1991 وقعت الكارثة البحرية المفجعة حين اصطدمت العبارة "سالم إكسبريس" والتي ترفع علم دولة "بنما" والمملوكة لشركة "سما تورز" للملاحة بحقل للشعاب المرجانية على مسافة بضعة كيلومترات من ميناء سفاجا البحري وانشطرت إلي نصفين وغرقت وسط صياح من عليها من ركاب رغم محاولاتهم المستميتة للنجاة وسط الأمواج العاتية، أولي عمليات الإنقاذ بدأت في الساعة الثامنة صباح اليوم التالي، أي أن الركاب ظلوا في درجة حرارة مياه تصل إلي خمس درجات مئوية ليلا، تركوا أكثر من تسع ساعات كاملة معرضين للمياه الباردة والرياح العاتية مع عدم وجود أدوات إنقاذ (العبارة لم يتم إخلاؤها بالطريقة الطبيعية بنزول القوارب لكنها أحتكت بالشعاب المرجانية وتدفقت المياه داخلها ثم غرقت في أقل من ربع ساعة)، وكانت العبارة تحمل 624 راكباً، وحتى اليوم الخامس للكارثة كان المشهد الحزين يخيم على مدينة سفاجا وأكثر من 300 جثة تقبع داخل العبارة تحت المياه الباردة بين فكي القرش والباراكودا.
............................
قطار الصعيد.. الموت في العيد
تعد حادثة قطار الصعيد التي راح ضحيتها المئات من أبناء الصعيد ممن كانوا في طريق عودتهم لقضاء أجازة العيد مع ذويهم، الأسوأ من نوعها في تاريخ السكك الحديدية المصرية أي منذ أكثر من مئة وخمسين عاما. كان القطار رقم ‏832‏ المتوجه من القاهرة إلي أسوان‏، قد اندلعت النيران في إحدى عرباته الساعة في الثانية من صباح يوم 20 فبراير 2002 ، عقب مغادرته مدينة العياط عند قرية ميت القائد‏، وقال الناجون أنهم شاهدوا دخانا كثيفا ينبعث من العربة الأخيرة للقطار، ثم اندلعت النيران بها وامتدت بسرعة إلي باقي العربات الأخيرة‏، والتي كانت مكدسة بالركاب المسافرين لقضاء عطلة عيد الأضحى في مراكزهم وقراهم في الصعيد، وقام بعض الركاب بكسر النوافذ الزجاجية، وألقوا بأنفسهم خارج القطار‏ـ‏ مما تسبب في مصرعهم أو غرقهم في ترعة الإبراهيمية‏.‏ وقام قائد القطار بفصل العربات السبع الأمامية عن العربات المحترقة وواصل طريقه.
........................................
العبارة السلام 98.. الموت غرقا وحرقا واختفاء
عبارة السلام 98 هي عبارة تابعة لشركة السلام للنقل البحري، غرقت في 13 فبراير 2006 في البحر الأحمر، وهي في طريقها من ضبا المدينة السعودية العائدة من منطقة تبوك إلى سفاجا، راح ضحيتها أكثر من 1400 شخص، معظمهم من الصعيد ممن كانوا يعملون في السعودية، واشارت التقارير الأولية عن بعض الناجين من الحادثة إلى ان حريقا نشب في غرفة محرك السفينة وانتشر اللهيب بسرعة فائقة . وقال العديد من الركاب أن القبطان كان أول من غادر العبارة وأنهم شاهدوه يغادر العبارة على متن قارب صغير مع بعض معاونيه. وقد هرب وترك سفينتة والركاب مستخدما قارب صغير يسع ثلاثين شخص لوحده، وتم تداول القضية على مدى 21 جلسة طوال عامين، وتم الحكم في قضية العبارة في يوم الاحد الموافق 27 يوليو 2008، في جلسة استغرقت 15 دقيقة فقط تم تبرئة جميع المتهمين وعلى رأسهم ممدوح إسماعيل مالك العبارة ونجله عمرو الهاربان بلندن، قبل أن يتم الاستئناف.  
....................................
أتوبيس منفلوط.. الأطفال أحباب الله والموت
في صباح 17 نوفمبر 2012 استيقظ المصريون على خبر وفاة 40 طفلا في الحضانة والتعليم الابتدائي، بينهم 4 أشقاء، و3 أشقاء، كانوا في طريقهم لمدرستهم، البداية كانت مع قدوم القطار رقم 165 من أسيوط إلى القاهرة، وأمام مزلقان قرية المندرة، وحسب المعاينات الأولية، وشهود العيان نتيجة عدم وجود عامل المزلقان ويدعي سيد عبده رضوان قام سائق الاتوبيس ويدعي علي حسانين عبدالحميد بمحاولة تخطي المزلقان فاصطدم بالقطار مما نتج عنه مصرع 50 طالبا من بينهم سائق الاتوبيس ومدرستين مرافقتين وإصابة 15 آخرين.

27‏/10‏/2012

ماتريكس أم ترومان شو؟


لو تم تخيير ترومان بيرنابك، بين العالم المصطنع الذي يعيش فيه، وبين العالم الحقيقي، ماذا كان سيختار؟. الإجابة التي لا أريدها منك الآن، تشبه الإجابة عن سؤال آخر، عن الفارق بين حلم / كابوس، نحياه بالرغم منا، لكننا نعرف أننا سنستيقظ في نهايته، وبين حلم صنعناه بأنفسنا ونجاهد لنصل إلى نهايته.

اللجوء إذن، إلى فرضية أن ما نحياه كابوسا قد نستيقظ منه بعد قليل، فقط تأخر الاستيقاظ قليلا، ليست إلا بوابة للخروج من مواجهة الواقع، لكن هذه البوابة تتقاطع من جهة أخرى، مع الانتقام من الأعداء الواقعيين، باللجوء إلى قتالهم، وهزيمتهم، والتنكيل بهم، في أحلام اليقظة ليس أكثر، وليس بالضرورة أن يكون هذا دليلا على الضعف، بقدر ما هو دليل على تغير منظومة القيم، التي تجعل الإنسان السوبر مان يلجأ إلى العنف الخيالي، في عالم متسامح بطبيعته.

النوم هو بداية الحلم، لكن الموت هو نهاية الحياة، لكن الأنظمة القمعية تفضل الموتى الأحياء على طريقة فيلم ماتريكس، حين يصبح البشر مجرد بطاريات، ومن هنا فالثورة تبدو كلمة مستعصية على الفهم في عالم لا يحلم، بل يرى أن النوم موت، ويتحول فيه الموتى إلى أرقام بلا تقدير حقيقي لقيمة الإنسان الذي يموت في عبارة أو تحت صخرة جبلية، أو حتى دهسا بالمدرعات.

لم يكن فيلم  ترومان شوThe Truman Show ، للمخرج بيتر وير، والفنان جيم كاري، إذن يطرح فرضا خياليا، بل هو الواقع، الذي نلجأ إليه لنهرب من كابوس نحياه يوميا، لكن يبدو السؤال الأهم هنا، ماذا لو لم تكن الحياة "ترومان شو"، بل كانت ما طرحه فيلم  ماتريكس The Matrix للمخرجين اندي واكوسكي ولاري واكوسكي، حين يكتشف الجميع أنه مخدوع عن طريق برنامج تديره الآلة؟

الخداع هنا هو الحيلة التي نلجأ إليها جميعا، للخروج من حمى قهر الواقع، تماما كما نهرب من كابوسية الاستيقاظ، إلى حائط النوم، بحثا عن أحلام تربّت علينا، حتى لو كانت هذه الأحلام ليست أكثر من انعكاس للواقع اليومي البائس.

إذا كانت السينما، رفضت فكرة صنع عالم من الحلم، المزيف، لماذا إذن كانت العوالم الافتراضية، الحالمة في جزء كبير منها، مثل فيس بوك وتويتر، هي المهرب للكثيرين، حيث يقدم كل شخص وجها مختلفا عنه، وشخصية أخرى لا تشبهه، لكنه في الغالب كان يطمح أن يكونها، وإذا كان يرغب في ذلك، فلماذا لم يكنها بالفعل؟

في ترومان شو، يكتشف جيم كاري، أنه مجرد فأر تجارب، في عالم مصنوع بالكامل، وأن كل من حوله ممثلون، في عالم يؤدي كل من فيه دوره بإتقان شديد، وأنه ليس أكثر من ممثل في أحد برامج "عالم الواقع"، وأن هناك من يتفرج عليه، وعلى زوجته، وعلى عمله، وأن كل ما يحدث ليس إلا جزءا من عالم افتراضي، في ماتريكس يثور البشر على برنامج الآلة، بحثا عن عالم أكثر واقعية، وتحقيقا للذات؟.

البحث عن الخالق، عن الحقيقة المطلقة، وراء هذا الوهم العظيم الذي نحياه، عمن يقف خلف الذين يحركون البشر، والمصائر كعرائس الماريونيت، وهو ربما تشبه ما تعيشه مصر منذ انطلاق الثورة، وحتى الآن، حيث نفاجأ كل يوم بمصائر الأحياء تتغير، وكأنه مسرح، يغير فيه المخرج الأبطال والممثلين، في مشاهد دراماتيكية، لا يصدقها المشاهد.

الكتابة تصنع هذا في جزء منها، تتجاوز ما قبل به الذين يعرفون أنهم جزءا من تمثيلية، للتعرف على ما وراء ذلك، هل الكتابة إذن هي محاولة للتصالح مع الذات، أم مع الخالق، أم مع العالم المحيط، أم صنع عالم جديد، يخص الكاتب الوحيد. الإجابة أنها كل ذلك.

الكتابة ثورة، وربما تكون الملاحظة الأساسية، أننا أصبحنا نمتلك القدرة على الحلم بعد 25 يناير 2011، بالنسبة لي لم أكن أتذكر أحلامي قبل اندلاع الثورة، كنت أراها تهاويم، ملامح سوداء ورمادية متداخلة لا أتذكر منها شيئا بعد أن أستيقظ. بعد الثورة أصبحت الأحلام واضحة تماما، ملونة، حتى لو كان العلماء يقولون غير ذلك، أتذكرها جيدا بعد الاستيقاظ.

ماتريكس، هو عالم افتراضي سلطوي، عندما قامت الآلات ببناء كمبيوتر ضخم جداً وربطت الأجنة البشرية الموجودة بالحقول بهذا الكمبيوتر للاستفادة من البشر كمصدر بديل للطاقة، وعاشت الأجنة البشرية وكبرت، ضمن حاضنات خاصة وتم السيطرة عليها عبر ربط برنامج تفاعلي للبشر يرسم الخطوط العريضة للحياة كما هي الآن مع إمكانية تعديل العقول الموجودة في الحاضنات لهذا البرنامج التفاعلي. يطرح الأخوان واكووسكي في الفيلم عددا من الأسئلة العميقة والفلسفية حول عبودية الإنسان، وتحرره، وارتباطه بعالم تحت السيطرة الآلية، لا يمكن الثورة فيه، لأنك ترس في آلة، إن صدئت  فهناك الكثير من التروس غيرك.  

في فيلم ترومان شو، يسأل الابن ترومان، والده، أو المتحكم فيه، لماذا حبستني في العالم الوهمي منذ طفولتي حتى بلوغي؟ فيرد والده أنه لا يريد من ابنه أن يذوق طعم الألم في العالم الحقيقي، إلا أن ترومان لم يجد المنطق في كلام والده، لأن هذا هو المنطق الذي يتكلم به كل قاتلي الأحلام، وكل الأنظمة القمعية، لذا يسعى كاري إلى بلوغ النقطة الفاصلة بين العالمين، عالمه الحقيقي الذي يحلم به، والعالم القمعي الذي يحبسه فيه والده، في منطقة قرب السماء، وهو الأمر الذي يشبه تماما، ذلك المشهد الأسطوري لميدان التحرير مساء 11 فبراير 2011، في السادسة وخمس دقائق بالضبط، عندما صرخ الشعب المصري صرخة واحدة عملاقة، سمع صداها العالم كله، فرحة بنجاح ثورته، وتحقق حلمه بالانعتاق، من العالم الوهمي الذي صنعه النظام السابق، وبتكسير كل حواجز الخوف والقفز إلى مساحة جديدة من الألوان، تشبه تلك الألوان التي استخدمها كيروساوا في فيلمه "أحلام".

الثورة مرتبطة بشكل أو بآخر بالحلم، لأنها تأتي في الأساس على من افتقدوا الخيال السياسي، والقدرة على الحلم بالواقع الأفضل. الثائرون حالمون بطبيعتهم، ومن هنا يمكن القول أن هذا بعض ما يقوله فيلم الحالمون the dreamers للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي، الذي يتمرد على كوابيس الماضي من أجل أحلام المستقبل،ومن أجل تحويل هذه الأحلام إلى واقع. الفيلم يتحدث عن واقع مشابه لما نعيشه، وهو  ربيع باريس عام‏1968,‏ حين حدثت ثورة الشباب علي إغلاق جامعة السوربون والمطالبة بتعديل النظم الجامعية‏..‏ ثم تطورت الأمور بانضمام العمال للطلبة وحدثت اشتباكات عنيفة بينهم وبين البوليس‏..‏ واعتصم الطلبة في السوربون ومسرح الأوديون وتحولت إلى أضخم ثورة شعبية شهدتها فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، وأدت إلى إصابة فرنسا كلها بالشلل التام حين عمت الإضرابات كل الخدمات العامة وارتفعت أصوات تطالب باستقالة شارل ديجول، وبغض النظر عن نتيجة هذه الثورة، إلا أن الحالمون بالتغيير كانوا هم من قادوها، ونقلوا حلمهم إلى واقع بدأ بتكسير التابوهات التاريخية.

لكن إذا كان برتولوتشي استطاع رصد تحول الحلم السياسي إلى واقع، فإن المخرج الياباني الكبير اكيرو كيروساوا استطاع أن يحول أحلامه إلى واقع، إلى شريط سينما، بل استطاع أن يحول أحلام الآخرين إلى واقع حينما استوحى لوحة حقول القمح والغربان للفنان فان جوخ في فيلمه أحلام dreams، والذي يروي فيه ثمانية من أحلامه الحقيقة، بدأها منذ كان طفلا، وحتى صار شابا.

الفيلم الذي يرصد مخاوف الفنان الميتافيزيقية، ربما كان حلما للفن بأكمله بتحويل الحلم إلى واقع، وهو ما جعل أربعة مخرجين كبار يشتركون فيه، كيروساوا (صاحب الأفلام)، وستيفان سبيلبرج المنتج، وجورج لوكاس منفذ المؤثرات الخاصة، ومارتن سكورسيزي الذي لعب دور فان جوخ في أحد الأحلام، ويروي كيروساوا أن سبب الفيلم هو أن تذكر نصاً لديستويفسكي يقول فيه: "إن الأحلام هي أفكار عميقة مخبأة في القلب، وتخرج خلال النوم في جرأة وعبقرية"، ومن مبرراته أيضا "الأحلام تعبير حسي عن الرغبة التي تخفيها في الأعماق، وفي لحظة شعرت برغبة جارفة في تسجيل أحلامي على الورق، بالضبط كنت أحس بفراغ كبير، بدأت أنهض صباحاً وأسجل بانتظام أحلام الليل، بعد عدة ساعات أعطيت ابني وفريق التصوير ما سجلته ونصحوني أن أخرج منها فيلماً، هكذا دون أن ألاحظ أن الذي كان في البداية أفكار أقرب إلى البحث العلمي أصبح سيناريو فيلم".

يذكر هذا أيضا بما فعله نجيب محفوظ في آخر أيامه، عندما كان يلجأ إلى تسجيل أحلامه في نصوص سردية بالغة العمق، في "أحلام فترة النقاهة"، لكن الأمر في فيلم كيروساوا، ومجموعة محفوظ، يتجاوز فكرة تسجيل الحلم، إلى اصطياد الرؤية.

إذا كنا ندين للثورة بأنها كسرت حاجز الخوف والصمت داخلنا، فإننا ندين لها بأنها أعادت إلينا أحلامها، ربما تروح الأحلام وتجيء حسب الدراما التي تعيشها، لكن الحلم أصبح واقعا، وأصبح ممكنا، بالرغم من المخاوف من شبح الدولة الدينية والبوليسية العسكرية.

لا أحد يمكنه قمع الحلم، فقط يبقى على الحلم أن يدفعنا إلى الأمام، أن نصبح أكثر تصالحا مع أنفسنا، وتصبح شخصيتنا واحدة، تتماس وتمتزج، الشخصية التي في الحلم هي الشخصية التي في الواقع، هي الشخصية التي على الفيس بوك وتويتر، لحظتها، لحظتها سيصبح الحلم واقعا، ونحطم عالم ماتريكس، ونخرج من رداء ترومان شو.

10‏/10‏/2012

هكذا تلعب سحر عبد الله بالألوان


بحسب بول كلي، في كتابه "نظرية التشكيل"، فالفن لا يكرر الأشياء التي نراها، ولكنه يجعلها مرئية"، وفي كتابها الجديد "حكايات فنون"، ومعرضها الذي حمل نفس الاسم، تعيد الفنانة سحر عبد الله صياغة عالم الطفل، والأشياء من حوله، كما تعيد تشكيل الأشياء المعتادة لتقدم عالما ملموسا، مختلفا عن الواقع في آن.
فالكتاب الذي يقدم أربع حكايات، تعرف الطفل على عالم الفن التشكيلي، يؤكد هذا المعنى في الحكاية الأخيرة "كل هذه القطط"، حيث يبدو مطلوبا من "فنون" بطل القصة أن يرسم "قطة" مختلفة عن تلك التي رسمها من قبل تحية حليم، وزينب السجيني، وجاذبية سري، وحامد ندا، ورباب نمر، ليدرك الطفل أنه لا يكرر الأشياء من حوله، ولا الأشياء المرسومة، حتى لو كانت لنفس الشيء، وإنما يرسم بأسلوبه الخاص والمختلف، ومن هنا تأتي نصيحة السطر الأخير "ارسم دوما لا تتوقف أبدا".
خلق عالم يخص الطفل، وتعليمه أن بإمكانه أن يكون مختلفا بألوانه، وبرؤيته، تبدو هذه هي الرسالة الأولى للكتاب الصادر أخيرا عن دار إلياس، والذي تأخذ فيه سحر عبد الله، الأطفال في جولة في عالم الفن التشكيلي، لكي يتعرفوا على عدد من أبرز الفنانين التشكيليين، وطرقهم المختلفة في الرسم، وهو ما يقرب عالم الفن التشكيلي والألوان من الطفل، ويساعده على خلق حاسة تذوق الفن لديه، وهو ما يذكرنا أيضا بما قاله بول كلي من أن الفن يشبه الخلق، عملية مستمرة لتحرير العناصر وإعادة تجميعها في تفريغات تابعة، فالفن يلعب بالأشياء النهائية، لعبة بلا معرفة ولكنه يمسك بها.
في معرضها، وكتابها الأخير "حكايات فنون"، تقدم سحر عبد الله، تجربة جديدة على عالم الأطفال، وهي تعليم الأطفال أساسيات الفن التشكيلي، عبر اختيارها أربعة من رسامي الاطفال هم "حلمي التوني"، وجورج البهجوري"، و"عدلي رزق الله"، فضلا عن الفنان الأمريكي آندي وورل، ولا يبدو اختيارها لهؤلاء الفنانين الأربعة ارتجاليا، ففي مهمتها لتعليم الأطفال قواعد الفن التشكيلي، تبدو مشغولة بتعليمهم الفنيات والتقنيات المختلفة، فتختار عدلي رزق الله لأنه "ملك الألوان المائية"، كما تطلق عليه، وتختار بهجوري لأنه يستخدم فن الكولاج، الذي تستخدمه في لوحاتها أيضا، وتختار التوني، لأنه يستخدم الموتيفات الشعبية، وتختار وورل لأنه يصنع لوحات من أشياء عادية حولنا، وهو ما تطلق عليه فن البوب أو الفن الشعبي الأمريكي، اللافت هنا هو أنه بالتوازي مع تميز أساليب الفنانين الكبار الأربعة في الرسم يبدو تميز أسلوب سحر عبد الله، في استخدامها للكولاج، فضلا عن تميز ألوانها، وشخصياتها، في هذا الكتاب وغيره، وعالمها الطفولي المميز الذي لا يشبه شيئا آخر.
تبدو الإشكالية الاساسية فيما يقدم لعالم الأطفال من كتابة ورسوم الآن في عالمنا العربي، أن معظم ما يقدم لا يهتم بالبنية الأساسية لعالم الأطفال، فضلا عن حالة من الاستسهال تسبغ ما يتم تقديمه بنكهة تجارية، غير أن سحر عبد الله  تبدو مهمومة فيما تقدمه ببناء عالم للأطفال، عبر شخصياتها، التي تغوص في هذا العالم، فتقدم أطفالا يشبهون الأطفال، وقمرا يطيرون نحوه كالذي يلوح في خيالهم، وفراشات مثل التي يحلمون أن يطاردونها، وبيوتا كالتي يرسمونها في كراريسهم، تقدم عالما طفوليا حقيقا، كأن من رسمه طفلة لم تغادر عالم الطفولة، وتعلم كل تفاصيله، غير أنها تتقن لعبة الألوان جيدا.
تقدم سحر عبد الله في لوحاتها من يمكن اعتباره "فنا تشكيليا للأطفال"، فعلى الرغم مما أشرت إليه من تعامل الكثيرين مع هذا الأمر بشكل تجاري بحت، إلا أن سحر تتعامل مع رسومها للأطفال، حتى لو كانت ستنشر في جريدة أو مجلة، وكأنها تقدم عملا تشكيليا كبيرا،  فتعتمد على أسلوب الكولاج، وهو ما سيلاحظه زائر المعرض، لكن قد لا يلحظه قارئ الكتاب أو المجلة، وهي في ذلك، تؤكد على اهتمامها الزائد بتقديم عمل مختلف، حقيقي،  وهو ما يجعلنا ننظر إلى كل عمل مقدم باعتباره لوحة مستقلة مع النص المصاحب.
تهتم سحر عبد الله في مشروعها الجديد، المكون من كتاب ومعرض وورش رسم، بتعليم الأجيال الجديدة ثقافة الصورة، وتثقيف العيون تشكيليا، وهي بهذا تستند إلى ما عرف به جودنف الثقافة من أنها "صور الأشياء في عقول البشر وأنماطهم في إدراك هذه الأشياء وعلاقتهم بها"، حيث تغيب في مجتمعاتنا تربية أذواقنا على ثقافة اللون، والشكل، والصورة، لكن سحر تبدو حريصة في مشروعها الفني على تربية الذوق الفني، وتذوق الصورة، وهو المشروع يمكننا اعتباره قد بدأ منذ كتابها الأول الصادر عام 2006، حيث تبدو حريصة على تربية العين فنيا، وتنمية الخيال، وحث الطفل على طرح عشرات الأسئلة التي تطل من لوحاتها.
المتابع لأعمال سحر عبد الله منذ معرضها الأول قبل ثلاث سنوات في ساقية الصاوي وانتهاء بالمعرض والكتاب الأخير، يلاحظ  تطورا، بل قفزات نوعية في استخدامها لتقنيات الرسم واختيار الألوان، فاللوحات التي لا زالت تتسم بنفس روح الطفلة التي ترسم كما كان موجودا في اللوحات الأولى، نجد أن وعي الفنانة تجاوز الطفلة التي ترسم عالمها بألوانها، لتقدم في الأعمال الجديدة، روح الطفلة، ووعي الفنانة التي تعرف كيف تختار ألوانها، وكيف توجه الطفل، وتعرف ماذا تقول له، وكيف سيستجيب لها؟.
ألوان قوس قزح، هي مزج لوني لا تنتمي إلى عالم مفارق لنا، ولا تنتمي إلى عالمنا بالكامل، غير أن الألوان السبعة تبدو هي الأكثر وضوحا في عالم سحر عبد الله اللوني، ربما لرغبتها في الوصول إلى عالم قوس قزح، الذي يربض ما بين الواقع والخيال، حيث تحاول أن تصل مع كل لون فيه إلى قوته اللونية التي تناسب عالم الأطفال الذي تتعامل معه، معتمدة على أن التعبير اللوني الصريح الذي يجذب عين الطفل.
تفهم سحر عبد الله لغة الألوان جيدا، تماما كما تفهم عالم الأطفال، لذا فهي تختار ألوانها في الكتاب الجديد بعناية، فيبدو فنون واقفا، وهو يمسك فرشاته في يده كأنها سلاحه لتجميل العالم وجعله أفضل، كما تفهم سحر لغة الخيال، تماما كما عرفه  الشاعر الفرنسي أندريه بريتون بأنه، "الخيال وحده هو الذي يجعلني واعيا بالممكن، وبالنسبة لي يكون كافيا أيضا أن أستسلم للخيال"، فالخيال الموجود في لوحات سحر عبد الله هو خيال الطفل، الخيال الجامح الذي لا يحده الواقع، ولا فن الممكن
"عندما أقف أمام حامل اللوحة أشعر بأنني حي"، هكذا قال فان جوخ يوما، بعد أن وصفوه بأنه أعاد اكتشاف الشمس، وفي لوحاتها الجديدة تنقل سحر عبد الله الحياة إلى اللوحات أمامها، فيرى فيها كل طفل ذاته، تعيد اكتشاف الألوان، وتفاصيل عالم الطفل، لتقدمها له كما يحب وكما تنمي مداركه ووعيه ومعرفته، كما تفعل في مشروع "حكايات فنون"، كما تدرك أنها في مهمة صعبة لتغيير قبح العالم، وتعليم الأطفال كيف يرون الحياة أجمل.
ترسم سحر عبد الله ما تحب، وما يحب الأطفال أن يروه، وما تدرك أنه لا أحد يعرفه سواها، تملك شفرة عالم الأطفال وابتساماتهم، تبدو أعمالها كأنها قطعة من روحها، تبدو شخوصها كأنها انعكاس لبهجتها، ترسم بجدية، وبطفولة،  تختزن في أعمالها خبرات ثقافية متعددة، لمدارس الفن التشكيلي المتنوعة، لوعيها الخاص، وإدراكها الخاص معنى اللون وأهميته، تدرك  سحر عبد الله أن الفن يمكن أن يجعل الأجيال القادمة أفضل، تعرف أن الفن يمكن أن يغير العالم، وهي تسعى إلى ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــ
* نشر في جريدة القاهرة

30‏/08‏/2012

في 'أثر النبي' لمحمد أبو زيد: متخيل الأزمة وأفق التغيير



د.محمد المسعودي*
(1)
توصلت برواية 'أثر النبي' من الصديق الشاعر والروائي محمد أبو زيد و'الثورة المصرية' في بداية عنفوانها: يوم 1-2-2011. قرأتها في يومين متتاليين أثناء متابعتي المتواصلة لأحداث مصر، فكانت هذه القراءة من وحي هذه الوقائع، وبإيعاز من أجواء الرواية التي لا تبتعد كثيرا عن معالجة واقع الإنسان المصري والعربي خلال المرحلة الراهنة تخييليا.
ومحمد أبو زيد نموذج للشباب المصري المثقف الذي آمن بالتغيير كتابة وحياة، وبشر به في أعماله الشعرية التي حملت بذور الرفض والتمرد والحلم بآفاق ممكنة للحرية والكرامة والعدالة وقيم الخير والسلام. ونظرا إلى أن الروائي خرج من صلب الشاعر، ونظرا إلى العناية بالسرد التي لابست قصائد الشاعر منذ البداية كان لا بد أن نشير إلى تماهي الجنسين في كتابة محمد أبو زيد. ولعل هذا الامتزاج هو الذي أغرانا بالانطلاق من بعض نصوصه الشعرية لنقف من خلالها على خصائص متخيله الفني - الذي رصد أزمات المجتمع واستشرف التغيير- والكشف عن أبعادها الجمالية، قبل الخوض في روايته الأولى 'أثر النبي' للوقوف عند تجليات متخيل الأزمة فيها ومدى استشرافها للتغيير الممكن.
(2)
في ديوان 'قوم جلوس حولهم ماء' (دار شرقيات، 2006) نلفي صور الأزمة ضاربة بعمق في تربة المتخيل الشعري عند الشاعر، بحيث تستقصي كل مظاهر الاختلال وانعدام التوازن في شعرية شفيفة وجارحة. إننا أمام نصوص تقول الكائن وتبشر بالممكن في لمحات فنية دالة، وتعبر عن رغبة ملحاحة في الانعتاق من القيود وضيق أفق الحياة. يقول في مقاطع من نصه 'حتى يرتاح الأشرار' :
'7'    
'الوطن أقسى من الموت يا ميرفت'
ليس هذا ما أريد قوله
منذ زمن طويل وأنا أعرف ماذا أريد
الموسيقى مصلوبة على جدران البيت
رأسها مطأطئ
والدموع تصعد إلى عينيها
وسعاد حسني في 'الكرنك'
رفعت عينيها مستنجدة بالموسيقى
ولم ينقذها أحد
رفعت يديها فأغلقنا التلفاز.
8
الذين أحببناهم
لا يشاهدوننا في مراياهم
والذين أحبونا
غنينا لهم
'يا مسافر وحدك
وفايتني'
رغم أنهم
لا يحبون عبد الوهاب.
9
لا داعي لأن تكرري: نحن إخوة
نحن كذلك بالفعل
أما الحب
فهناك أكثر من طريقة للتخلص منه:
1 ـ المشنقة
2 ـ مصادقة الأشرار
3 ـ إغلاق الأبواب
4 ـ هذه القصيدة
10
افتحوا الباب
لقد اختنقت'(ص.41-44)
تجسد هذه القصيدة بإشاراتها المكثفة واقع الحال الذي انعدم فيه الحب وانتكست المشاعر والقيم الإنسانية حتى العدم. وينص الشاعر على أن ما يربط الإنسان بالحياة والتجديد يشهد حالة من الرثاثة والقهر: الموسيقى باعتبارها مصدرا للبهجة والفرح صارت مصلوبة تبكي حزينة، وكذلك حال الفن بما يحمله من قيم التغيير والتحول (الإشارة واضحة من خلال فيلم الكرنك وسعاد حسني). ويصور الشاعر مصير الحب باعتباره أسمى مشاعر الإنسان في ظل ظروف مختلة: الشنق- السقوط في يد الأشرار- الخنق عليه وحصره- البكاء عليه شعرا. ولذلك يصرخ الشاعر في المقطع الأخير من القصيدة طالبا فتح باب الحرية حتى يتحرر من اختناقه، ومن قهره، ومن موت حبه في ظل شروط غير إنسانية. وبهذه الشاكلة يجمع الشاعر في متخيله بين تصوير مفردات الأزمة وتمظهراتها وبين الإفصاح عن رغبة الانعتاق والتحرر في نبرة شعرية تجمع بين التلميح والتصريح.
وهذه النغمة الرافضة المنتقدة للحال والأحوال نلقاها في ديوان 'طاعون يضع ساقا فوق الأخرى وينظر للسماء' (دار شرقيات، 2008) منذ عنوانه الذي يشخص الطاعون، طاعون القهر وانعدام الحرية، في شكل إنسان لامبال يجلس على كرسيه متطلعا إلى عوالم خاصة به ساهيا عن الدمار الذي يحدثه. أليس هذا العنوان تلخيصا شعريا شفيفا لفوبيا نظام طاعوني يجثم على صدر مصر وأهلها؟
يقول الشاعر في قصيدة 'فضيلة النوم':
' في النوم
الحياة أبيض وأسود
أحتمي بحيادي وأفتح فمي
تاركا الصوت يخرج في أجولة مفتوحة

في النوم
أهرب من طاعون
يحبو على الأرض
طاعون في طرقات المستشفى
طاعون في العناية المركزة
في السوق
في الحافلة
في استراحات المسافرين
في حقائب الديناصورات الصغيرة

في النوم
أضع للقساة النمل في آذانهم
أخفض صوت الرعد
حتى لا يقلق جدي في غفوته
أقابل أصدقائي الموتى في الحانة
وأستعيد البحر
الذي سرقوه مني
في غفوتي السابقة'(ص.78-79(
أمام استشراء الطاعون لا يجد الشاعر من مفر سوى الحلم والرغبة في استعادة صوته المقموع وفتح أجولة احتجاجه عن آخرها أثناء إغفائه. وفي الحلم أيضا ينتقم من الأشرار ويذود الأذى عن الأحباب ويقابل الأصدقاء الموتى في المكان الذي يحب ويرضى، كما أنه يستعيد في أحلامه البحر الذي سُرق منه. بهذه الشاكلة يعبر الشاعر عن ارتباطه بالتغيير ولجوئه إلى التخييل قصد بناء رؤياه لحاضره وآتيه. ولعل تشخيص ما يحيط به بهذه اللغة الشعرية الموحية هو ما جعله يكتب نصه الروائي الأول بهذه الروح الرؤيوية التي تقف عند الكائن وتستشرف الآتي.
(3)
إن الطقس الجنائزي والبناء الدرامي المتصاعد يبدأ من الفصل الأول في رواية 'أثر النبي' (دار شرقيات، 2010)، وهو الفصل الذي يعلن فيه السارد موت 'عادل هياكل' أحد الشخصيات المحورية في الرواية لتترى الأحداث ما بين الفصل الأول والأخير من النص في إيقاع سردي منساب يذهب بالمتلقي إلى أماكن عدة، وإلى حيوات شخصيات متنوعة لها صلة ببطل الرواية (الطالب الأزهري). حيوات تتقاطع فيها لحظات تراجيدية بأخرى كوميدية ساخرة. وعبر هذا البناء السردي المتوتر والمتشابك يستطيع السارد حبك عوالمه السردية المميزة. إن أول ما يطالع القارئ في الفصل الأول:'الدم'، هذا التركيب الجامع بين المأساة والملهاة:
' حلاق الجمعية الشرعية
ممنوع حلق اللحية'.
أتحسس الكلمات المكتوبة على الحائط بخط يحاول أن يبدو نسخا، أخطو أولى درجات السلم المظلم، قلبي يدق في عنف، مدركا أن عادل هياكل في الطابق العلوي يصارع الموت، أن الشرطة من الممكن أن تداهم المبنى في أية لحظة، أن عم رجب سيلقيني وحقيبتي من أعلى إلى الشارع، أنه لا أحد هنا، فقط: أنا.. وعادل.. ولافتة الحلاق الأعشى..'(الرواية، ص.11)
بهذا السرد المتوتر المنساب نجد أنفسنا في صلب حكاية عادل هياكل والطالب الأزهري الخائف من الشرطة ومن طرده من شقة الطلبة، وبهذا المفتتح نرى السخرية تقترن بالمأساة منذ البداية، وهي اللمحة السردية التي شكلت الرواية من خلالها رؤيتها إلى الواقع وتناقضاته، ومن خلالها بنت واقعها الفني المتخيل. وما بين هذه الافتتاحية التي تبدأ بالإعلان عن موت عادل هياكل غارقا في دمه وقيئه، وما بين الفصل الأخير في الرواية الذي يعود إلى نفس الحدث تتخذ الرواية البنية الدائرية في عرض الوقائع والتفاصيل والجزئيات التي تشكل متخيلها السردي. وعبر أحداث الرواية نجد أن محكيها المحوري يركز على حيوات شخصيات تتفاعل في سياق دار الطلبة التابع لحركة سياسية/دينية هي جماعة الإخوان المسلمين، وحيوات شخصيات أخرى تتقاطع معها في الزمان وتبتعد عنها في المكان، لكن تأثيرها حاضر عبر عملية الاسترجاع والتذكر (أم البطل، الجدة، الجد، الأب، وزوجة الأب)، أو عبر مناجاتها وتوجيه الخطاب إليها (زينب). إننا أمام قصص الشيخ سيد والقذافي وأبو العزايم ويوسف ومحمد خليل وحمدي وحجازي والبواب عم رجب وهشام وأدهم وعائشة، وشخصيات أخرى عديدة يتفاعل معها السارد، ولها حضور في حياته ووجدانه وفكره، وعبر حكاياها تتحدد القسمات الكبرى لمتن الرواية، وعبر تشابك مصائرها بمصير السارد وبما يجري في الحياة تتحدد علامات الأزمة التي تصورها الرواية، كما تتجلى لمحات من أفق التغيير الذي تنشده تلك الشخصيات ويتطلع إليه البطل/السارد.
نجد أغلب شخصيات هذه الرواية تتطلع إلى الهجرة خارج مصر، ولعل هاجس الهجرة كان أفقا للحلم والتخلص من وطأة الواقع المظلم وقهره. كما أن السارد يراوده، في يقظته ومنامه على السواء، الحلم بالطيران والتحليق أعلى، وهو الحلم الذي حقق بعضه في لحظة وجد صوفي نادر عندما شارك في حضرة صوفية أقامها أحد أصدقاء الشيخ سيد رفيقه في السكن، وهو شعور أحس به من قبل في حفل ذكر أحياه والده في البيت حينما أصيب بحالة كآبة عويصة إثر موت والدته، لكن حلمه بالطيران وحلم جميع أصدقائه بالهجرة وتغيير ظروف حياتهم ظل أسير قيود سياسية واجتماعية لم تفرج عنه أبدا.
ولعل الشدة ومعاناة القسوة والظروف الصعبة هي التي جعلت شخصية السارد والشخصيات الأخرى تنحو نحو الرفض والتمرد والسخرية بطرقها الخاصة التي يسردها الكاتب في براعة وإحكام، وخاصة الوقائع التي تدور في دار الطلبة، أو من خلال رسائل هشام... وقد كانت الرغبة في الخلاص من العزلة والوحدة، والرغبة في إرضاء الصديق القريب من النفس هي التي دفعت البطل إلى الاستئناس بأدبيات جماعة الإخوان، من جهة، ومن جهة ثانية، قبول الالتحاق ببيت طلبة الغورية حيث سيجد مهربا من عزلته ووحدته. وهكذا نرى أن بذرة التغيير انبثقت في وجدان شخصية السارد استنادا إلى أمرين:
-حب الآخر والعمل على إرضائه حفظا لأواصر الصداقة.
-الرغبة في الخلاص من واقعه الفردي المأزوم.
ولم يكن السارد يدرك حينها أنه سينخرط، بذلك، في واقع أشد إيلاما وأزمة سيجعله يتجاوز التركيز على معاناته النفسية الفردية، ليصبح الإحساس بالخوف والشعور بالمهانة والخشية من المصير المظلم المجهول أساس حياة يشترك فيها مع رفقاء سكنه من الطلبة ومع الشخصيات الأخرى التي عرفها وشكلت جزءا من كينونته ووجدانه. وقد ارتبطت هذه المعاناة بجو عام من القهر والإحساس بانسداد الأفق يصل إلى ذروته مع سقوط بغداد في يد الأمريكان في أبريل سنة 2003، بحيث يعلن محمد خليل أنه السقوط الأخير للعرب الذي لن تنهض لهم بعده قائمة. ووسط هذا الجو يركز السارد على تصوير وقائع تتصل بردود فعل الناس وطلبة الأزهر، وردود فعل من داخل مسكن الطلبة ذاته، كما يركز على تصوير إحباطه وتيهه، وتعرضه إلى الطرد من المسكن بعدما اكتشف الأستاذ أحمد اهتمامه بالسياسة، وهو الأمر الذي يقتضي نظام البيت أن لا يشتغل به الطلبة، وأن لا تحمل حقائبهم ومحتويات كتبهم ما يدل عليه. وتنتهي الرواية بمشهد دال يمتزج فيه صوت جمال عبد الناصر يعلن استقالته وتنحيه إثر هزيمة يونيو 1967، وصورة محسنة توفيق وهي تهرول صارخة 'هنحارب..هنحارب'، مع هرولة البطل في شوارع ضيقة تزداد ضيقا، وهو يحمل حقيبته الثقيلة التي تمزق كتفه، والدموع تسيل من عينيه، وكل ما حوله كئيب أسود.
ولعل هذه النهاية التراجيدية التي اختتمت بها الرواية تنبع من صدق تصوير واقع الأزمة وصعوبة الانعتاق من قهر الواقع المتردي سياسيا واجتماعيا، وإذا كان صوت جمال عبد الناصر المنبعث من شاشات تلفزات المقاهي يقر بالخلل السياسي ويعلن الهزيمة، فإن الصوت الثقافي/الفني/العلمي ممثلا في احتجاجات الطلبة ومحسنة توفيق يؤكد الإصرار الشعبي على المواجهة والاستمرار، على الرغم من المشهد الكئيب الذي تختتم به الرواية، وفي ذلك استشراف للمستقبل وتأكيد على الرغبة في التخلص من الأزمة.
(4)
ينتهي قارئ هذه الرواية المكثفة القصيرة إلى أن صاحبها لا يقف عند حدود كشف المستور من وضع المجتمع المختل وإشكالاته العويصة، بل إنه يكشف، أيضا، عن مقدرة فنية/سردية لا تخلو من مكر روائي، ومن قدرة على تحقيق نوع من اللعب الفني الذي يستند إلى طاقات حكائية متنوعة، منها استدعاء الرسالة وتوظيف الخبر الإعلامي وصيغ المنشور السياسي والمحاكاة الساخرة لنقل مباراة كرة قدم... وغيرها من أشكال الخطاب بحيث تصبح هذه العناصر جزءا مكونا للنص الروائي وعوالمه المتخيلة، وعبرها تتشكل رؤيته الرافضة/ الساخرة لما يجري في الواقع الاجتماعي، واستشرافه للآتي من خلال تركيزه على تصوير تحولات المجتمع وصراع جماعة الإخوان مع الأمن المركزي ومعاناة طلبة الأزهر خاصة بما ينبئ عن تفجر الوضع وبداية انتفاضة الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري، وفي المجتمعات العربية، وهي الفئات التي أصرت على المضي قدما نحو تحقيق التغيير والخروج من ظروف الأزمة التي أحكمت قبضتها على الواقع بكل معطياته. ولعل اختيار الإمكانات السردية التي ذكرناها، إلى جانب الميل إلى التكثيف السردي، والدقة في تصوير الأحداث وحالات الشخصية الوجدانية ومواقفها الفكرية، جعلت هذه الرواية الأولى لمحمد أبو زيد تتميز بطاقة شعرية في لغتها ومناحيها التعبيرية في الغالب، مما يؤكد ما أشرنا إليه في بداية هذه القراءة، وهو هذا التماهي بين السردي والشعري في كتابته الشعرية والروائية معا. وإنا ننتظر من الروائي محمد أبو زيد أعمالا سردية أخرى فاتنة ومنخرطة في معالجة اختلالات وضعنا العربي الذي لم يتخلص بعد من أزماته السياسية والاجتماعية والثقافية.. على الرغم من هذه الأحداث التي نشهدها الآن
ــــــــــــــــــــــ
*ناقد مغربي

10‏/08‏/2012

باب الخلق.. مصر بين فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر

في مشهد دراماتيكي يجلس الأمير أبو عبد الله، أو محفوظ زلطة، أو الفنان محمود عبد العزيز، العائد من أفغانستان، مع اثنين من أعضاء الجماعات الإسلامية في مصر، لمحاولة إقناعهما بسماحة الإسلام، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب، والمفارقة هنا أن محفوظ زلطة الذي قضى 20 عاما من عمره بين المجاهدين الأفغان، حتى لو حرص المسلسل على عدم تسميتهم، تنقل فيها ما بين الحرب ضد الاتحاد السوفيتي إلى الحرب ضد  أمريكا، هو الذي يقنع الجماعات المصرية بنبذ الجهاد.
غير أن هذه ليست هي المفارقة الوحيدة في المسلسل، الذي يقدم الشخصيات الجهادية، في أفغانستان بشكل كارتوني، يذكرنا بالأفلام الدينية القادمة، والتي يبدو فيها الكافر كافرا من زيه وماكياجه، حيث يبدو أعضاء تنظيم القاعدة، الذين لم يسمهم أيضا، متجهمين طوال الوقت، يتحدثون العربية الفصحى كأنهم خارجين من فيلم فجر الإسلام والشيماء، دون أية أنسنة أو اقتراب من البناء النفسي للشخصيات، بل تبدو إحدى الشخصيات المحورية، وهي "أبو خليفة"، أقرب إلى البلطجي منها إلى الجهادي الذي يملك مبررات ويرددها كالببغاء، يؤمن بها، تبرر ما يقوم به.
ومن المفارقات المهمة أيضا، الشخصيات التي تدير العملية الأمنية في مصر، والتي لم يذكرها المسلسل صراحة في البداية، فتظن أنها إما المخابرات العامة أو الأمن القومي، ثم يذكر المسلسل بعد عدد من الحلقات أنها جهاز أمن الدولة "المنحل"، والذي يقدمه بصورة أقرب إلى الملائكية للصورة التي نعرفها عنه، والتي تذكرها أدبيات الجماعة الإسلامية في شهادات أعضائها عن التعذيب الذي لاقوه في المعتقلات، وعلى أيدي ضباط هذا الجهاز. أما الشخصيات العاملة في هذا الجهاز فيبدو رئيس الجهاز الأمني (الفنان أحمد فؤاد سليم) أقرب إلى البلاهة، ويبدو الضباط الذي يتعامل ( الفنان أحمد فلوكس) متعاطفا إلى حد كبير مع الأمير أبو عبد الله،  كما أن طريقة تعامل الضباط مع الموقوفين أو المعتقلين تقوم بغسيل سمعة للجهاز، الذي تم حله شعبيا، بسبب المعاملة القاسية التي لاقاها منه كل النشطاء السياسيين فضلا عن المعتقلين من الجماعات الإسلامية والذين فقد الكثير منهم حياتهم داخل الزنازين جراء التعذيب.
من المفارقات المهمة أيضا أن المسلسل لا يميز بين الجماعات الإسلامية الراديكالية في مصر، على اختلاف توجهاتها، وهذه آفة يقع فيها معظم صناع الدراما، فهم يتعاملون مع أي ملتح باعتباره جهاديا، وبهذا فهم يضعون الإخوان المسلمين والعائدين من ألبانيا وأفغانستان والجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد وجماعات التكفير والهجرة والسلفيين في سلة واحدة، وهذا مناف للحقيقة، بل إن هذه الجماعات المختلفة تنظر للموضوع الواحد من زوايا مختلفة ويكفر بعضها الآخر، وإذا كان هذا ليس وقت المقارنة الفكرية بين أفكار هذه الجماعات إلا أنه من المهم الإشارة إلى تغير موقف بعض الجماعات من الجهاد، فالجماعة الإسلامية التي اشتركت مع تنظيم الجهاد في اغتيال السادات، وقاد قادتها التاريخيين أحداث أسيوط 1981، والتي هدفت إلى انقلاب على الحكم والسيطرة على مديرية الأمن هناك، تغير موقفها بالكلية، بعد مراجعاتها الفكرية، بداية من مبادرة وقف العنف التي أعلنتها عام 1997، وقبل أشهر قليلة من مذبحة الأقصر، والتي تبرأت الجماعة منها، (يشير المسلسل إلى أن أبو خليفة شارك في هذه العملية)، بل قام القادة التاريخيون  للجماعة بعد ندوات في السجون لإقناع معتقلي الجماعة بالتحول الفكري ونبذ العنف، فضلا عن إصدارهم عددا من الكتب الفقهية تضمنت مراجعاتهم الفكرية مدللا عليها من الكتاب والسنة. ليس هذا فقط، بل قام أمير جماعة الجهاد السابق، والمعتقل حاليا في سجن العقرب شديد الحراسة، الدكتور فضل (يحمل اسمين آخرين في أدبيات القاعدة هما السيد إمام الشريف، والشيخ عبد القادر عبد العزيز) قام بإصدار مراجعات فكرية، قبل خمسة أعوام، تراجع فيها عن فتاواه السابقة بخصوص الجهاد،(وثيقة ترشيد الجهاد في مصر والعالم، وهي مراجعات كتبها عام 2007، التعرية لكتاب التبرئة، وهو كتاب رد فيه على الظواهري في رده على وثيقة ترشيد الجهاد) ومن المهم الإشارة هنا إلى أن أدبيات جماعة الجهاد تكشف أنه كان على خلاف بينه وبين الدكتور أيمن الظواهري على الإمارة.
هذا الخلفية التاريخية البسيطة تبدو مهمة لفهم بعض التفاصيل التي يقدمها المسلسل، خاصة أن إحدى الشخصيات التي يقدمها، وهي أمير الجماعة المسجون (قام بدوره الفنان سناء شافع)، والتي تبدو متماسة مع شخصية الدكتور فضل في بعض الأحيان، حيث تصدر التعليمات للقابعين هناك في جبال تورا بورا، أو مع إحدى الشخصيات العام كما تبين التواصل السريع بين تنظيم القاعدة، والمعتقلين في مصر، وهو ما يكشف بدوره عن عجز الأجهزة الأمنية؟
قسم زعيم القاعدة الراحل الشيخ أسامة بن لادن، عقب أحداث سبتمبر 2011، العالم إلى فسطاطين، فسطاط الإيمان وفسطاط الكفر، على حد تعبيره، ويبدو هي الطريقة التي اتبعها مسلسل باب الخلق، حيث جاءت معظم الشخصيات حادة الانحياز، ما عدا شخصية الأمير أبو عبد الله، التي استطاع الفنان محمود عبد العزيز رسم ملامحها ببراعة، والتي تقدم عددا من التناقضات ما بين تحوله من جهادي سابق إلى نجم فضائيات، ومطارد من تنظيم القاعدة، أيضا شخصية محامي الجماعات الإسلامية (الفنان عزت أبو عوف)، الذي يلعب على كل الأحبال، وهو نموذج معروف لعدد من المحامين الذين أداروا هذه الملفات في مصر السنوات الماضية، ومن المهم هنا الإشارة إلى الجهد الذي بذله المخرج عادل أديب لتقديم صورة مختلفة للدراما المصرية، واستخدام تقنيات جديدة في المونتاج وفصل الألوان وتحريك الكاميرات، فضلا عن اللمسة الكوميدية التي تغلف بوليسية الأحداث.
وعلى الرغم من حالة التقليدية التي قدمها المسلسل في بناء بعض الشخصيات، إلا أنه من الواجب الإشارة إلى أنها المرة الأولى التي يقدم فيها رصد لما تقوم به بعض الجماعات الجهادية داخل الحدود المصرية، حتى لو شاب تقديمها بعض الأخطاء، كما أنه قدم أيضا تداخل عوالم المال والسياسة والإعلام والحزب الحاكم واستخدام الجماعات الجهادية في تنفيذ المصالح السياسية.
ــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في أخبار الأدب

06‏/08‏/2012

حلمي سالم.. آخر الخوارج

"لماذا لم أكتب شعرا عن أمل دنقل؟"، يطرح الشاعر الراحل حلمي سالم هذا السؤال على نفسه، إثناء تحضيره كتاب "عم صباحا أيها الصقر المجنح" الذي صدر عن المجلس الأعلى للثقافة محتويا علي القصائد التي كتبها الشعراء في رثاء أمل دنقل بعد رحيله الأليم في مايو 1983، ثم يجيب بأن السبب هو خوفه من "السرطان" الذي انتشر في الهواء، والذي أخذ منه مجموعة من أعز الناس جعله يجفل من رثاء دنقل، حتى لا يكون في مواجهة مباشرة مع السرطان.
ما خاف منه سالم تحقق، فالحذر لا يمنع القدر، حيث رحل مريضا بالسرطان أيضا، سرطان الرئة. لكن ما يجمع دنقل وسالم ليس المرض فقط، ولا أن كليهما كتب ديوانا عن تلك التجربة، حيث كتب دنقل "أوراق الغرفة 8"، وكتب سالم "معجزة التنفس"، بل أن كلاهما يدخلان في جوقة الشعراء الخوارج، والمقاتلين، وأصحاب القضية.
يرفض الكثيرون من النقاد وجود الأيديولوجيا في الأدب، ويرى آخرون أن الانخراط في العمل السياسي التنظيمي قد يضر المبدع، غير أن حلمي سالم، استطاع أن يحطم هذه التابوهات التي وضعها النقاد، ليكتب قصيدته، التي تعبر عن موقفه الأيديولوجي، التي يتخلى فيها عن خطابة السياسي، ويتمسك فقط بموقف المبدع الذي يرى العالم يتعرض للتشويه، فيحاول تجميله بقصيدة.
بالنسبة لي، أؤمن أنه لا فن بلا أيديولوجيا، وأعتقد أن حلمي سالم واحد من أولئك الذين  يعبرون عن سلامة هذا الاعتقاد عندي، حيث استطاع الحفاظ على ذلك الخط الرفيع ما بين الاثنين، وهو يتنقل ما بين حصار بيروت أوائل الثمانينيات حين انضم إلى المقاومة الفلسطينة هناك، أو في غرفته الزجاجية في حزب التجمع، مدافعا عن يساريته، ليحافظ  في هذا كله، على شاعرية طازجة مختلفة، وموقف سياسي واضح، من ديوان إلى الآخر، بل فعل ما وصف به دنقل في مقال له من أنه يقيم تضافرا مركبا بين الموقف الفكري والتشكيل الجمالي.
حلمي سالم هو شاعر التفاصيل الصغيرة، شاعر الاحتفاء بالحياة، وتدوينها، في فقه اللذة، والواحد الواحدة، ومدائح جلطة المخ، والشاعر والشيخ، وسيرة بيروت، وهو في كل هذا يجمع بين الأيديولوجي والشاعر، يلتقط الفن من كل تفاصيل الحياة، من الحب والسجن والمرض، ويصوغه شعرا هو المدهش، الذي يحافظ على صوره طازجة حتى السطر الأخير، سواء كان يكتب قصيدته التفعيلية أو النثرية.
حلمي سالم واحد ممن صنعوا شعرية جيل السبعينيات المختلفة عما قبلها وما بعدها، مع رفاق دربه جمال القصاص، وعبد المنعم رمضان ومحمد سليمان، وحسن طلب، وغيرهم، ليظل هذا الجيل محصورا طوال سنوات بين دورين "الظالم والمظلوم". البعض يراه ظالما لأنه نقل الشعرية بعيدا عن المتلقي العادي، مع أن المتلقي العادي لا يقرأ الشعر منذ عقود طويلة، ومظلوما لأنه ابن النكسة التي حاصرته، وابن عصر السادات الذي همش الثقافة، وابن عصر الانفتاح الاقتصادي الذي أعلى آليات السوق على الاهتمام بالصورة الشعرية، والقصيدة التي تصارع التشوه المجتمعي.
لكن حلمي سالم ورفاق دربه، استطاعوا الصمود في وجه هذا، وحافظوا على فرادة قصيدتهم، وتميز نصوصهم،  ليصنعوا، ما يعتبره البعض جيلا شعريا، وما أعتبره مدرسة شعرية، تقوم على الاهتمام بالتجريب والمغامرة، وتكثيف الصورة، والمغايرة.
كان حلمي سالم شاعرا مقاتلا، ليس لأنه ذا موقف أيديولوجي، بل لأنه كان يحب الاشتباك مع الحياة، وينتصر في النهاية بقصيدة أو ديوان جديد، كما فعل في أزمة "شرفة ليلى مراد"، وحاول الانتصار على المرض بديوانين "مدائح جلطة المخ"، وديوانه الأخير "معجزة التنفس".
كان حلمي سالم شاعرا غزير الإنتاج، ربما لأنه كان يرى كل ما حوله شعرا، ويرى أن  الحل في القصيدة، والقصيدة واحدة، فكان يصوغ كل ما يمر به شعرا، ورغم رحيله، إلا أنه سيظل أيقونة خاصة تدل على سلامة ارتباط الشعر بالأيديولوجيا، على أهمية ما قدمته جماعة "إضاءة" للشعرية العربية، على أن الشاعر لا يموت، ومن قال أن الشاعر يموت.
ــــــــــــــــــــــــ
*نشر في أخبار الأدب